الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصمة الأنبياء
إذا كان إرسال الأنبياء إلى البشر لأجل هدايتهم إلى تزكية أنفسهم بما تصلح به أحوالهم فى دنياهم، ويستعدون به الحياة أعلى من هذه الحياة الدنيا فى نشأة أخرى، فلا يتم هذا الغرض ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان هؤلاء الأنبياء أهلا لأن يقتدى بهم فى أعمالهم وسيرتهم، والتزام الشرائع والآداب التى يبلغونها عن ربهم، ومن ثم قال علماؤنا بوجوب عصمة الأنبياء من المعاصى والرذائل، وبالغ بعضهم فيها حتى قالوا بعصمتهم من الذنوب الصغائر كالكبائر قبل النبوة وبعدها، وخصّ بعضهم العصمة من الصغائر بما كان باعثه الخسة والدناءة.
وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمى بعض كبار الأنبياء بكبار الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد.
والنصارى منهم يجعلون معاصى الأنبياء دليلا على عقيدتهم وهى أن المسيح هو المعصوم وحده لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة له، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم غيره؛ لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة وثنية مخالفة لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها.
بيد أنّ كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم المحرفة فى اعتقادنا لا تشهد لهم برمى جميع أنبيائها بالذنوب فضلا عن المعاصى التى هى أشد من الذنوب، فإن يوحنا المعمدان (هو يحيى بن زكريا عليهما السلام لم يوصم بخطيئة قط. بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح فى عصمته، ففي إنجيل لوقا (1: 65 إنه يكون عظيما أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس) وفيه «كانت يد الرب معه» ، وقال المسيح فيه:«متى 11: 11 الحق أقول لكم إنه لم يقم بين المولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان» ، ثم قال فيه:«18 جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان 19 وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون: هو ذا إنسان أكول، وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة» .
بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وإخوته ولم يسمح لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما تراه فى آخر الفصل الثانى عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى. وعبارة لوقا (8: 20 فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك 21 فأجاب وقال لهم أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها)، نعم إن إخوته لم يكونوا يؤمنون به كما هو مصرح به فى موضع آخر، ولكن هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء؟ والله تعالى يوصى بالإحسان بالوالدين حتى المشركين ويفضل أمّ السيد المسيح على نساء العالمين.
وإهانة الأم ذنب فى جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة فى شرب الخمر ذنب حتى فى الشرائع التى لم تحرمها مطلقا، وجاء فى هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه أربعين يوما يجربه ويدعوه إلى عبادته، كما تراه فى أول الفصل الرابع من إنجيل متى. وكذا فى غيره من الأناجيل. ونحن نبرئه من كل ذلك.
وشهدت الأناجيل أيضا بأنّ يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا وأنه عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه اليصابات «وكان كلاهما بارين أمام الله سالكين فى جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لوقا 1: 6) وهذه شهادة بالعصمة التامة.
وهنالك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد منهم أدنى خطيئة، وآدم عند ما ارتكب الخطيئة لم يكن نبيا مرسلا إلى أحد ولا كان معه قوم يسيئون الاقتداء به. وكان قد نسى النهى عن الأكل من الشجرة، وإنما كانت مثلا لاستعداد جنس البشر للمعصية كالطاعة، نسيانا أو عمدا، ولكون المعصية تعالج بالتوبة فيغفرها الله تعالى، وقد كان ابناه قابيل وهابيل مثلا لكل من الاستعدادين، وشهد الكتاب عندهم لهابيل بأنه كان بارا لم يرتكب خطيئة، وهو لم يكن نبيا.
جاء القرآن وهو المهيمن على جميع الكتب الإلهية بما لخصناه من الحق فى مسألة آدم وشهد لمن قص علينا خبرهم من أنبياء الله ورسله أنهم كانوا من الصالحين الذين يقتدى بهم فى البرّ والتقوى، كقوله فى سورتهم: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ [الأنبياء: 73]، وقال فيهم بعد ذكر أشهرهم: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
وأما قوله لخاتمهم ومكمل هدايتهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] إلخ، وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19]، فالذنب فيه جاء على أصل معناه اللغوى المشتق من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة ضارة أو منافية للمصلحة، أو لما هو أولى وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد فى الرأى المباح شرعا كإذن النبى صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين فى التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ «1» [التوبة: 43]، وإنما المعصية للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم، إذ لو عصوه لكان أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية لأنه أمرهم باتباعهم، وقال تعالى فى نبينا صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21].
(1) تراجع المسألة فى تفسير هذه الآية من الجزء العاشر- تفسير المنار ص 464.