الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين المعجزة والكرامة
إن الله تعالى لم يؤيد رسله بما أيّدهم به من المعجزات إلا لتكون حجة لهم على أقوامهم يهدى بها المستعد للهداية، وتحق بها الكلمة على الجاحدين المعاندين فتقع عليهم العقوبة، وذلك لا يكون إلا بإظهارها، فهو واجب لإتمام تبليغ الدعوة التى أرسلوا لتبليغها. وما كان الأنبياء يدعون الله تعالى بشيء من خوارق العادات غير ما يؤيدهم به من الآيات الدالة على صدقهم فى دعوى الرسالة إلا لضرورة كالاستسقاء.
وكان خاتمهم وأكرمهم على الله تعالى يصبر هو وأهل بيته وأصحابه على المرض والجوع والعطش، ولا يدعو لهم صلى الله عليه وسلم بما يزيل ذلك إلا نادرا. وقد سألته المرأة التى كانت تصرع أن يدعو الله لها بالشفاء فأرشدها إلى أن الصبر على مصيبتها خير لها، فشكت إليه أنها تتكشف عند النوبة وسألته أن يدعو لها ألا تتكشف فدعا لها واستجاب الله دعاءه.
وكان المشركون يقترحون عليه الآيات كآيات موسى وعيسى (ع. م)، فيجيبهم بأمر الله تعالى بما هو صريح فى أن الآيات عند الله وهو القادر عليها دون الرسول، ومنه التعجب من طلبهم بقوله تعالى له: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93]، وقوله وما فى معناها ما حكاه من جواب الرسل الأولين لأقوامهم الذين كانوا يطالبونهم بمثل ذلك بقوله تعالى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [إبراهيم: 11].
والأصل فى الكرامة الإخفاء والكتمان وكثيرا ما يكون ظهورها فتنة للناس.
وما كان أهلها يظهرون ما لهم كسب فيه منها كالمكاشفة إلا لضرورة وقد صرح بهذا محققو العلماء والصوفية، فهو متفق عليه بينهم خلافا للمشهور بين العامة.
قال التاج السبكى فى سياق حجج منكرى جواز وقوع الكرامات من طبقات الشافعية:
وقال فى الجواب: «لأئمتنا وجهان؛ الأول: منع توالى الكرامات واستمرارها حتى تصير فى حكم العوائد، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة فلا يلزم ما ذكروه، والثانى:
وهو لمعظم أئمتنا قالوا: إنه يجوز توالى الكرامات على وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد لئلا تخرج الكرامات عن كونها كرامات» أ. هـ.
وأقول: إن المحققين من الصوفية يوافقون علماء الكلام والأصول على منع توالى الكرامات وتكرارها، ومنع إظهارها.
قال الشيخ محيى الدين بن عربى: إن ما يتكرر لا يكون كرامة لأنه يكون عادة وإنما الكرامة من خوارق العادات.
وقال الشيخ أحمد رفاعى: إنّ الأولياء يستترون من الكرامة كما تستتر المرأة من دم المحيض، وصرحوا بأنها ليست بشرط للولاية ولا دليل عليها.
جهل هذا الأصل المحكم من عقائد الإسلام أدعياء العلم من سدنة القبور والمعبودة وغيرهم، فظنوا أنّ المعجزات والكرامات أمور كسبية كالصناعات العادية، وأن الأنبياء والصالحين يفعلونها باختيارهم فى حياتهم وبعد مماتهم متى شاءوا، ويغرون «1» الناس بإتيان قبورهم ولو بشد الرحال إليها، لدعائهم والاستغاثة بهم عندها ليدفعوا أو يرفعوا عنهم نزول البلاء والشدائد التى يعجزون عن دفعها بكسبهم وكسب أمثالهم من البشر بالأسباب العادية- كالأطباء مثلا- ويتقرّبون إليهم بالنذور والقرابين كما كان المشركون يتقربون إلى
(1) من الإغراء، أى: يحضونهم على ذلك ويرغبونهم فيه.
آلهتهم من الأصنام وغيرها، وهم يأكلونها سحتا حراما، ويخبرونهم بأن دين الله تعالى يأمرهم أن يعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم، حتى قال بعضهم إنهم يخرجون من قبورهم بأجسادهم ويتولون قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ولو كانت كذلك لما كانت من خوارق العادات، وقال بعضهم فى كتاب مطبوع: إن فلانا من الأقطاب يميت ويحيى، ويسعد ويشقى، ويفقر ويغنى. بل قالوا وكتبوا ما هو أبعد من ذلك عن نصوص الكتاب والسنة القطعية المحكمة، والعقائد المجمع عليها المعلومة من الدين
بالضرورة فى الأصل، وما كان عليه مسلمو القرون الأولى، فصارت بانتشار الخرافات والجهل من الكرامات. التى تؤوّل وتحرف لأجلها الآيات المحكمات. وقد فصّلنا هذا فى تفسير المنار مرارا ونجمله فيما يأتى: