الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب
القرآن كتاب هداية فعلية، لا كتاب فنّ وعلم نظرى، فهو يرشد متدبّره والمتفقه فيه إلى داعيتى الحق والخير، والباطل والشر من نفسه، وإلى طريق تزكيتها بمحاسبتها على أعمالها، لتغليب الحق والخير على ضدهما، وتجد هذا التهذيب والتثقيف فيه يدور على أمرين فطريين لا يتوقف فهمهما على فلسفة أرسطو ولا ابن سينا. وهو مجاهدة النفس بالتخلى عن اتباع الهوى، والتحلى بفضيلة التقوى، وقد تكرر فيه ذم اتباع الهوى والنهى عنه، وتعليله بأنه يصد متبعه عن الحق والعدل فى زهاء ثلاثين آية، وتكرر ذكر التقوى والمتقين فى زهاء مائتى آية أو أكثر، واكتفى هنا بذكر آية واحدة فى كل منهما.
قال الله تعالى فى عبادة الهوى بعد أن ذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه أتى بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، وفضّلهم على عالمى زمانهم، وآتاهم بينات من الأمر-
أمر التشريع- فاختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ثم ذكر له أنه جعله على شريعة من الأمر، وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وهم المشركون الذين لا شريعة لهم، وأعلمه أن الظالمين من الذين تفرّقوا بعد العلم فكان ضارا بهم ومن الذين لا يعلمون بعضهم أولياء بعض، والله ولى المتقين دون كل منهم، وأن هذا القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون، وأنه تعالى لم يجعل الذين اجترحوا السيئات، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا فى المحيا ولا فى الممات، وأنه خلق السماوات والأرض بالحقّ ولتجزى كل نفس بما كسبت، لا كما يزعم المشركون من تركهم سدى، ولا كما يدّعى أهل الكتاب من كونه تعالى يحابى بعض الشعوب وبعض الناس بأنسابهم؛ أو لأجل من يفديهم ويشفع لهم.
قال الله تعالى بعض آيات فى هذه المعانى:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23]، وفى معناها من سورة الفرقان:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 43، 44].
وقال تعالى فى ثمرة التقوى للمؤمنين بعد عدة وصايا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]، وقد قلت فى تفسير هذه الآية من جزء التفسير التاسع ما مختصره.
هذه الآية آخر وصايا المؤمنين فى هذا السياق وهى أعمّها، والأصل الجامع لها ولغيرها وكلمة «الفرقان» فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى فى مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هى الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق، ومعناها فى أصل اللغة:
الفصل بين الشيئين أو الأشياء، والمراد بالفرقان هنا: العلم الصحيح والحكم الحقّ فيها، ولذلك فسروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور فى العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلى الذى يميز الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمركبات، والنسب بين أجزاء المركبات، من الحسيات والمعنويات، ويبين كل شىء من ذلك، ويعطيه حقه الذى يكون به ممتازا من غيره، وإيراد الأمثلة على ذلك يطول (وقد ذكرنا نموذجا منها فى التفسير).
فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] معناه إن تتقوا الله فى كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرّقون بها بين الحق والباطل، وتفصّلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتميزون بين الحجة والشبهة. وقد روى عن بعض مفسرى السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذى يفرق بين الحق والباطل وهو عين ما فصّلناه من الفرقان العلمى الحكمى، وعن بعضهم تفسيره بالبصر يفرق بين المحق والمبطل بما يعز المؤمن ويذل الكافر، وبالنجاة من الشدائد فى الدنيا ومن العذاب فى الآخرة، وهذا من الفرقان العملى الذى هو ثمرة الفرقان العلمى. ذكر كل منهم ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك، ولم يقصد تحليل المدلول اللغوى، ولا المعنى الكلى الذى هو ثمرة التقوى بأنواعها. وهذا النور فى العلم الذى لا يصل إليه إلا بالتقوى هو الحكمة.
أمر الله تعالى فى مواضع كثيرة من كتابه باتقائه، وباتقاء النار، وباتقاء الشرك والمعاصى، وباتقاء الفتن العامة فى الدول والأمم، وتقدم فى وصايا هذا السياق. وباتقاء الفشل والخذلان فى الحرب، وباتقاء ظلم النساء، وبيّن أن العاقبة فى إرث الأرض للمتقين
كما أن الجنة فى الآخرة للمتقين؛ قال تعالى فى سورة الطلاق: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5]، وأمثال ذلك فى التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير.
فمعنى التقوى العام: اتقاء كل ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه الإنسانى القريب والبعيد، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن. ولذلك قال العلماء: إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصى وفعل ما يستطاع من الطاعات، وزدنا على ذلك: اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى فى الكون، كالنصر على الأعداء وجعل كلمة الله هى العليا فى الأرض، كما هى فى الواقع ونفس الأمر، وكلمة الذين كفروا السفل كذلك، وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسّنّة، وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى فى الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه فى آيات من كتابه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التى يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التى تعرض له من علم وحكم وعمل، فيفصل فيها بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وبين ما ينبغى فعله وما يجب تركه. وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى، كالفتن فى السياسة والرئاسة والحلال والحرام والعدل والظلم، فكل متق لله فى شىء يؤتيه فرقانا فيه.
وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم فى الأرض حتى فى عهد الفتح، قال بعض حكماء الإفرنج «1»: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرئاسة لقلة خبرتهم. فعوقبوا عليها بتفرقهم وضعفهم وزوال ملكهم، وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة، وحرمانهم من فرقانها، فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم، مع جهل هذا الفرقان المبين، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس، المؤهلة لها للإصلاح فى الأرض، بل مع انغماسهم فى السكر والفواحش، لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا فى دنياهم بفسّاقهم
وفجّارهم، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع.
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هذا عطف على يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً، أى:
ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم فتزول منها داعية
(1) هو الدكتور «غوستاف لوبون» ؛ صاحب كتاب حضارة العرب والإسلام وغيره من المصنفات.