المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

افتتح الحافظ البخارى هذا الباب، بل الكتاب كله بروايته لحديث:«إنما الأعمال بالنيات» ثم قال:

حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن الحارث بن هشام رضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى «1» ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس «2» وهو أشده علىّ، فيفصم «3» عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا «4» فيكلمنى فأعي ما يقول، قالت عائشة رضى الله عنها:

(1) للوحى معنى عام يطلق على صور من الإعلام الخفى الخاص الموافق لوضع اللغة منها: الرؤيا الصادقة، والنفث فى الروع، والإلهام، وإلقاء الملك، وله معنى خاص هو أحد الأقسام الثلاثة للتكليم الإلهى الوارد فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]، وهذا الحديث فيه وصف القسم الأول وذكر الثالث، وأما الثانى وهو الكلام الإلهى من وراء حجاب بدون وساطة، فقد ثبت للنبى صلى الله عليه وسلم فى ليلة الإسراء والمعراج ولموسى عليه الصلاة والسلام، وغير هذه الثلاثة من الوحى العام لا يعد من كلام الله تعالى التشريعى، والرؤيا الصادقة والإلهام ما وقع ويقع لغير الأنبياء.

(2)

المراد من التشبيه: أنه صوت كصلصلة الحديد المتصلة المتداركة التى تسمع من الجلاجل ونحوها ليس بكلام مؤلف من الحروف، والأقرب أن سببه وجود الملائكة وإن لم ير أحدا منهم فى حال سماعه. وكانت هذه الحالة أشد الحالتين عليه، لأنهما كما قال الحكيم ابن خلدون: انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالملكية الروحانية، والحالة الأخرى عكسها، لأنها انتقال الملك من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية.

(3)

يفصم- على وزن يضرب: ينفك وينجلى.

(4)

أى يظهر بصفة رجل ومثاله: وذلك أن الملك روح عاقل مريد له قوة التصرف فى المادة فهو يأخذ من مادة الكون الصورة التى يريدها، وأن علم الكيمياء فى هذا العصر يقرب إلى التصور هذا التصور بما ثبت فيه من تحول مادة من الكثافة إلى الطاقة وما بينهما بقوة الحرارة وأقواها الحرارة الكهربائية، والملك يتصرف فى الكهربائية كما يشاء. وقد شرحنا هذا المعنى فى تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143]، راجع ص 162 - 167 ج 9 تفسير.

ص: 76

(ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا «1»).

حدّثنا يحيى بن بكير، قال حدّثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم «2» ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه «3» - وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق «4» وهو فى غار حراء فجاءه الملك فقال:«أقرأ، قال: ما أنا بقارئ «5» ، قال: فأخذنى فغطّنى «6» حتى بلغ منّى

(1) كان من هذه الشدة عليه ما قاله العلامة ابن القيم فى زاد المعاد: حتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها أ. هـ.

(2)

أكثر الرؤى أضغاث أحلام لها أسباب تثيرها فى خيال النائم، والرؤيا الصالحة نوع من انكشاف الحقائق للنفس المستعدة لإدراكها بما يكون وقت النوم من صفائها بعد اشتغالها بمدركات الحواس وما تثيرها من الخواطر والأفكار، ورؤيا الأنبياء قبل وحى التشريع تمهيد وتأنيس للنفس تقوى استعدادها لتلقى الكلام الإلهى.

(3)

أصل التحنث؛ اتقاء الحنث أى الذنب، أو مقلوب التحنف وهو اتباع الحنيفية ملة إبراهيم، وهو رواية ابن هشام. وقوله: وهو التعبد، جملة تفسيرية لراوى الحديث وهو ابن شهاب الزهرى فهو مدرج فى الحديث، والليالى ظرف متعلق بيتحنث.

(4)

وفى رواية «فجاءه الحق» ؛ أى بغته ولم يكن ينتظره، والمراد به الوحى الصريح الذى هو كلام الله تعالى، وهذه الرواية الثابتة فى الصحيحين صريحة فى أن هذا كان فى اليقظة، وفى سيرة ابن

هشام عن ابن إسحاق أن جبريل جاءه فى المنام، وهى من مراسيل عبيد بن عمير وهو ثقة وله صحبة، ولكن رواية الصحيحين المسندة المرفوعة هى المعتمدة وجمع بعضهم بين الروايتين بأنه رآه أولا فى المنام فاستقرأه ثم رآه فى اليقظة، ولو وقع هذا فى المنام لزال خوفه ورعبه صلى الله عليه وسلم بعد اليقظة ولم يذهب إلى خديجة يرجف فؤاده.

(5)

الظاهر: أن الأمر بالقراءة أمر تكوين لا تكليف- أى كن قارئا- ولذلك قال له فى الثالثة: (اقرأ باسم ربك) أى كن قارئا باسمه ومن قبله وبأقداره إياك على القراءة، لا بحولك وقوتك، فهو يعلم أنك أمى لا يتعلق كسبك واستطاعتك بالقراءة، أما وقد شاء ربك- الذى خلق- خلق الإنسان من علق، وهو الحيوان المنوى أو أول ما تتحول إليه نطفة الزوجية بعد العلوق، فجعله بشرا سويا ويبصر ويعقل- أن يجعلك قارئا لما يوحيه إليك لتقرأه على الناس فأنت تكون قارئا.

(6)

فسروا الغط بالضم الشديد الضاغط فقالوا: أى ضمنى وعصرنى، وفى رواية الطبرى للحديث: «وأصل معناهما الغمس فى الماء وضيق النفس، وفسره بعضهم بالخنق وهو مبالغة لا تليق هنا. وحكمة هذا الغط تقوية روحانية النبى صلى الله عليه وسلم حتى يقوى على الاتصال بالملك والفهم منه.

ص: 77

الجهد، ثم أرسلنى فقال: أقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثانية، حتى بلغ منّى الجهد، ثم أرسلنى فقال: أقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثالثة. ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «1» [العلق: 1 - 3]»، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال:«زمّلونى زمّلونى» فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:«لقد خشيت على نفسى «2» » فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا «3» إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به- خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب «4» ، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن

(1) اختصره هنا وزاد فى التفسير الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.

(2)

اختلف العلماء فى خوفه صلى الله عليه وسلم على نفسه فقيل: خشى الجنون، وأن يكون ما رآه من الجن. وقد أنكره ورده القاضى أبو بكر بن العربى، ووافقه الحافظ حجر ولكن الحافظ قال: إنه روى من عدة طرق (أقول) وهو الظاهر مما أجابته به خديجة. واستشكل بأن الوحى يكون مقترنا بعلم قطعى بأنه من الله وأن الملقن له من الملائكة، وأجيب بأن هذا العلم الضرورى يحصل باستعراف الملك له وإعلامه إياه بذلك عند تلقينه الأمر بالتبليغ، وإنما كان ظهور الملك له هذه المرة لأجل الإيناس والإعداد لتلقى وحى الأحكام، والأمر فيه بالقراءة للتكوين لا للتكليف، وإلا كان من تكليف ما لا يطاق. وقيل: إنه خاف على نفسه الموت أو الهلاك وهو قريب، ثم أقوال أخرى متكلفة. وهو على كل حال يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الرؤيا أنه صار نبيا، ولا أن الذى رآه هو ملك الوحى جبريل عليه السلام، ويؤيد ذلك مسألة ورقة.

(3)

الخزى: اسم معناه الذل والهوان. وأخزاه أذله وأهانه. والكل: (بفتح الكاف) المتعب، ومن هو عالة على غيره، وحمله: إعطاؤه راحلة يركبها أو حمل أثقاله، وتكسب بفتح التاء، وضمها لغة ورواية، والمعدوم المفقود (قيل) ولا يظهر معناه إلا بتكلف وقال الخطابى: الصواب المعدم وهو الفقير الفاقد لما يكفيه أ. هـ.

لكن الرواية «المعدوم» وهو وصف لمحذوف، وتكسب الثلاثى من الكسب يتعدى بنفسه إلى مفعولين حذف أولهما، والمعنى: وتجعل المحتاج العاجز عن الكسب كاسبا للشيء المعدوم الذى يفقده ببذله له أو بمساعدته على كسبه، والإعانة على نوائب الحق كلمة جامعة لكل أعمال البر والنجدة والمروءة فيما عدا الباطل. وما رغب خديجة فى التزوج به صلى الله عليه وسلم إلا هذه الفضائل التى أحاطت بها خبرا بمعاشرته الزوجية؛ ولذلك عد بعض علماء الإفرنج إيمانها به أصح شهادة له.

(4)

وفى رواية البخارى فى كتاب التفسير من صحيحه: يكتب من الإنجيل بالعربية، وفى معناها رواية

ص: 78

عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخى ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس «1» الذى نزّل الله على موسى، ليتنى فيها جذعا «2» ، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أو مخرجى هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن لم يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب «3» ورقة أن توفى وفتر الوحى «4» .

قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال وهو يحدث عن فترة الوحى فقال فى حديثه: «بينما أنا ماش إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت زملونى فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 1 - 5]، فحمى الوحى وتتابع «5» أ. هـ.

مسلم: فكان يكتب الكتاب العربى. ولا تنافى بين الروايات إذ كان يعرف اللغتين. وورقة ابن عم خديجة، وأما قولها له: اسمع من ابن أخيك فهو من باب التوقير لسنه واستعطاف الرحم. وكذا قوله للنبى صلى الله عليه وسلم يا ابن أخى، وما زال يستعمل فى خطاب أولاد الأقرباء والأصدقاء.

(1)

الناموس: فى اللغة صاحب السر، والمراد بن أمين الوحى جبريل، وقوله:«نزل الله على موسى» ولم يقل وعيسى؛ لأن الشبه بين الوحى إلى موسى ومحمد عليهما السلام أتم؛ لأن كلا منهما أوتى شريعة تامة مستقلة فى عباداتها ومعاملاتها وسياستها وقوتها العسكرية، وعيسى عليه السلام كان تابعا لشريعة التوراة وناسخا لبعض الأحكام التى يقتضيها الإصلاح ومبشرا بالنبى الذى يأتى من بعده بالشرع الكامل العام الدائم وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، وفى بعض الروايات الضعيفة: أن ورقة قال: «ناموس عيسى» ، وفى رواية أخرى حسنة الإسناد فى دلائل النبوة لأبى نعى: أن خديجة جاءت ورقة وحدها أولا فذكرت له الخبر فقال لها: إن كنت صدقتنى إنه ليأتيه ناموس عيسى الذى لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم أ. هـ. والناموس واحد على كل حال. ولكن رواية الصحيحين: «فانطلقت به» تدل على التعقيب أى أنها ذهبت به عقب تحديثها بما رأى وعليها المعول، وما خالفها مرسل مروى بالمعنى الذى فهمه عبيد بن عمير ومن دونه.

(2)

قوله: ليتنى فيها جذعا: الجذع بفتحتين خلاف المسن من البهائم واشتهرت استعارته للشاب من الناس. والإخراج: النفى من الوطن.

(3)

لم ينشب- بفتح الشين المعجمة- أى: لم يلبث بعد هذا أن توفى ولم ينل ما يتمناه من إدراك زمن تبليغ الرسالة لينصر النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن فى سيرة ابن إسحاق وتبعه غيره أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، ومقتضاه أنه أدراك زمن البعثة واضطهاد المشركين للمؤمنين. والمعتمد ما فى الصحيح من أنه توفى عقب هذا الحديث بقليل.

(4)

فتر الوحى: انقطع مؤقتا ليعود- وكانت فترة الوحى ثلاث سنين- وهى ما بين بدئه بأمر جبريل له بالقراءة وبين نزول أول سورة المدثر التى أمر فيها بإنذار الناس.

(5)

أى اتصلت مدة التبليغ كلها وهى عشرون سنة ولكنه كان نجوما متفرقة حسب الحاجة، فتارة تنزل

ص: 79

وأقول: أخرج البخارى حديث جابر فى تفسير سورة المدثر من طرق فى بعضها: أن أولها هو أول ما أنزل مطلقا وفى البعض الآخر أنها من حديث النبى صلى الله عليه وسلم عن فترة الوحى كالتى هنا، وقد عبّر صلى الله عليه وسلم عن رعبه من رؤية الملك بقوله:(فجئثت منه رعبا) وفى رواية أخرى: (فجئثت منه حتى وهيت إلى الأرض)، أى فزعت وخفت وهو بضم الجيم وكسر الهمزة بالبناء للمفعول.

هذا هو المعتمد عند المحدثين فى أول ما نزل من القرآن، والمشهور أنه نزل بعد أول المدثر سورة المزمل تامة وبعدها بقية سورة المدثر؛ وقال مجاهد: أول ما نزل سورة (ن والقلم) وهو غلط، وروى عن علىّ كرم الله وجهه أن أول ما نزل سورة الفاتحة واعتمده شيخنا فى توجيه كونها فاتحة الكتاب، ويمكن أن يراد أنها أول سورة تامة نزلت بعد بدء الوحى بالتمهيد التكوينى، ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالى، وتلاها فرض الصلاة ونزول سورة المزمّل أو نزلتا فى وقت واحد.

وسيأتى كلام آخر فى فترة الوحى وأول ما نزل بعده.

السورة دفعة واحدة- وتارة تنزل الآيات المتفرقة، وقد يكون بين ذلك فترات قصيرة، كالذى ورد فى سبب نزول سورة الضحى. وقد اختلط الأمر فى هذا على درمنغام فظن أنها هى التى نزلت بعد فترة الوحى، والمروى أنه نزل قبلها بضع سور. وكان سبب نزولها كما فى الصحيحين من حديث جندب بن سفيان أن النبى صلى الله عليه وسلم اشتكى (أى وجع) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا (أى إلى تهجده وتلاوته) فقالت: امرأة: يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله عز وجل:

وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 1 - 3] أ. هـ. تقرأ «ودعك» بالتشديد والتخفيف ومعناهما واحد وهو الترك، والقلى بالكسر والقصر: البغض، أى ما تركك ربك وما أبغضك، وهذه المرأة أم جميل امرأة أبى لهب وبنت أبى سفيان كما رواه الحاكم عن زيد بن أرقم، وكان هذا بعد نزول سورة (تبت يدا أبى لهب)، وروى ابن جرير من طريقين مرسلين أن جبريل أبطأ على النبى صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا، فقالت خديجة: إنى أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت- ومعارضة رواية الصحيحة بهاته الرواية المرسلة تسقط اعتبارها، وإن جمع الحافظ بن حجر بينهما بأن خديجة قالت ما قالت توجعا، وحمالة الحطب قالته شماتة.

ص: 80