الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل
(فإن قيل) إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزى فى الفطرة البشرية كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى فى روع أفرادها عند نمو إدراكهم، وأن بعض الحكماء المفكرين قد ارتقوا فى معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرر بعضهم بقاء النفس بعد الموت وخلودها فى نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول الفضائل والتشريع والآداب التى تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع.
(قلت) نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضى، ويشهده العصر الحاضر. ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقا فى مصدر كل منهما، وفى الثقة بصحته، وفى الإذعان لحقيته، وفى تأثيره فى أنفس جميع طبقات المخاطبين.
فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول، وهى عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحّتها يرجّحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشرى يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله فى بشريته وإن فاقه فى علمه وحكمته، وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانا غيبيا عليه بما يملكه من القدوة على النفع والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون ونظامه.
واضرب لهذا مثلا: إنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه وهو فى رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبّخه، فاتفق أن كانا فى مدينة أصفهان فى ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس خادمه فى وقت السّحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل، ثم أيقظه الرئيس فى وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد، حتى قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس لخادمه:
اسمع ماذا يقول المؤذن؟ قال: إنه يقول أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد
آن لى أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمى لا عمل لك غير خدمتى، وإنك أشدّ الناس إعجابا بى وإجلالا وتعظيما لى؟ حتى إنك تفضلنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنكر علىّ أن أؤمن به وأتبعه، وأنك على هذا تخالف أمرى فى أهون خدمة أطلبها منك فى داخل الدار معتذرا بشدة البرد، وإن هذا المؤذن الفارسى يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة وهى أشد مكان فى البلد بردا، حتى إذا لاح له الفجر أشاد فى أذنه بذكر محمد العربى بعد مرور أربعة قرون ونيف على بعثته، إيمانا وإذعانا وتعبدا واحتسابا. فتأمل هذا وتدبره فى نفسك يظهر لك الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة.
فمن أعظم مزايا هداية الوحى الدينية على العلمية الكسبية أن جميع طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسى التعبدى، فبذلك تكون عامة ثابتة لا مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحا والإيمان بها راسخا، ولذلك نرى الشعوب التى ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة فى هذا العصر، وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله فى عصر آخر، وهم لا يذعنون فى أنفسهم لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأى عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مخترع خبير، بل صاروا إلى فوضى فى الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال والأعراض وكذا الدماء لم يعهد لها فى البشر نظير. صارت بها الأمم والدول عرضة لفتنة فى الأرض وفساد كبير.
أكثر البشر المؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفين بالتعليم العصرى يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا فى جهال المتبعين لتقاليد الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هى من أديانهم فى شىء. بل هى هادمة لأساسها الأعظم وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة الأنبياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها وصار أكثر البشر إما مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإمّا كافرين بهم منكرين أن الدين وحى من الله تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام.
إن الدين الذى ينتمى إليه أكثر شعوب الحضارة فى هذا العصر هو النصرانية، وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، ولكنه لم يبق له سلطان روحى إلا فى قلوب النساء والعوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا الفصل بأن
زعماء الشعب الألمانى وهو أرقى شعوب الأرض علما وفنا وحضارة قد ثار على هذا الدين ثورة جديدة يريد بها هدم أساسه من كتب العهد القديم، وتنقيح تعاليم العهد الجديد وجعل ما يبقون منه وطنيا ألمانيا خاصا بالجنس الآرى الهندى الفارسى الأصل والبراءة من كل ما هو سام منه، وما أنبياؤهم ورسلهم ومسيحهم ومعبودهم إلا من الساميين. بل يريدون تقديس شهداء الحرب وعظماء أسلافهم الألمانيين، وإنّ هذه إلا وثنية كوثنية اليابانيين. تذكى سعير العداوة بينهم وبين سائر الأوروبيين.
فلا سبيل إلى إنقاذ البشر فى هذا العصر إلا إثبات الوحى المحمدى الموحّد لإنسانيتهم، المزكى لأنفسهم، والمكمّل لفطرتهم. الذى فيه السعادة الدنيوية والأخروية لهم فى جملتهم، وقد بينا فى هذا الكتاب أنّ محمدا رسول الله وخاتم النبيين. وهو المرسل إلى كافة الناس رحمة للعالمين، وأنه هو الذى أكمل الله به الدين، وأزال العصبيات الجنسيّة والوطنيّة.
لتوحيد الأخوة الإنسانية، فاتباعه هو الترياق المجرّب لهذه السموم الروحية الاجتماعية القاتلة. راجين أن يفتح الله تعالى به أبواب الهدى لكل من يعقله ويتدبره من مستقلى الفكر، وطالبى معرفة الحق، وإصلاح الخلق المعنيين بقول الله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)[المائدة: 15، 16].
***
الفصل الثانى فى إقامة الحجة على مثبتى الوحى المطلق فى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
إن من اطّلع على الكتب المقدسة عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى المعبر عنها بكتب العهدين القديم والجديد، وعلى القرآن وكتب السنة والسيرة المحمدية- من أحرار الفكر ومستقلى العقل- علم علما وجدانيّا أنه لا يستطيع أحد أن يؤمن إيمانا علميا بأن تلك الكتب وحى من الله، وأن الذين كتبوها أنبياء معصومون فيما كتبوه ثم لا يؤمن بأن القرآن وحى من الله، وأن محمدا نبىّ معصوم فيما بلغه عن الله تعالى. كما لا يستطيع فقيه أن ينكر فقه أبى حنيفة والشافعى، ولا نحوى أن يجحد نحو سيبويه وابن جنّى، ولا شاعر أن ينفى شاعرية الرضى والبحترى، وقل مثل ذلك فى الطبيب والفيلسوف والرياضى والفلكى- كل منهم مع أئمة علمه، وفى كلّ إنسان صحيح الحواس فى المدركات الحسية، فالبصير لا يستطيع أن يكابر حسه فيفضل نور القمر والكواكب على ضوء الشمس، أن نور السراج على نور النهار، ولله در البوصيرى حيث قال:
الله أكبر إنّ دين محمد
…
وكتابه أقوى وأقوم قيل
لا تذكروا الكتب السوالف عنده
…
طلع الصباح فأطفأ القنديلا
قد صرح بهذا المعنى علماء الإفرنج الذين نشئوا فى النصرانية، وأحاطوا بها علما وخبرا، ثم عرفوا الإسلام معرفة صحيحة ولو غير تامة.
كتب الأستاذ أدوار مونتيه المستشرق مدرس اللغات الشرقية فى مدرسة جنيف الجامعة فى مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن ما ترجمته بالعربية:
فهذا العالم الأوروبى المستقل الفكر يقول: إن كل ما كان به أنبياء بنى إسرائيل أنبياء كان ثابتا لمحمد، ونحن نقول: إنّ جميع خصائص النبوة التى كانت فيه هى أكمل شكلا وموضوعا وأصح رواية وأبعد عن الشبهات كما سنوضحه، وأما ما فسر به هذه الخصائص فهو التعليل الذى يعلل به الماديون الوحى المطلق، وسنتكلم عليه فى الفصل الثالث.
ولخص هذا العالم خبير نزول الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم من كتب إسلامية مذعنا لصحة روايتها، وفصّلها بعده العالم المستشرق الفرنسى أميل درمنغام «1» فى كتابه (حياة محمد) مذعنا لصحة الرواية ولموضوعها. شارحا لتأثير نبوته فى إصلاح البشر متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى، آسفا للشقاق بينهم.
وإننا ننقل هنا تعريف الوحى والنبوّة والآيات (العجائب) عن أحد علماء الإفرنج الجامعين بين العلوم العصرية والدينية والتواريخ، وهو الدكتور «جورج بوست» الشهير مؤلف كتاب (وقاموس الكتاب المقدس) بالعربية ليبنى عليها الباحث المستقلّ العقل حكمه فى نبوة أنبياء بنى إسرائيل ووحيهم، ونبوة محمد رسول الله وخاتم النبيين، والوحى الذى أنزل عليه.
(1) يكتب هذا الاسم فى مجلة السياسة (درمنجيم)، بالجيم المصرية حيث ينشر فيها كتابه (حياة محمد) مترجما بالعربية، وإنما اخترنا كتابته بالغين لكتاب جاءنا من المؤلف بالعربية، كتب فيه إمضاءه (إميل درمنغام) ونشرناه فى الجزء الأول من مجلد المنار الثلاثين.