المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

(فإن قيل) إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزى فى الفطرة البشرية كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى فى روع أفرادها عند نمو إدراكهم، وأن بعض الحكماء المفكرين قد ارتقوا فى معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرر بعضهم بقاء النفس بعد الموت وخلودها فى نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول الفضائل والتشريع والآداب التى تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع.

(قلت) نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضى، ويشهده العصر الحاضر. ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقا فى مصدر كل منهما، وفى الثقة بصحته، وفى الإذعان لحقيته، وفى تأثيره فى أنفس جميع طبقات المخاطبين.

فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول، وهى عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحّتها يرجّحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشرى يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله فى بشريته وإن فاقه فى علمه وحكمته، وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانا غيبيا عليه بما يملكه من القدوة على النفع والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون ونظامه.

واضرب لهذا مثلا: إنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه وهو فى رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبّخه، فاتفق أن كانا فى مدينة أصفهان فى ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس خادمه فى وقت السّحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل، ثم أيقظه الرئيس فى وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد، حتى قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس لخادمه:

اسمع ماذا يقول المؤذن؟ قال: إنه يقول أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد

ص: 34

آن لى أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمى لا عمل لك غير خدمتى، وإنك أشدّ الناس إعجابا بى وإجلالا وتعظيما لى؟ حتى إنك تفضلنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنكر علىّ أن أؤمن به وأتبعه، وأنك على هذا تخالف أمرى فى أهون خدمة أطلبها منك فى داخل الدار معتذرا بشدة البرد، وإن هذا المؤذن الفارسى يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة وهى أشد مكان فى البلد بردا، حتى إذا لاح له الفجر أشاد فى أذنه بذكر محمد العربى بعد مرور أربعة قرون ونيف على بعثته، إيمانا وإذعانا وتعبدا واحتسابا. فتأمل هذا وتدبره فى نفسك يظهر لك الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة.

فمن أعظم مزايا هداية الوحى الدينية على العلمية الكسبية أن جميع طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسى التعبدى، فبذلك تكون عامة ثابتة لا مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحا والإيمان بها راسخا، ولذلك نرى الشعوب التى ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة فى هذا العصر، وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله فى عصر آخر، وهم لا يذعنون فى أنفسهم لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأى عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مخترع خبير، بل صاروا إلى فوضى فى الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال والأعراض وكذا الدماء لم يعهد لها فى البشر نظير. صارت بها الأمم والدول عرضة لفتنة فى الأرض وفساد كبير.

أكثر البشر المؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفين بالتعليم العصرى يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا فى جهال المتبعين لتقاليد الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هى من أديانهم فى شىء. بل هى هادمة لأساسها الأعظم وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة الأنبياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها وصار أكثر البشر إما مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإمّا كافرين بهم منكرين أن الدين وحى من الله تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام.

إن الدين الذى ينتمى إليه أكثر شعوب الحضارة فى هذا العصر هو النصرانية، وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، ولكنه لم يبق له سلطان روحى إلا فى قلوب النساء والعوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا الفصل بأن

ص: 35

زعماء الشعب الألمانى وهو أرقى شعوب الأرض علما وفنا وحضارة قد ثار على هذا الدين ثورة جديدة يريد بها هدم أساسه من كتب العهد القديم، وتنقيح تعاليم العهد الجديد وجعل ما يبقون منه وطنيا ألمانيا خاصا بالجنس الآرى الهندى الفارسى الأصل والبراءة من كل ما هو سام منه، وما أنبياؤهم ورسلهم ومسيحهم ومعبودهم إلا من الساميين. بل يريدون تقديس شهداء الحرب وعظماء أسلافهم الألمانيين، وإنّ هذه إلا وثنية كوثنية اليابانيين. تذكى سعير العداوة بينهم وبين سائر الأوروبيين.

فلا سبيل إلى إنقاذ البشر فى هذا العصر إلا إثبات الوحى المحمدى الموحّد لإنسانيتهم، المزكى لأنفسهم، والمكمّل لفطرتهم. الذى فيه السعادة الدنيوية والأخروية لهم فى جملتهم، وقد بينا فى هذا الكتاب أنّ محمدا رسول الله وخاتم النبيين. وهو المرسل إلى كافة الناس رحمة للعالمين، وأنه هو الذى أكمل الله به الدين، وأزال العصبيات الجنسيّة والوطنيّة.

لتوحيد الأخوة الإنسانية، فاتباعه هو الترياق المجرّب لهذه السموم الروحية الاجتماعية القاتلة. راجين أن يفتح الله تعالى به أبواب الهدى لكل من يعقله ويتدبره من مستقلى الفكر، وطالبى معرفة الحق، وإصلاح الخلق المعنيين بقول الله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)[المائدة: 15، 16].

***

ص: 36

الفصل الثانى فى إقامة الحجة على مثبتى الوحى المطلق فى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

إن من اطّلع على الكتب المقدسة عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى المعبر عنها بكتب العهدين القديم والجديد، وعلى القرآن وكتب السنة والسيرة المحمدية- من أحرار الفكر ومستقلى العقل- علم علما وجدانيّا أنه لا يستطيع أحد أن يؤمن إيمانا علميا بأن تلك الكتب وحى من الله، وأن الذين كتبوها أنبياء معصومون فيما كتبوه ثم لا يؤمن بأن القرآن وحى من الله، وأن محمدا نبىّ معصوم فيما بلغه عن الله تعالى. كما لا يستطيع فقيه أن ينكر فقه أبى حنيفة والشافعى، ولا نحوى أن يجحد نحو سيبويه وابن جنّى، ولا شاعر أن ينفى شاعرية الرضى والبحترى، وقل مثل ذلك فى الطبيب والفيلسوف والرياضى والفلكى- كل منهم مع أئمة علمه، وفى كلّ إنسان صحيح الحواس فى المدركات الحسية، فالبصير لا يستطيع أن يكابر حسه فيفضل نور القمر والكواكب على ضوء الشمس، أن نور السراج على نور النهار، ولله در البوصيرى حيث قال:

الله أكبر إنّ دين محمد

وكتابه أقوى وأقوم قيل

لا تذكروا الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفأ القنديلا

قد صرح بهذا المعنى علماء الإفرنج الذين نشئوا فى النصرانية، وأحاطوا بها علما وخبرا، ثم عرفوا الإسلام معرفة صحيحة ولو غير تامة.

كتب الأستاذ أدوار مونتيه المستشرق مدرس اللغات الشرقية فى مدرسة جنيف الجامعة فى مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن ما ترجمته بالعربية:

«كان محمّد نبيّا صادقا كما كان أنبياء بنى إسرائيل فى القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه وكانت العقيدة الدينيّة وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه كما كانتا متمكنتين فى أولئك الأنبياء أسلافه فتحدّث فيه كما كانت تحدث فيهم ذاك الإلهام النفسيّ، وهذا التضاعف فى الشخصية، اللذين يحدثان فى العقل البشرى المرائى والتجليات والوحى والأحوال الروحية التى من بابها» أهـ.

ص: 37

فهذا العالم الأوروبى المستقل الفكر يقول: إن كل ما كان به أنبياء بنى إسرائيل أنبياء كان ثابتا لمحمد، ونحن نقول: إنّ جميع خصائص النبوة التى كانت فيه هى أكمل شكلا وموضوعا وأصح رواية وأبعد عن الشبهات كما سنوضحه، وأما ما فسر به هذه الخصائص فهو التعليل الذى يعلل به الماديون الوحى المطلق، وسنتكلم عليه فى الفصل الثالث.

ولخص هذا العالم خبير نزول الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم من كتب إسلامية مذعنا لصحة روايتها، وفصّلها بعده العالم المستشرق الفرنسى أميل درمنغام «1» فى كتابه (حياة محمد) مذعنا لصحة الرواية ولموضوعها. شارحا لتأثير نبوته فى إصلاح البشر متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى، آسفا للشقاق بينهم.

وإننا ننقل هنا تعريف الوحى والنبوّة والآيات (العجائب) عن أحد علماء الإفرنج الجامعين بين العلوم العصرية والدينية والتواريخ، وهو الدكتور «جورج بوست» الشهير مؤلف كتاب (وقاموس الكتاب المقدس) بالعربية ليبنى عليها الباحث المستقلّ العقل حكمه فى نبوة أنبياء بنى إسرائيل ووحيهم، ونبوة محمد رسول الله وخاتم النبيين، والوحى الذى أنزل عليه.

(1) يكتب هذا الاسم فى مجلة السياسة (درمنجيم)، بالجيم المصرية حيث ينشر فيها كتابه (حياة محمد) مترجما بالعربية، وإنما اخترنا كتابته بالغين لكتاب جاءنا من المؤلف بالعربية، كتب فيه إمضاءه (إميل درمنغام) ونشرناه فى الجزء الأول من مجلد المنار الثلاثين.

ص: 38