الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم
القرآن كتاب أنزله الله تعالى على قلب رجل نشأ على الفطرة البشرية سليم العقل صقيل النفس. طاهر الأخلاق، لم تملكه تقاليد دينية، ولا أهواء دنيوية، لأجل إحداث ثورة وانقلاب كبير فى العرب فسائر الأمم، يكتسح من العالم الإنسانى ما دنس فطرته من رجس الشرك والوثنية. الذى هبط بهذا الإنسان من أفقه الأعلى فى عالم الأرض.
إلى عبادة مثله وما هو دونه من هذه المخلوقات- وما أفسد عقله وذهب باستقلال فكره من البدع الكنسية، والتقاليد المذهبية، التى أحالت توحيد الأنبياء الأولين شركا، وحقّهم باطلا، وهدايتهم غواية- وما أفسد بأسه، وأذل نفسه، وسلبه إرادته، من استبداد الملوك الظالمين، والرؤساء القاهرين.
ثورة تحرر العقل البشرى والإرادة الإنسانية من رقّ المنتحلين لأنفسهم صفة الربوبية، أو النيابة عن الرب الخالق تعالى في التحكم والهيمنة والسيطرة على قلوب الناس وعقولهم، والتصرف فى إرادتهم وأبدانهم وأموالهم، فيكون بهذا العتق كل امرئ اهتدى به حرّا كريما في نفسه، عبدا خالصا لربه وإلهه، يوجّه قواه العقلية والبدنية إلى تكميل نفسه وجنسه. مثل هذه الثورة الإنسانية لا يمكن أن تحدث إلا على قاعدة القرآن في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11].
وكيف يكون تغيير الأقوام لما بأنفسهم من العقائد والأخلاق والصفات الثابتة، التى طبعتها عليها العبادات الموروثة والعادات الراسخة؟
هل يكفى فى ذلك قيام مصلح فيهم يضع لهم كتابا تعليميّا جافّا ككتب الفنون يقول فيه: إنكم أيها الناس ضالون فاسدون، ومضلّون ومفسدون فاعملوا بهذا الكتاب تهتدوا وتصلحوا، أو قانونا مدنيّا يقول في مقدمته: نفذوا هذا القانون تحفظ حقوقكم وتعتز أمتكم وتقوى دولتكم؟ أنّى وقد عهد من الناس الفاسدين المفسدين سوء التصرف بكتب أنبيائهم المرسلين، وإهمال قوانين حكمائهم المصلحين، كما فعل أهل الملل الأولون والمسلمون المتأخرون؟
كلا. إنما توضع القوانين للحكومات المنظمة ذات السلطان والقوة التى تكفل تنفيذها.
وأنّى لمحمّد صلى الله عليه وسلم فعل هذا فى الأمة العربية العاتية عن كل سيطرة ونظام وقد بعث
بالحجة والبرهان فريدا وحيدا لا عصية له من قومه ولا سلطان؟ على أنه جاء بأعدل الأصول التى تبنى عليها أمة قوانينها عند تكوين دولتها فى الأحوال الملائمة لها. جاء لإصلاح الأخلاق والطباع بالحجة والقيمة وطرق الإقناع والخضوع لوازع الاعتقاد النفسى دون وازع الحكم القهرى. ليغير الناس ما بأنفسهم بالاختيار، لا بالقوة والإجبار فيغير الله ما بهم بمقتضى سنته فى نظام الاجتماع وقد نطق القرآن بأن الرسول إنما هو مبلغ ومذكر غير جبّار على النّاس ولا مسيطر.
كلا. إنّ هذه الثورة ما كان يمكن أن تحدث إلا بما حدثت به. وهو تأثير هذا القرآن فى أنفس الأمة العربية التى كانت أشد الأمم البدوية والمدنية استعدادا فطريا لظهور الإسلام فيها، كما بيناه فى كتابنا (خلاصة السيرة المحمدية)، وسنلم به قريبا.
ذلك بأن من طباع البشر فى معرفة الحق والباطل، والخير والشر، والعمل بمقتضى المعرفة وإن خالف مقتضى الأهواء والشهوات، والتقاليد والعادات، إن مجرد البيان والإعلام والأمر والنهى لا يكفى فى الحمل على التزام الحق ونصره على الباطل، ولا فى أداء الواجب ومن عمل الخير وترك الشر إذا عارض المقتضى العلمى لهما ما أشرنا إليه آنفا من الموانع النفسية والعلمية. إلا فى بعض الأفراد من الناس. دون الجماعات والأقوام. بل مضت سنّة الله فى تثبيت الحق والخير فى النفس، وصدور آثارهما عنهما بالعمل. أنه يتوقف على صيرورة الإيمان بهما إذا عانا وجدانيا حاكما على القلب. راجحا على ما يخالفه من رغب ورهب، وأمل وألم، وإنما يكون هذا فى الأحداث بالتربية العلمية العملية، والأسوة الحسنة لهم فيمن ينشئون بينهم من الوالدين والأقربين والمعاشرين.
وأما كبار السن فلا سبيل إلى جعل الإيمان بالحقّ المطلق والخير العام إذعانا وجدانيا لجمهورهم إلا بالأسلوب الذى نزل به القرآن. بل بالقرآن الممتاز بهذا الأسلوب، فقلب به طباع الكهول والشبان وأخلاقهم وتقاليدهم وعاداتهم، وحوّلها إلى أضدادها علما وعملا بما لم يعهد له نظير فى البشر، فكان القرآن آية خارقة للمعهود من سنن الاجتماع البشرى فى تأثيره. بالتبع لكونه آية معجزة لبشر فى لغته وأسلوبه: كما كان آية معجزة فى إصلاحه للأمم بهديه وتعليمه.