الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نتيجة تلك المقدمات العشر
هنا وصل درمنغام إلى آخر المقدمات التى تتصل بالنتيجة المطلوبة له، فأرخى لخياله العنان، ونزع من جواده اللجام، ونخسه بالمهماز، فعدا به سبحا، وجمح به جمحا، وأورت حوافره له قدحا فأثارت له نقعا وأذن لشاعريته الفرنسية فى بريق لمعها، وظلمة نقعها، أن تصف محمدا عند ذلك الغار، بما تحدثه فى نفسه مشاهد نجوم الليل وما تسفعه به شمس النهار، وما تخيل إليه أنه كان يراه فى قنة الجبل من صحارى وقفار، وخيام وآبار، وما ثم خيام ولا آبار، ومن رعاة تهشّ على غنمها حيث لا أشجار، حتى ذكر البحار على بعد البحار، وسيذكر موج البحر أيضا، ونسى أن يصف الفلك المواخر فيه، وما يعرض لها فى حالة الرهو والريح الطيبة، وحالة العواصف والأمواج المصطخبة، فكل منهما فى القرآن، ولم يكن رآه محمد من جبل حراء.
قد أتقن هذا الفرنسى التخيل الشعرى، ولكنه لم يوافق به الوصف الموضعى.
ثم قال مصورا لما يبتغيه محمد صلى الله عليه وسلم من مشاهداته المزعومة:
«وظل محمّد يتردّد على حراء فى رمضان من كلّ عام سنوات متوالية، وهناك كان يزداد
به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لكان ينسى نفسه، وينسى طعامه، وينسى كلّ ما فى الحياة لأن هذا الذى يرى فى الحياة ليس حقا. وهناك كان يقلب فى صحف ذهنه كمل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة واوزارا، وهو لم يكن يطمع فى أن يجد فى قصص الأحبار وفى كتب الرهبان الحق الذى ينشد، بل فى هذا الكون المحيط به: فى السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفى الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء وساعات صفوها البديع، إذ تكسوها أشعّة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندى. وفى البحر وموجه! وفى كلّ ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود، وتشمله وحدة الوجود- فى هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا ابتغاء إدراكها. كان يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون وليخترق شغاف الحجب إلى مكنون سره».
(قال درمنغام): «فلما كانت سنة 610 أو نحوها كانت الحالة النفسية التى يعانيها محمد على أشدها. فقد أبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرا جوهريا ينقصه وينقص قومه، وأن الناس نسوا هذا الأمر الجوهرى وتشبث كل بصنم قومه وقبيلته، وخشى النّاس الجنّ والأشباح والبوارح. وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلهم لم ينكروها، ولكنهم نسوها نسيانا هو موت الروح. وقد خلصت نفس محمد من كلّ هذه الآراء التافهة، ومن كلّ القوى التى تخضع لقوة غيرها، ومن كل كائن ليس مظهرا للكائن الواحد.
ولقد عرف أن المسيحيين فى الشام ومكة لهم دين أوحى به! وأن أقواما غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنهم عرفوا الحق ووعوه أن جاءهم علم من أنبياء أوحى إليهم به. كلما ضل الناس بعثت السماء إليهم نبيا يهديهم إلى الصراط المستقيم ويذكرهم بالحقيقة الخالدة، وهذا الدين الذى جاء به الأنبياء فى كل الأزمان دين واحد، وكلما أفسده النّاس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم. وقد كان الشّعب العربىّ يومئذ فى أشد تيهاء الضلال.
أفما آن لرحمة الله أن تظهر فيهم مرة أخرى وأن تهديهم إلى الحقّ؟».
«وقضى ستّة أشهر فى هذه الحال حتى خشى على نفسه عاقبة أمره، فأسر بمخاوفه إلى خديجة فطمأنته وجعلت تحدّثه بأنه الأمين، وأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وفيما هو يوما نائم بالغار جاءه ملك فقال له: أقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» وكان هذا أول الوحى وأول النبوّة».
أقول: إنّ كلّ ما هنا من خبر أو جله غير صحيح، ولو صحت لكان ما استنبطه منها مما يخطر بالبال، ولكن الوحى المحمدى فوق كل استنباط وكل احتمال، فمن أين علم هذا الإفرنسى أن محمدا نسى الليل والنهار، والحلم واليقظة؟ وأنه كان يقضى الساعات الطوال جاثيا فى الغار أو مستلقيا فى الشمس
…
إلخ وإنه قضى ستة أشهر فى هذا
الحال؟.
قد افترى فى الأخبار «1» ليستنبط منها أنه صار صلوات الله عليه مقلوبا على عقله، غائبا عن حسه، غارقا فى بحر لجى من خياله. أثمر له انبثاق ذلك الوحى العالى من نفسه، وتجليه لبصره وسمعه.
وإننى أبدأ الردّ عليه وعلى أمثاله بنقل أصحّ الروايات فى خبر تحنثه فى الغار الليالى ذوات العدد- من شهر رمضان فى تلك السنة لا فيما قبلها- لتفنيد أخيلته وشعرياته، وإبطال نتيجة مقدماته، وللاستغناء بها عما نقله من الخلط فى صفة الوحى من الفصل الذى بعد هذا من كتابه. ذلك ما رواه الشيخان البخارى ومسلم فى صحيحيهما، وهذا نص رواية البخارى رضى الله عنه فى كتابه الجامع الصحيح.
(1) أى افترى فى أثنائها ما ليس له أصل من روايات السيرة ولم يفترها كلها، كما أنه لم يعرف الصحيح الضعيف، وفسرها بما وافق رأيه فى سبب ذلك الوحى العظيم الذى يعترف بعظمته وحكمته.