الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه
قد شرع الله تعالى لإبطال الرق طريقتين: تحديد تجديد الاسترقاق فى المستقبل أو تقييده، وتحرير الرقيق القديم بالتدريج، الذى لا ضرر ولا ضرار فيه.
الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان
،
وقيده باسترقاق الأسرى والسبايا فى الحرب التى اشترط فيها ما تقدم بيانه من دفع المفاسد وتقرير المصالح، ومنع الاعتداء ومراعاة العدل والرحمة وهى شروط لم تكن قبله مشروعة عند المليين، ولا عند أهل الحضارة فضلا عن المشركين الذين لا شرع لهم ولا قانون، ولست أعنى بالاستثناء أنّ الله شرع لنا من هذا النوع من الاسترقاق كل ما كانت الأمم تفعله معاملة لهم بالمثل، بل شرع لأولى الأمر من المسلمين مراعاة المصلحة للبشر فى إمضائه أو إبطاله بأن خيّرهم فى أسرى الحرب الشرعية بين أمرين:
(أولهما) المن عليهم بالحرية فضلا وإحسانا ورحمة.
(ثانيهما) الفداء بهم وهو نوعان: فداء المال، وفداء الأنفس إذا كان لنا أسارى أو سبى عند قومهم بنص الآية «1» من سورة محمد التى أوردناها فى القاعدة الخامسة من قواعد الحرب، ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق فى الإسلام، فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذى هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم وأقره الإسلام لأنه أمر عالمى دولى يقع به التعامل بين الأعداء فى الحرب، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتى، ولكن الآية ليست نصا فى الحصر، ولا صريحة فى النهى عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية. فبقى حكمه محل اجتهاد أولى الأمر إذا وجدوا المصلحة فى إبقائه أبقوه، وإذا وجدوا المصلحة فى ترجيح المن عليهم بالحرية- وهو إبطال اختيارى له- أو الفداء بهم عملوا به.
(1) راجع المقصد الثامن من مقاصد القرآن الكريم.
ورأيت بعض المشتغلين بالفقه يقولون: إن الاسترقاق والسبى من حقوق المحاربين الخاصة لا من حقوق أولى الأمر العامة، فليس للإمام الأعظم ولا للقائد العام فى الحرب المفوض من قبله مع أركان حربه أن يجبروا المقاتلين على المن عليهم، ولا على الفداء بهم لاقتضاء المصلحة العامة لأحد الأمرين، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجبر المسلمين على التخلى عن سبى هوازن إجبارا، بل جعله بتطييب أنفسهم له، ووعد من لا تطيب نفسه بترك حصته بالتعويض عليه.
وفى هذا الفهم غلط من وجوه كثيرة «منها» أن مثل هذه المسألة إذا لم تكن من المصالح العامة التى تناط أولى الأمر فليس فى الأمم مصالح عامة قط. «ومنها» أنه يعارض
نصا فى القرآن بواقعة حال عملية، «ومنها» أن النبى صلى الله عليه وسلم جمع فى تلك الحال بين حكمة الدين ورحمته العامة، وبين تربية المسلمين التى اقتضاها الزمان والمكان، والقوة والضعف فى الإيمان، وحال طلقاء مكة والمؤلفة قلوبهم فى إظهار الإسلام، فوعد وفد هوازن بإحدى الطائفتين- الغنائم أو السبى- مع علمه بأنهم يختارون السبى. ثم إنه أعطى المؤلفة قلوبهم من الغنائم أكثر من غيرهم، ولم يعط الأنصار شيئا وقد فصّلنا ذلك فى تفسير الآيتين (25، 26) من سورة التوبة «1» .
وإنما تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين- أى المن على الأسرى والفداء بهم فى حالات قليلة لا تدوم كأن يكون المحاربون للمسلمين قوما قليلى العدد كبعض قبائل البدو يقتل رجالهم كلهم أو جلهم. فإذا ترك النساء والأطفال والضعفاء من الرجال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة على الاستقلال فى حياتهم فيكون الخير لهم أن يكفلهم الغالبون ويقوموا بشئونهم المعاشية، ثم تجرى عليهم أحكام الطريقة الثانية فى تحريرهم وقد يتسترون بالنساء فيكن أمهات أولاد وربات بيوت فحرائر، أو محصنات من الفواحش مكفيات أمر المعيشة على الأقل، وكذلك الأطفال يكفلهم المسلمون ويربونهم على عقائد الإسلام وفضائله، ثم ينالهم العتق فى الغالب لما سيأتى فى وجوهه، فيكونون كسائر أحرار المسلمين علماء وأغنياء وحكاما وأمراء. وقد أفضى هذا إلى تغلب العتقى (الموالى) من الأعاجم على السيادة والسلطان فى الأمة، بعد إهمال هداية الدين فى دولها.
وقد سنّ النبى صلى الله عليه وسلم لأمته ترجيح المن على الأسارى والسبايا بالعتق قولا وعملا فى غزوة بنى المصطلق، وغزوة فتح مكة، وغزوة حنين كما هو مفصل فى كتب السيرة النبوية
(1) راجع صفحة 257 ج 10 تفسير المنار.
وغيرها، لأنّ المسلمين قد أثخنوهم وظهروا عليهم، ولم يكونوا أسروا من المسلمين أحدا فعلم من ذلك أن روح الشريعة الإسلامية ترجيح الفضل والإحسان عند القدرة، ومنه عتق الأسرى والسبايا والمن عليهم بالحرية بلا مقابل حاضر، ولا خوف مستقبل، بل لمحض الإحسان.
ولا تنس أن أكثر المشركين الذين كانوا يقاتلون النبى صلى الله عليه وسلم من الإعراب (البدو) وكانت حالة الحرب معهم مستمرة- كما تقدم- فلم يكن من المصلحة إرجاع سبيهم إليهم يشقى بشقائهم وشركهم وظلمهم وقساوتهم، من قتل للأولاد ووأد للبنات، وتأمل فعله صلى الله عليه وسلم مع بنى النضير من اليهود إذا استأذنه أصحابه بأخذ أولادهم الذين تهودوا معهم فأمرهم بتخييرهم.