الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعل القرآن فى أنفس المؤمنين
كان كل من يدخل فى الإسلام قبل الهجرة يلقن ما نزل من القرآن- ليعبد الله بتلاوته- ويعلم الصلاة ولم يفرض فى مكة من أركان الإسلام غيرها. فيرتل ما يحفظه فى صلاته اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم إذ فرض الله عليه التهجد بالليل من أول الإسلام.
قال تعالى فى أول سورة المزمل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 1 - 4]، ثم قال فى آخرها:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]، أى: فى صلاة الليل وغيرها، ثم ذكر الأعذار المانعة من قيام الليل كله ما كان منها فى ذلك العهد؛ كالمرض والسفر وما سيكون بعد سنين، وهو القتال فى سبيل الله.
ومما ورد فى صفة الصحابة رضى الله عنهم أن الذى كان يمر ببيوتهم ليلا يسمع منها مثل دوى النحل من تلاوة القرآن، وقد غالى بعضهم فكان يقوم الليل كله حتى شكا منهم نساؤهم فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكان هو يصلى فى كل ليلة إحدى عشرة ركعة يوتر بواحدة منهن، وما قبلها مثنى مثنى، وكان هو يطيل فيهن حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه مرفها ومسليا: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1، 2] إلخ.
فتربية الصحابة التى غيرت كل ما كان بأنفسهم من مفاسد الجاهلية، وزكّتها تلك التزكية التى أشرنا إليها آنفا، وأحدث أعظم ثورة روحية اجتماعية فى التاريخ إنما كانت بكثرة تلاوة القرآن فى الصلاة وتدبره فى غير الصلاة، وربما كان أحدهم يقوم الليلة بآية واحدة يكررها متدبرا لها، وكانوا يقرءونه فى كل حال حتى مستلقين ومضطجعين كما وصفهم الله بقوله:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191]، وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل على ذلك أسمائه الحسنى، وصفاته المقدسة، وأحكامه وحكمه وسننه فى خلقه، وأفعاله فى تدبير ملكه كما تقدم.
وقد وصف الله تعالى فعل القرآن فى هؤلاء المؤمنين بقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
ولو كان القرآن ككتب القوانين والفنون لما كان لتلاوته كل ذلك التأثير فى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع. بل لكانت تلاوته تمل فتترك، فأسلوب القرآن الذى وصفناه آنفا من أعظم أنواع إعجازه اللغوى، وتأثيره الروحى، ومن ارتاب فى هذا فلينظر فى المسائل التى تشتمل عليها السورة منه وليحاول كتابتها نفسها أو مثلها. بأسلوب تلك السورة ونظمها وأسلوب سورة أخرى كالسور التى يتكرر فيها الموضوع الواحد بالإجمال الموجز تارة وبعض التفصيل تارة، وبالإطناب فيه أخرى. كالاعتبار بقصص الرسل مع أقوامهم فى سورة المفصل (كالذاريات والقمر والحاقة) وفيما فوقها (كالمؤمنون والشعراء والنمل) وفيما هو أطول منها (كالأعراف وهود) ثم لينظر ما يفضى إليه عجزه من السخرية والتكرار المملول. الذى يغثى منه الذوق غثيانا، وتمجه القلوب وتستفرغه استفراغا.
وقد بين غوستاف لوبون فى كتابه (روح الاجتماع) أن تكرار الدعوات الدينية والسياسية والاجتماعية فى الخطب والمقالات التى تثير الجماعات وتدعّهم (تدفعهم بعنف) إلى الانهماك والتفانى فيها دعاء هو الذى يثبتها فى القلوب، ولذلك يعتمد عليه خطباء السياسة ورؤساء الأحزاب ومؤسسوها، وكذلك التجار وغيرهم فيما ينشرونه من الإعلانات فى الصحف ويعلقونه فى الشوارع.
(ونقول): ما كان محمد ولا أحد من أهل عصره يعلمون هذا. لكن الله يعلم من طبائع الجماعات والأقوام. فوق ما يعلمه حكماء عصرنا وسائر الأعصار، وإنما القرآن كلامه ليس فيه من التكرار، إلا ما له أكبر الشأن فى انقلاب الأفكار، وتغيير ما فى الأنفس من العقائد والأخلاق، ولو جمعت أبلغ خطب رجال السياسة التى أحدثت التأثير فى أحزابهم وقرئت بعد ذلك مرات قليلة لسارع الملل إلى نفس كل قارئ حتى أتباع ذلك الخطيب أنفسهم وقراءة القرآن لا يملها أحد يفهم معانيها، ويذوق حلاوة أسلوبها.
ألا وإن تقليب القلوب والأفكار، لأعسر من فلق الصخور وتحويل الجبال، وقد ضرب الله لهذا المثل بقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21].
وهكذا كان تأثير القرآن فى العرب، فهذا مثلهم، وأما مثل بنى إسرائيل بعد رؤيتهم آيات الله لموسى فقوله لهم بعد سردها: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].
حسبنا ما بينا به تأثير القرآن، وما أحدثه من الثورة العربية العالمية من ناحية أسلوبه ونظمه وتكراره المعجز للبشر بشكله، ونقفى عليه بإصلاحه وإعجازه بموضوعه، وهو تعاليمه الدينية والسياسية والمدنية وغيرها. فنقول:
***
الفصل الخامس فى مقاصد القرآن فى تربية نوع الإنسان وحكمة ما فيه من التكرار فى الهداية وإعجازه بالبيان
إن مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم فى طور الرشد، وتحقيق. أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم؛ منها ما يكفى بيانه لهم فى الكتاب مرة أو مرتين أو مرارا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلا بتكراره مرارا كثيرة لأجل أن يجتث من أعماق الأنفس كل ما كان فيها من آثار الوراثة والتقاليد والعادات القبيحة الضارة، ويغرس فى مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتى أكله، ويبدو صلاحه، ويينع ثمره، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن إلا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلا فى المستقبل، فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفى فيه الفحوى والكناية.
والقرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفى أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة كالمعهود فى متون الفنون وكتب القوانين وقد بين الله تعالى ذلك بقوله فى موضوع البعثة المحمدية: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 1، 2]، فآياته المتلوة هى سور القرآن، المرشدة إلى سننه فى الأكوان، والتزكية هى التربية بالعمل وحسن الأسوة، و (الكتاب) هو الكتابة التى تخرج العرب من أميتهم، و (الحكمة) هى العلوم النافعة الباعثة على الأعمال الصالحة، وما يسمى فى عرف شعوب الحضارة بالفلسفة، فجميع مقاصد القرآن وبيان السنة له تدور على هذه الأقطاب الثلاثة.
وإننا نذكر هنا أصول هذه المقاصد كما وعدنا عند قولنا: إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو أعلى وأكمل مما جاء به من قبله من جميع الأنبياء والحكماء والحكام. فهو برهان علمى على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصى.
وإننا نقسم هذه المقاصد إلى أنواع، ونبين حكمة القرآن وما امتاز به فى كل نوع منها بالإجمال، لأن التفصيل لا يتم إلا إذا يسر الله لنا إنجاز ما وعدنا به من تفسير ومقاصد القرآن كلها فى أبواب نبين فى كل باب منها وجه حاجة البشر إلى ذلك المقصد، وكون القرآن وفى بهذه الحاجة بما نأتى به من جملة آياته فيه، وإنما هذا الفصل نموذج منه.