المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

كان كل من يدخل فى الإسلام قبل الهجرة يلقن ما نزل من القرآن- ليعبد الله بتلاوته- ويعلم الصلاة ولم يفرض فى مكة من أركان الإسلام غيرها. فيرتل ما يحفظه فى صلاته اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم إذ فرض الله عليه التهجد بالليل من أول الإسلام.

قال تعالى فى أول سورة المزمل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 1 - 4]، ثم قال فى آخرها:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]، أى: فى صلاة الليل وغيرها، ثم ذكر الأعذار المانعة من قيام الليل كله ما كان منها فى ذلك العهد؛ كالمرض والسفر وما سيكون بعد سنين، وهو القتال فى سبيل الله.

ومما ورد فى صفة الصحابة رضى الله عنهم أن الذى كان يمر ببيوتهم ليلا يسمع منها مثل دوى النحل من تلاوة القرآن، وقد غالى بعضهم فكان يقوم الليل كله حتى شكا منهم نساؤهم فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكان هو يصلى فى كل ليلة إحدى عشرة ركعة يوتر بواحدة منهن، وما قبلها مثنى مثنى، وكان هو يطيل فيهن حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه مرفها ومسليا: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1، 2] إلخ.

فتربية الصحابة التى غيرت كل ما كان بأنفسهم من مفاسد الجاهلية، وزكّتها تلك التزكية التى أشرنا إليها آنفا، وأحدث أعظم ثورة روحية اجتماعية فى التاريخ إنما كانت بكثرة تلاوة القرآن فى الصلاة وتدبره فى غير الصلاة، وربما كان أحدهم يقوم الليلة بآية واحدة يكررها متدبرا لها، وكانوا يقرءونه فى كل حال حتى مستلقين ومضطجعين كما وصفهم الله بقوله:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191]، وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل على ذلك أسمائه الحسنى، وصفاته المقدسة، وأحكامه وحكمه وسننه فى خلقه، وأفعاله فى تدبير ملكه كما تقدم.

وقد وصف الله تعالى فعل القرآن فى هؤلاء المؤمنين بقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].

ص: 115

ولو كان القرآن ككتب القوانين والفنون لما كان لتلاوته كل ذلك التأثير فى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع. بل لكانت تلاوته تمل فتترك، فأسلوب القرآن الذى وصفناه آنفا من أعظم أنواع إعجازه اللغوى، وتأثيره الروحى، ومن ارتاب فى هذا فلينظر فى المسائل التى تشتمل عليها السورة منه وليحاول كتابتها نفسها أو مثلها. بأسلوب تلك السورة ونظمها وأسلوب سورة أخرى كالسور التى يتكرر فيها الموضوع الواحد بالإجمال الموجز تارة وبعض التفصيل تارة، وبالإطناب فيه أخرى. كالاعتبار بقصص الرسل مع أقوامهم فى سورة المفصل (كالذاريات والقمر والحاقة) وفيما فوقها (كالمؤمنون والشعراء والنمل) وفيما هو أطول منها (كالأعراف وهود) ثم لينظر ما يفضى إليه عجزه من السخرية والتكرار المملول. الذى يغثى منه الذوق غثيانا، وتمجه القلوب وتستفرغه استفراغا.

وقد بين غوستاف لوبون فى كتابه (روح الاجتماع) أن تكرار الدعوات الدينية والسياسية والاجتماعية فى الخطب والمقالات التى تثير الجماعات وتدعّهم (تدفعهم بعنف) إلى الانهماك والتفانى فيها دعاء هو الذى يثبتها فى القلوب، ولذلك يعتمد عليه خطباء السياسة ورؤساء الأحزاب ومؤسسوها، وكذلك التجار وغيرهم فيما ينشرونه من الإعلانات فى الصحف ويعلقونه فى الشوارع.

(ونقول): ما كان محمد ولا أحد من أهل عصره يعلمون هذا. لكن الله يعلم من طبائع الجماعات والأقوام. فوق ما يعلمه حكماء عصرنا وسائر الأعصار، وإنما القرآن كلامه ليس فيه من التكرار، إلا ما له أكبر الشأن فى انقلاب الأفكار، وتغيير ما فى الأنفس من العقائد والأخلاق، ولو جمعت أبلغ خطب رجال السياسة التى أحدثت التأثير فى أحزابهم وقرئت بعد ذلك مرات قليلة لسارع الملل إلى نفس كل قارئ حتى أتباع ذلك الخطيب أنفسهم وقراءة القرآن لا يملها أحد يفهم معانيها، ويذوق حلاوة أسلوبها.

ألا وإن تقليب القلوب والأفكار، لأعسر من فلق الصخور وتحويل الجبال، وقد ضرب الله لهذا المثل بقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21].

وهكذا كان تأثير القرآن فى العرب، فهذا مثلهم، وأما مثل بنى إسرائيل بعد رؤيتهم آيات الله لموسى فقوله لهم بعد سردها: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].

ص: 116

حسبنا ما بينا به تأثير القرآن، وما أحدثه من الثورة العربية العالمية من ناحية أسلوبه ونظمه وتكراره المعجز للبشر بشكله، ونقفى عليه بإصلاحه وإعجازه بموضوعه، وهو تعاليمه الدينية والسياسية والمدنية وغيرها. فنقول:

***

ص: 117

الفصل الخامس فى مقاصد القرآن فى تربية نوع الإنسان وحكمة ما فيه من التكرار فى الهداية وإعجازه بالبيان

إن مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم فى طور الرشد، وتحقيق. أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم؛ منها ما يكفى بيانه لهم فى الكتاب مرة أو مرتين أو مرارا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلا بتكراره مرارا كثيرة لأجل أن يجتث من أعماق الأنفس كل ما كان فيها من آثار الوراثة والتقاليد والعادات القبيحة الضارة، ويغرس فى مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتى أكله، ويبدو صلاحه، ويينع ثمره، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن إلا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلا فى المستقبل، فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفى فيه الفحوى والكناية.

والقرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفى أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة كالمعهود فى متون الفنون وكتب القوانين وقد بين الله تعالى ذلك بقوله فى موضوع البعثة المحمدية: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 1، 2]، فآياته المتلوة هى سور القرآن، المرشدة إلى سننه فى الأكوان، والتزكية هى التربية بالعمل وحسن الأسوة، و (الكتاب) هو الكتابة التى تخرج العرب من أميتهم، و (الحكمة) هى العلوم النافعة الباعثة على الأعمال الصالحة، وما يسمى فى عرف شعوب الحضارة بالفلسفة، فجميع مقاصد القرآن وبيان السنة له تدور على هذه الأقطاب الثلاثة.

وإننا نذكر هنا أصول هذه المقاصد كما وعدنا عند قولنا: إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو أعلى وأكمل مما جاء به من قبله من جميع الأنبياء والحكماء والحكام. فهو برهان علمى على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصى.

ص: 119

وإننا نقسم هذه المقاصد إلى أنواع، ونبين حكمة القرآن وما امتاز به فى كل نوع منها بالإجمال، لأن التفصيل لا يتم إلا إذا يسر الله لنا إنجاز ما وعدنا به من تفسير ومقاصد القرآن كلها فى أبواب نبين فى كل باب منها وجه حاجة البشر إلى ذلك المقصد، وكون القرآن وفى بهذه الحاجة بما نأتى به من جملة آياته فيه، وإنما هذا الفصل نموذج منه.

ص: 120