الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل كان النبى صلى الله عليه وسلم يعطى أمراء الجيوش والسرايا حقّ الحكم بما يرون فيه المصلحة بقوله للواحد منهم: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله أم لا» . رواه أحمد، ومسلم، والترمذى، وابن ماجة من حديث بريدة. وقال مثل ذلك فى إنزالهم على ذمة الأمير دون ذمة الله ورسوله لئلا يخفرها، وهذا من أوسع النصوص الصحيحة فى تفويض الأحكام السياسية والعسكرية إلى الخلفاء والأمراء وقواد الجيوش، لأنها من المصالح العامة التى تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وهو مذهب الإمام مالك (ر ح).
قواعد الاجتهاد من النصوص
أحكام الكتاب والسّنّة: منها أحكام خاصة بالأعمال والوقائع، ومنها قواعد عامة للتشريع، والأحكام الخاصّة، منها: ما هو قطعى الرواية والدلالة لا مجال للاجتهاد فيه ولا معدل عن الحكم به إلا لمانع شرعى، من فوات شرط، كدرء حدّ بشبهة أو عذر ضرورة.
وقد أمر عمر رضى الله عنه فى المجاعة ألا يحدّ سارق. ومنها ما هو غير قطعى يعمل فيه باجتهاد من يناط به الحكم والتنفيذ من أمير أو قاض أو قائد جيش، كما تقدم قريبا فى العبادات والمحرمات.
وأما القواعد العامة فهى ما تجب مراعاته فى الأحكام المختلفة، وأهمّها فى الإسلام تحرى الحقّ والعدل المطلق العام، والمساواة فى الحقوق والشهادات والأحكام، وحفظ المصالح ودرء المفاسد، ومراعاة العرف بشرطه، ودرء الحدود بالشبهات، وكون الضرورات تبيح المحظورات، وتقدير الضرورة بقدرها، ودوران المعاملات على اكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل، وحسبك بالشواهد من القرآن على قاعدة إيجابى العدل المطلق والشهادة وتحريم الظلم.
العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم
لما كان العدل أساس الأحكام وميزان التشريع وقسطاسه المستقيم، أكد الله تعالى الأمر به والمساواة فيه بين الناس فى السورة المكية والمدنية. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90]، وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا «1» وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء: 135].
أمر الله تعالى المؤمنين بالمبالغة فى القيام بالقسط وهو العدل فإن القوام (بتشديد الواو) صيغة مبالغة للفاعل بالقيام بالأمر وعدم التهاون والتقصير فيه، وبأن تكون شهادتهم فى المحاكمات وغيرها لله عز وجل لا لهوى ولا مصلحة أحد، ولو كانت على أنفسهم أو والديهم والأقربين منهم، وأن لا يحابوا فيها غنيا لغناه تقربا إليه أو تكريما له، ولا فقيرا لفقره رحمة به وشفقة عليه، ونهاهم عن اتباع الهوى فى الحكم أو الشهادة لأجل كراهة العدل فيهما لمراعاة من ذكر من الناس، وأنذرهم عقابه إن لووا- أى مالوا عن الحق أو أعرضوا عنه-.
وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]، فهذه الآية متممة لما قبلها، فهناك يأمر بالمساواة فى العدل والشهادة بين النفس وغيرها، وبين القريب والبعيد، وبين الغنى والفقير، وهاهنا يأمر بالمساواة فيهما بين الإنسان وأعدائه مهما يكن سبب عداوتهم، لا فرق فيها بين دينى ودنيوى، فالشنآن البغض والعداوة وقيل مع الاحتقار، فمعنى قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا لا يحملنّكم بغضهم وعداوتهم لكم أو بغضكم وعداوتكم لهم على ترك العدل فيهم، فالعدل بالمساواة أقرب إلى تقوى الله. وأنذر تارك العدل لأجل الشنآن بمثل ما أنذر به تارة للمحاباة، أنذر كلا منهما بأن الله خبير بما يعمله لا يخفى عليه منه شىء، فهو يحاسبه على عمله وعلى نيته وقصده منه، فيثيبه أو يعاقبه على ما يعلم من أمره.
فالعدل هو الميزان فى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشورى: 17]، وقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد: 25] الآية. فخير الناس
(1) أن تعدلوا بفتح أن لتقدير لام التعليل وهو قياس والتقدير فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا- أو لئلا تعدلوا، اختلف النحاة فى تقدير الإعراب واتفقوا على أن المراد لا يكون الهوى سببا لترك العدل ويؤكده الآية الثانية.
من يصدهم عن الظلم والعدوان هداية الكتاب وهو القرآن، يليهم من يصدهم العدل الذى يقيمه السلطان، وشرهم من لا علاج له إلا حديد السيف والسنان، والمراد به العقاب.
فقوام صلاح العالم بالإيمان بالكتاب الذى يحرم الظلم وسائر المفاسد، فيجتنبها المؤمن خوفا من عذاب الله فى الدنيا والآخرة ورجاء فى ثوابه فيهما، وبالعدل فى الأحكام الذى يردع الناس عن الظلم بعقاب السلطان، وبالحديد، والمراد به القوة التى تصد الثورات والفتن وتحفظ الأمن.