الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى
التحقيق فى صفة حال محمد صلى الله عليه وسلم من أول نشأته، وإعداد الله تعالى إياه لنبوته ورسالته:
هو أنه خلقه كامل الفطرة؛ ليبعثه بدين الفطرة، وأنه خلقه كامل العقل الاستقلالى الهيولانى ليبعثه بدين العقل المستقل والنظر العلمى، وأنه كمل بمعالى الأخلاق، ليبعثه متمما لمكارم الأخلاق، وأنه بغّض إليه الوثنية وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سنه، وحبب إليه العزلة حتى لا تأنس نفسه بشيء يتنافسون فيه من الشهوات واللذات البدنية، أو منكرات القوة الوحشية، كسفك الدماء، والبغى على النّاس، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل- ليبعثه مصلحا لما فسد من أنفس الناس، ومزكيا له بالتأسى به، وجعله المثل البشرى الأعلى، لتنفيذ ما يوحيه إليه من الشرع الأعلى.
فكان من عفته أن سلخ من سنى شبابه وفراغه خمسا وعشرين سنة مع زوجته خديجة كانت فى عشر منها كهلة نصفا أم أولاد، وفى 15 منها عجوزا يائسة من النسل، فتوفيت فى الخامسة والستين وهى أحبّ الناس إليه، وظلّ يذكرها ويفضّلها على جميع من تزوّج بهن من بعدها، حتى عائشة بنت الصديق على جمالها وحداثتها وذكائها، وكمال استعدادها للتبليغ عنه، ومكانة والدها العليا فى أصحابه، وظلّ طول عمره يكره سفك الدماء ولو بالحقّ، فكان على شجاعته الكاملة، يقود أصحابه لقتال أعداء الله وأعدائه المعتدين عليه وعليهم، لأجل صدّهم عن دينه، ولكنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا منهم (هو أبىّ بن خلف) كان موطنا نفسه على قتله صلى الله عليه وسلم فهجم عليه وهو مدجج بالحديد من مغفر ودرع، فلم يجد صلى الله عليه وسلم بدا من قتله فطعنه فى ترقوته من خلال الدرع والمغفر فقتله، وظل طول عمره ثابتا على أخلاقه من الزهد والجود والإيثار، فكان بعد ما أفاء الله عليه من غنائم المشركين واليهود يؤثر التقشف وشظف العيش على نعمته، مع إباحة شرعه لأكل الطيّبات ونهيه عن تركها تدينا، وكان يرفع ثوبه ويخصف نعله، مع إباحة دينه للزينة وأمره بها عند كلّ مسجد وكان يساعد أهل بيته على خدمة الدار.
أكمل الله استعداده الفطرى الوهبى «لا الكسبى» للبعثة بإكمال دين النبيين، والمرسلين.
والتشريع الكافى الكافل لإصلاح جميع البشر إلى يوم الدين، وجعله حجّة على جميع العالمين بأن أنشأه كأكثر قومه أميا، وصرفه فى أميته عن اكتساب أى شىء من علوم البشر
من قومه العرب الأميين، ومن أهل الكتاب حتى إنه لم يجعل له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة اللسان، وبلاغة البيان، من شعر وخطابة، ومفاخرة ومنافرة «1» ، إذ كانوا يؤمون أسواق موسم الحج وأشهرها عكاظ «2» من جميع النواحى لإظهار بلاغتهم وبراعتهم، فكان ذلك أعظم الأسباب لارتقاء لغتهم، واتساع معارفهم، وكثرة الحكمة فى شعرهم، فكان من الغريب أن يزهد محمد صلى الله عليه وسلم فى مشاركتهم فيه بنفسه وفى روايته لما عساه يسمعه منه، وقد سمع بعد النبوة زهاء مائة قافية من شعر أمية بن الصلت فقال:«إن كاد ليسلم» وقال: «آمن شعره وكفر قلبه» ، وقال:«إنّ من البيان لسحرا وإن من الشعر حكما» . رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس، وأما قوله «إن من البيان لسحرا» فقد رواه مالك وأحمد والبخارى وأبو داود والترمذى من حديث ابن عمر قلنا: إن الله تعالى جعل استعداد محمّد صلى الله عليه وسلم للنبوة والرسالة فطريا وإلهاميا لم يكن فيه شىء من كسبه بعلم ولا عمل لسانى ولا نفسى، وأنه لم يرو عنه أنه كان يرجوها .. كما روى عن أمية ابن أبى الصلت. بل أخبر الله عنه أنه لم يكن يرجوها كما تقدّم ولكن روى عن خديجة رضى الله عنها أنها لما سمعت من غلامها ميسرة أخبار أمانته وفضائله وكراماته، وما قاله بحيرا الراهب فيه. تعلّق أملها بأن يكون هو النبى الذى يتحدّثون عنه، ولكن هذه الروايات لا يصل شىء منها إلى درجة المسند الصحيح كحديث بدء الوحى الذى أوردناه آنفا، فإن قيل: إنه يقويها حلفها بالله أنّ الله تعالى لا يخزيه أبدا. قلنا: إنها عللت ذلك بما ذكرته من فضائله ورأت أنها فى حادة إلى استفتاء ابن عمها ورقة فى شأنه.
وأما اختلاؤه صلى الله عليه وسلم وتعبده فى الغار عام الوحى فلا شك فى أنه كان عملا كسبيا مقويا لذلك الاستعداد السلبى من العزلة وعدم مشاركة المشركين فى شىء من عباداتهم ولا عاداتهم. ولكنه لم يكن يقصد به الاستعداد للنبوّة. لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى
(1) النافرة: المحاكاة والمفاخرة فى الأحساب والأنساب.
(2)
كان للعرب فى عهد الجاهلية أسواق ومجامع فى الحجاز يقصدونها فى موسم الحج للبيع والشراء، ولإظهار مناقبهم ومجد آبائهم وقبائلهم، أولها عكاظ بالضم (بوزن غراب)، وهى من عمل الطائف على طريق اليمن. وقال أبو عبيد: هى صحراء مستوية لا علم (بفتحتين) بها ولا جبل، وهى بين نجد والطائف، وكان يقام فيها السوق نحوا من نصف شهر فى ذى القعدة، ثم يأتون سوق ذى مجنة (بكسر الميم وتشديد النون) وهى دون عكاظ إلى مكة، فيقيمون فيها إلى آخر ذى القعدة، ثم يأتون سوق ذى المجاز وهى أقرب إلى مكة فيقيمون فيها إلى يوم التروية (وهو الذى قبل عرفة الذى هو تاسع ذى الحجة)، ومنها يصدرون إلى منى فعرفات.
الملك أن عقب رؤيته حصول مأموله وتحقق رجائه، ولم يخف منه على نفسه، وإنما كان الباعث لهذا الاختلاء والتحنث اشتداد الوحشة من سوء حال النّاس والهرب منها إلى الأنس بالله تعالى والرجاء فى هدايته إلى المخرج منها، كما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام فى تفسير قوله تعالى من سورة الضحى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 7]، وما يفسره من قوله عز وجل فى سورة الشورى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:
52، 53]، وألمّ به فى رسالة التوحيد إلماما مختصرا مفيدا، فقال:
ولكنّ الأمر لم يجر على سنته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء فى الكتاب من قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخلق العظيم، حاشا لله إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هى الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل، إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته» أ. هـ.
(أقول) وجملة القول أن استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله تعالى روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كل ما فى العالم من التقاليد الدينية والأعمال الوراثية والعادات المنكرة، إلى أن تجلّى فيها الوحى الإلهى بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه، لتجديد دين الله المطلق الذى يرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة بما يناسب حالهم واستعدادهم، وأراد إكمال الدين به فجعله خاتم النبيين، وجعل رسالته عامة دائمة، لا يحتاجون بعدها إلى وحى آخر.
(1) كأمية بن أبى الصلت وعمرو بن نفيل.