الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل
نحن (المسلمين) نؤمن بأن إنجيل المسيح عليه السلام هدى ونور بشهادة القرآن له، وإن كنا لا نعرفه، وإنما نؤمن أنه هداية خاصة مؤقتة .. لا عامة دائمة. وإن الله تعالى إنما أكمل دينه ووحيه بالقرآن. ففضائله أتمّ وأكمل. وأعمّ وأشمل. وأبقى وأدوم.
وأذكر فضيلتين من فضائل الإنجيل يزعم النصارى أن ما هو مأثور عندهم فيهما أكمل وأفضل مما جاء به الإسلام؛ (الأولى): قول المسيح عليه السلام: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، ومن ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر» «1» ، ومن المعلوم بالبداهة أن امتثال هذه الأوامر يتعذر على غير الأدلة المستعبدين من الناس، وأنه قد يكون من أكبر المفاسد بإغراء الأقوياء بالضعفاء الخاضعين، وإنك لتجد أعصى الناس لها من يسمون أنفسهم بالمسيحيين.
أمثال هذه الأوامر لا تأتى فى دين الفطرة العام لأن امتثالها من غير المستطاع، والله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]، وإنما قرر القرآن فى موضوعها الجمع بين العدل والفضل والمصلحة. قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40 - 43].
ولا يخفى أن العفو والمغفرة للمسيء إنما تكون من القادر على الانتصار لنفسه، وبذلك يظهر فضله على من عفا عنه، فيكون سببا لاستبدال المودة بالعداوة، فى مكان الإغراء التعدى ودوام الظلم، ولذلك قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35].
فانظر كيف بين مراتب الكمال ودرجاته من العدل والفضل، وكيف استدل عليه بما فيه من المصلحة وحكم العقل، أفليس هذا الإصلاح الأعلى على لسان أفضل النبيين والمرشدين دليلا على أنه وحى من الله تعالى قد أكمل به الدين؟ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، لا يجحده إلا من سفه نفسه فكان من الجاهلين.
(1) راجع هذه الأوامر فى أواخر الفصل الخامس من إنجيل متى.
(الثانية): مبالغة المسيح عليه السلام فى التزهيد فى الدنيا والأمر بتركها وذم الغنى، حتى جعل دخول الجمل فى ثقب الإبرة أيسر من دخول الغنى ملكوت السماوات.
ونقول: إن هذه المسألة وسابقتها إنما كانتا إصلاحا مؤقتا لإسراف اليهود وغلوهم فى عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم، وآثروا دنياهم على دينهم، والغلو يقاوم مؤقتا
بضده.
وكذلك كانت دولة الرومان السالبة لاستقلال اليهود وغيرهم دولة مسرفة فى الظلم والعدوان، والفسق والطغيان.
وأما الإسلام فهو دين البشر العام الدائم، فلا يقرر فيه إلا ما هو لمصلحة الناس كلّهم فى دينهم ودنياهم، وهو فى هذه المسألة ذم استعمال المال فيما يضر من الإسراف والطغيان، وذم أكله بالباطل ومنع الحقوق المفروضة فيه والبخل به عن الفقراء والضعفاء. ومدح أخذه بحقه وبذله فى حقه، وإنفاقه فى سبيل الله بما ينفع الناس ويعزّ الملة ويقوى الأمة، ويكون عونا لها على حفظ حقيقتها واستقلالها.
وسترى فى المقصد ما هو أعظم من هذا فى إصلاحه العالى.
فهذه المسألة وما قبلها مما أكمل الله تعالى به الدين، فيما أوحاه من كتابه إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين، وما كان لرجل أمى ولا متعلم أن يصل بعقله إلى أمثال هذا الإصلاح لتعاليم الكتب السماوية التى يتعبّد بها الملايين من البشر، ولكتب الحكماء والفلاسفة أيضا، فهل الأقرب إلى العقل أن يكون بوحى من الله عز وجل، أم من نفس محمد صلى الله عليه وسلم؟.
ومهما أنسى من شىء فلن أنسى أول كلمة فى المفاضلة بين فضائل الإسلام والمسيحية طرقت سمعى ووعاها قلبى، أتحسبون أننى سمعتها من أحد شيوخنا الأعلام كالعلامة الشيخ حسين الجسر أو الأستاذ الإمام؟ لا لا، إنما سمعتها من أكبر وجهاء النصارى فى طرابلس الشام (إسكندر كاستفليس) الذى كان قنصل دولتى روسيا وألمانيا معا، جئته من قبل والدى فى مسألة مالية وأنا تلميذ، وكان يسمع أننى عصرى حر الفكر، فلما انتهى الحديث الذى جئته من أجله فتح لى باب الحديث فى الأمور القوميّة والوطنيّة والترقى العصرى، فسمع منى انتقادا لتقصير مسلمى بلادنا وتأخرهم عن غيرهم خلافا لما يرشدهم إليه دينهم، ولم يكن يتوقع هذا منى، فعاملنى بمثل حريتى، وعلى ما كان يصفه به وجهاء بلادنا من التعصب الدينى السياسى لا الاعتقادى، وكان مما قاله هذه الكلمة: إن فى الإسلام فضائل كالجبال وأشمخ وأرسخ، ولكنكم دفنتموها حتى لا تكاد تعرف أو ترى، ونحن عندنا شىء قليل ضئيل ككلمة «حب الله والقريب» فما زلنا نمطه ونمده ونقول الفضائل المسيحية حتى ملأ الدنيا كلها.