الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركن الثالث للدين: العمل الصالح
الركن الثالث من مقاصد بعثة الرسل- وهو العمل الصالح- أثر لازم للإيمان بالله وبالحساب والجزاء فى الآخرة وثمرة له، وهو يمدّه ويستمدّ منه فكل من الإيمان والعمل يغذّى الآخر ويقويه، ويتوقف كمال كل منهما على الآخر؛ فمن فسد إيمانه فسد عمله، وكان رياء ونفاقا أو تقليدا صوريا. فلا يكون العمل صالحا مصلحا لعامله إلا بجعله على الوجه الذى شرعه الله لأجله. وهذا مكرر فى القرآن فى سور كثيرة لإصلاح ما أفسده البشر فيه يجعله تقليديا غير مزكّ للنفس ولا مصلح لشئون الاجتماع، ولكن دون تكرار توحيد الله وتقديسه الذى هو الأصل الذى يتبعه غيره، على أنه يقرنه به.
ولولا الحاجة إلى هذا التكرار فى التذكير والتأثير لكانت سورة العصر وحدها كافية فى الإصلاح العلمى العملى على قصرها، كسورة الإخلاص فى الركن الأول الاعتقادى، وكل منهما تكتب فى سطر واحد، فهما من معجزات إيجاز القرآن وهدايته، وكسورة الزلزلة فى الركن الثانى وهى تكتب فى ثلاثة أسطر؛ وقد روى الإمام أحمد، والطبرانى فى الكبير أن صعصعة بن معاوية أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7،
8]، فقال حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها.
وروى أنّ بعض الأعراب سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال: يا رسول الله: أمثقال ذرة؟ قال:
«نعم» . فقال الأعرابى: وا سوأتاه ثم قام وهو يقولها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«لقد دخل قلب الأعرابى الإيمان» . وروى عن زيد بن أسلم رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم دفع رجلا إلى رجل يعلمه فعلمه حتى بلغ هذه الآية فقال: حسبى- فذكر الرجل المعلم ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال له: «دعه فقد فقه» . نقل هذه الروايات وغيرها السيوطى فى الدر المنثور عن مخرجيها، ومنها أن بعض كبار الصحابة كان ربما يعطى المسكين حبة عنب ويقول إن فيها ذات كثيرة، اهتداء بهذه الآية، وبقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث مسلم:«لا تحقرنّ من المعروف شيئا» .
فتدبر هذا تعلم منه قدر استعداد عقول العرب لهداية القرآن، وكيف صلحت به أنفسهم، وصاروا أئمة الناس فى الإصلاح، آمن بعضهم بأنه يرى فى الآخرة جزاء عمله خيره وشره وإن قلّ فكان كالذرة، فوطّن نفسه على عمل كل ما استطاع من الخير، وترك كل عمل من الشر، وهذا فقه الدين كله كما شهد له مبلغ الدين صلى الله عليه وسلم.
إنما كان العمل الصالح من لوازم الإيمان بالله فى الدرجة الأولى لأن من عرف الله تعالى عرف استحقاقه للحمد والشكر والعبادة والحب والتعظيم، وهو من لوازم الإيمان بالجزاء على الأعمال فى الدرجة الثانية خوفا من العقاب ورجاء فى الثواب. فالأركان الثلاثة يمر بعضها بعضا بمقتضى هداية الأنبياء الموافقة للفطرة الإنسانية دون تقاليد الوثنية التى لا شأن فيها لعلم الإنسان ولا عمله فى سعادته، لأنّ مدارها على إيمانه بوجود الفادى الشفيع أو على إقراره به. وإن كان لا يعقله، بل ينكره عقله، وتأباه فطرته، وقد أبطل القرآن عقيدة الفداء والشفاعة الوثنية فى آيات عديدة.
ويدخل فى الأعمال الصالحة العبادات المفروضة التى يتقرب بها إلى الله تعالى، سائر أعمال البر التى ترضيه بمالها من التأثير فى صلاح البشر كبر الوالدين وصلة الرحم وإكرام اليتامى والمساكين. ومن أصوله الوصايا الجامعة فى آيات سورة الإسراء وهى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما «1» وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً «2» مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «3» إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ
(1) كلمة (أف) على أقل التضجر، والانتهار الإغلاظ فى الإنكار، والقول الكريم هو ألطف ما يقال وأدلة على الأدب والاحترام.
(2)
أى ملوما من الناس وفى حسرة من نفسك.
(3)
السلطان هو القصاص، والإسراف فيه قتل من لم يثبت عليه القتل.
وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الإسراء: 23 - 39].
هذه الآيات أجمع وأعظم من الوصايا العشر التى فى التوراة. وتأمل آيات الوصايا فى سورة الأنعام (151 - 153)، وآية البر فى سورة البقرة (177)، وغير ذلك من آيات الحث على الفضائل، والزجر عن الرذائل والمعاصى الضارة بالأبدان والأموال، والأموال، والأعراض والعقول والأديان، ومثارها الأكبر إتباع الهوى وطاعة وسوسة الشيطان، ويضادهما ملكة التقوى، فهى اسم جامع لما يقى النفس من كلّ ما يدنّسها وتسوء به عاقبتها فى الدنيا والآخرة، ولهذا تذكر فى المسائل الدينية والروحية والحربية وغيرها، وهاك كلمة وجيزة فى الموضوع.