الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان
هذا هو القطب التهذيبى الأعظم من أقطاب الآيات المنزلة فى المال وأكثرها فيه، وما ذكر قبله فهو وسائل له، وما يذكر بعده فهو بيان للعمل به، وأظهر الشواهد فيه أن الله تعالى جعله هو الفصل بين الإسلام الصحيح المقترن بالإذعان، المبنى على أساس الإيمان، وجعل دعوى الإيمان بدون شهادته باطلة، وإن كانت دعوى الإسلام تقبل مطلقا؛ لأن أحكامه العملية تبنى على الظواهر، والله تعالى هو الذى يحاسب على السرائر، وعليها مدار الجزاء فى اليوم الآخر، فالإسلام عمل قد يكون صوريا غير صادر عن إخلاص وإذعان، والإيمان يقين قلبى يستلزم أعمال الإسلام، ولكن الإسلام الصورى الصادر عن استحسان لا عن نفاق، يكون أقرب الوسائل إلى يقين الإيمان، والأصل فى هذه المسألة قول الله عز وجل:
قالَتِ الْأَعْرابُ «1» آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 14، 15]، فقدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس فى تحقيق صحة الإيمان وصدق مدعيه، وقوله: لا يَلِتْكُمْ معناه لا ينقصكم.
ويلى هذا الشاهد آية البر الناطقة بأن بذل المال على حبه بالاختيار، أول آيات الإيمان ويليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة التى يجيبها إمام المسلمين وسلطانهم بالإلزام، ويليهما سائر أمهات الفضائل ومعالى الأخلاق، وهى قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] وفى قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ قولان:
(1) الأعراب: اسم لسكان البوادى دون سكان المدائن والقرى. والآيات نزلت فى قبيلة بنى أسد. أسلموا عن قحط ومجاعة ليتصدق عليهم المسلمون ثم حسن إسلامهم.
(أحدهما): أعطى المال وبذله على حبه إياه كقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92].
(والثانى): أن الضمير فى حبه لله تعالى كقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8]، أى حب الله تعالى. وتجد بيان الذروة العليا من تفضيل حب الله ورسوله على المال وغيره من متاع الدنيا فى قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة: 24].
ومن الآيات فى تفضيل المؤمنين المنفقين على غيرهم وتفاوتهم فى ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95].
وقال الله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الحديد: 10].
وقد ذكر إنفاق المال فى وجوه البر والخير من أمر ونهى ووصف فى عشرات من آيات الذكر الحكيم. وكذلك الصدقة وما تصرف منها من فعل ووصف، وكذلك الزكاة وأبلغ من ذلك التعبير عن التصدق والإنفاق بإقراض الله تعالى ووعد مقرضه بالمضاعفة له فى مثل قوله تعالى فى سورة البقرة الآية (2)، وسورة الحديد الآية (11)، وسورة التغابن الآية (17).
ومن الآيات البليغة فى الترغيب فيه ومضاعفة ثوابه. وبيان آدابه: عشرون آية من أواخر سورة البقرة. هى من أواخر ما نزل من القرآن يتخللها الوعيد الشديد على أكل الربا، فرجعها من الآيات 261 إلى 281] مع تفسيرها من الجزء الثالث- تفسير المنار «1» .
ومن البلاء المبين أن نرى الشعوب الإسلامية فى هذه القرون الأخيرة قد قصرت عن جميع الشعوب القوية فى بذل المال للجهاد فى سبيل الله الذى يحفظ استقلالهم ويعتز به ملكهم، وتعلو به كلمة الله تعالى فيهم، ثم فى غيرهم، وفى طرق البر التى ترتقى بها
(1) وراجع كلمة المال فى الجزءين 10 و 11 وغيرهما من نفس المرجع.