الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته
أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:
لو أن عقائد الإسلام المنزلة فى القرآن من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من الحساب والجزاء، ودار الثواب ودار العقاب. جمعت مرتبة فى ثلاث سور أو أربع أو خمس مثلا ككتب العقائد المدونة.
ولو أن عباداته من الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والدعاء والأذكار وضع كل منها فى بعض سور أيضا مبوّبة مفصّلة ككتب الفقه المصنفة.
ولو أنّ آدابه وحكمه وفضائله الواجبة والمندوبة، وما يقابلها من الرذائل والأعمال المحرمة والمكروهة أفردت هى وما تقتضيه من الترغيب والترهيب من المواعظ والنذر والأمثال، الباعثة لشعورى الخوف والرجاء. فصلت فى عشر سور أو أكثر ككتب الأخلاق والآداب المؤلفة.
ولو أن قواعده التشريعية، وأحكامه الشخصية والسياسية والحربية والمالية والمدنية وحدوده وعقوباته التأديبية، رتبت فى عدة سور خاصة بها كأسفار القوانين الوضعية.
ثم لو أن قصص النبيين والمرسلين وما فيها من العبر والمواعظ والسنن الإلهية سردت فى سورها مرتبة كدواوين التاريخ.
لو أن كل ما ذكر وما لم يذكر من مقاصد القرآن التى أراد الله بها إصلاح شئون البشر جمع كل نوع منها وحده كترتيب أسفار التوراة التاريخى التى لا يعلم أحد مرتبها، أو كتب العلم والفقه والقوانين؛ لفقد القرآن بذلك أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول من التشريع وحكمة التنزيل، وهو التعبّد به واستفادة كل حافظ للكثير أو للقليل من سوره- حتى القصيرة منها- كثيرا من مسائل الإيمان والفضائل والأحكام والحكم المثبتة فى جميع السور، لأنّ السورة الواحدة لا تحوى فى هذا الترتيب المفروض إلا مقصدا واحدا من تلك المقاصد، وقد يكون أحكام الطّلاق أو الحيض. فمن لم يحفظ إلا سورة طويلة فى موضوع واحد يتعبّد بها وحدها، فلا شكّ أنه يملّها.
وأما سورة المنزلة بهذا الأسلوب الغريب، والنظم العجيب، فقد يكون فى الآية الواحدة الطويلة والسورة الواحدة القصيرة، عدة ألوان من الهداية وإن كانت فى موضوع واحد فترى فى سورتى الفيل وقريش على قصرهما ذكر مسألتين تاريخيتين قد جعلتا حجة على مشركى قريش فيما يجب عليهم من توحيد الله وعبادته، بما منّ عليهم بعنايته بحفظ البيت الحرام وأمنه وهو مناط عزّهم وفخرهم وشرفهم، ومعقل حياتهم. ومحبى تجارتهم ورزقهم.
قلت: إنّ القرآن لو أنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول. وأقول أيضا: إنه لو أنزل هكذا لفقد بهذا الترتيب أخص مرات إعجازه المقصود بالدرجة الثانية.
كلا إنّ كلّ واحدة من الميزتين مقصودة لذاتها. فأولى أن يعبر عن الميزة الأولى بالموضوع وعن الثانية بالشكل. كاصطلاح المحاكم. فيقال: لو كان القرآن مرتبا مبوبا كما ذكر لكان خاليا من أعظم مزاياه على غيره من الكتب شكلا وموضوعا.
يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذى أنزله به رب العالمين. العليم الحكيم الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلّها بعضها ببعض وتفريقها فى السور الكثيرة الطويلة منها والقصيرة بالمناسبات المختلفة، وتكرارها بالعبارات البليغة. المؤثّرة فى القلوب المحركة للشعور النافية للسآمة والملل. من المواظبة على ترتيلها بنغمات نظمه الخاص به وفواصله المتعددة القابلة لأنواع من التغنى والنغم الذى يحرك فى القلوب وجدان الخشوع وخشية الإجلال للرب المعبود، والعرفان بقدسه وكماله، والملاحظة لجماله وجلاله والتعرض لتجلى أسمائه وصفاته، والتفكر فى آيات مصنوعاته، والرجاء فى رضوانه ورحمته، والخوف من غضبه وعقوبته، والاعتبار بسننه فى خلقه والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابى فى الترغيب والترتيب. والتعجيب، والتعجيب، والتكريه والتحبيب، والزجر والتأنيب، واستفهام الإنكار والتقرير، والتهكم والتوبيخ بما لا نظير له فى كلام البشر من خطابه ولا شعر، ولا رجز ولا سجع، فبهذا الأسلوب الرفيع فى النظم البديع وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد فى معنى وصفه أنه لا تبلى جدته، ولا تخلقه كثرة الترديد «1» ؛ وحكمة ذلك وغايته تعلم مما وقع بالفعل، وهاك بيانه بالإجمال:
(1) المعنى المراد من الحديث هنا أن القرآن لا تنقضى عجائبه الدالة على أنه من الله تعالى، ولا يمل ويسأم من كثرة التلاوة، ولا يخلق بطول الزمان، وهو من خلق الثوب إذا بلى، وأخلقه أبلاه، وأصح ما ورد
_________
فى هذا ما رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه، ومحمد بن نصر، وابن الأنبارى فى كتاب المصاحف، والحاكم فى المستدرك وصححه، والبيهقى من حديث ابن مسعود مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم. ولفظه: «إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه. لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله تعالى يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إنى لا أقول (الم) حرف، ألف ولام وميم.
قوله: لا يزيغ فيستعتب؛ معناه لا يميل عن الحق فيطلب منه العتبى أى الرجوع إليه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر، أى ولم يخرجه البخارى بسبب ما قيل فى صالح بن عمر فى سنده، وليس كذلك فإن صالحا قد خرج له مسلم، وإنما تركاه بسبب شيخه إبراهيم بن مسلم الهجرى (بفتحتين) الذى ضعفه الجمهور، وما ضعفوه بطعن فى صدقه أو حفظه وإنما وجدوا أنه رفع عدة أحاديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم هى موقوفة على عبد الله بن مسعود، وكذا على عمر رضى الله عنه. ولكن صرح سفيان بن عيينة بأنه جاء إبراهيم هذا فأعطاه كتبه فصحح له المرفوع والموقوف بقوله هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا عن عبد الله بن مسعود، وهذا عن عمر، والظاهر أن هذا الحديث مما رفعه سفيان، ولذلك خرجه ابن أبى شيبة ومن ذكرنا مرفوعا. وروى نحوه من حديث علىّ كرم الله وجهه واعتمده القاضى الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن.