الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء
الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه من البعث والحساب والجزاء على الأعمال، هو الركن الثانى للدين الذى بعث الله به الرسل عليهم السلام، وبه يكمل الإيمان بالله تعالى، ويكون باعثنا على العمل الصالح وترك الفواحش والمنكرات والبغى والعدوان، وكان جل مشركى العرب ينكرونه أشدّ الإنكار، وأما أهل الكتاب وغيرهم من الملل- التى كان لها كتب وتشريع دينى ومدنى، ثم فقدت كتبهم أو حرّفت واستحوذت عليهم الوثنية- فكلهم يؤمنون بحياة بعد الموت وجزاء يختلفون فى صفتهما لا فى أصلهما ولكن إن إيمانهم هذا قد شابه الفساد ببنائه على بدع ذهبت بجل فائدته فى إصلاح الناس، وأساسها عند الهنود وغيرهم من قدماء الوثنيين، وخلائف النصارى المتبعين لدين القيصر قسطنطين، هو وجود المخلص الفادى الذى يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه، وهو الأقنوم الثانى من الثالوث الإلهى الذى هو عين الأول والثالث وكل واحد منهما عين الآخر، وكل ما تقوله النصارى فى فداء المسيح للبشر وغير ذلك من ولادته إلى رفعه فهو نسخة مطابقة لما يقوله الهنود فى كرشنة وبوذا فى اللفظ والفحوى كما، قلما يختلفان إلا فى الاسمين.
كرشنة ويسوع «1» .
وأما اليهود فكلّ ديانتهم خاصة بشعب إسرائيل، وادعاء محاباة الله تعالى له على سائر الشعوب فى الدنيا والآخرة، ويسمونه إله إسرائيل، كأنّه ربهم وحدهم لا رب العالمين، وديانتهم أقرب إلى المادية منها إلى الروحية، فكان فساد الإيمان بهذا الركن من أركان الدين تابعا لفساد الركن الأول وهو الإيمان بالله تعالى ومعرفته، ومحتاجا إلى الإصلاح مثله.
جاء القرآن للبشر بهذا الإصلاح، فقد أعاد دين النبيين فى الجزاء إلى أصله المعقول وهو ما كرّم الله تعالى به الإنسان، من جعل سعادته وشقائه منوطين بإيمانه وعمله، اللذين هما فى كسبه وسعيه، لا من إيمان غيره وعمله، وأنّ الجزاء على الكفر والظلم والفساد فى الأرض، يكون بعدل الله تعالى بين جميع خلقه بدون محاباة شعب على شعب والجزاء على الإيمان والأعمال الصالحة يكون بمقتضى الفضل، فالحسنة بعشرة أمثالها وقد يضاعفها الله تعالى أضعافا كثيرة.
(1) عقيدة التثليث والفداء معروفة فى وثنية قدماء المصريين والبابليين والأوروبيين أيضا، وقد فصل ذلك فى كتاب خاص بالشواهد التاريخية اسمه:(العقائد الوثنية، فى الديانة النصرانية)، تأليف الأستاذ محمد طاهر التنير البيروتى، وطبع سنة 1330.
وقد نص القرآن على ما جاء به من هذا الإصلاح هو ما أوحاه إلى إبراهيم أبى الأنبياء المعروفين الذين يدين الله بنبوتهم اليهود والنصارى، وإلى موسى والأنبياء الذين كانوا من بعده على شرعه، فقال تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 35 - 41]، أى:
أن أصل دين الله لجميع رسله أنه لا تحمل نفس وازرة- أى خاطئة- خطيئة نفس أخرى بفداء ولا غيره، وأنه ليس للإنسان إلا سعيه وعمله فلا يجزى بعمل غيره. وقد يدخل فى عموم عمله ما يكون سببا له كالذى يعمله ولده أو تلميذه بتأثير تربيته وتعليمه، وما يسّنه من سنّة حسنة أو سيئة فله مثل جزاء من يعمل بهما من بعده.
الأصل الجامع فى ذلك قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 7 - 10]، أى: إن الله الذى خلق هذه النفس وسواها بما وهبها من المشاعر والعقل، قد جعلها بإلهام الفطرة والغريزة مستعدة للفجور الذى يرديها ويدسيها «1» ، والتقوى التى تنجيها وتعليها، ومتمكنة من كل منهما بإرادتها، والترجيح بين خواطرها ومطالبها، ومنحها العقل والدين يرجحان الحق والخير على الباطل والشر، فبقدر طهارة النفس وأثر تزكيتها بالإيمان ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال يكون ارتقاؤها فى الدنيا وفى الآخرة والضد بالضد فالجزاء أثر طبيعى للعمل النفسى والبدنى ولذلك قال تعالى:(6: 139 سيجزيهم وصفهم) وهذا هو الحق الذى يثبته من عرف حقيقة الإنسان، وحكمة الديان، وهو مما أصلحه القرآن من تعاليم الأديان.
فإذا علمت ما كان من إنكار مشركى العرب للبعث والجزاء، ومن فساد إيمان أهل الكتاب وسائر الملل فى هذه العقيدة، وعلمت أنها مكملة للإيمان بالله تعالى، وأن تذكرها هو الذى يقوى الوازع النفسى الذى يصد الإنسان عن الباطل والشر والظلم والبغى، ويرغبه فى التزام الحق والخير وعمل البر- علمت أن إصلاحها ما فعل العجل
فى شعب كبير إلا بتكرار التذكير بها فى القرآن، بالأساليب العجيبة التى فيها من حسن البيان، وتقريب البعيد
(1) أصل معنى «دساها» : أخفاها مبالغة من دسه فى التراب، واستعملت هنا ضد زكاها. فإذا كان معنى زكاها: طهرها فأظهرها وأعلى قدرها، فمعنى دساها: دنسها بما يدفن جميع مزاياهم كأنها ليست نفسا ناطقة. وأصل دساها دسسها قلبت السين الثانية ياء وله نظائر.
من الأذهان، تارة بالحجة والبرهان، وتارة بضرب الأمثال، وقد تكرّر فى آيات بينات، لعلها تبلغ المئات، ومن إعجازه أنها لا تمل ولا تسأم، بل لا يكاد يشعر قارئها بتكرار معانيها، وإن تقارب جنسها ونوعها وترادفت سورها. فتأمل ذلك فى سور المفصل، ترى تكرار الكلام على البعث والجزاء فيها بما لا يخطر على بال بشر من اختلاف الأسلوب والنظم والفواصل ولا سيما المتناسبة المتصلة كالمرسلات مع النبأ، والنازعات مع عبس، والتكوير مع الإفطار، والمطففين مع الانشقاق وغيرهن.
قلنا: إنّ الإيمان بالبعث والجزاء، وهو الركن الثانى فى جميع الأديان، من لوازم الركن الأول وهو الإيمان بالله المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن البعث فى أفعاله وأحكامه، ولهذا كان من أظهر أدلة القرآن عليه قوله بعد ذكر البعث وجزاء الكافرين فى آخر سور المؤمنون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، وقوله فى آخر سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة: 36]، فكفر الإنسان بهذا الركن فى أركان الإيمان يستلزم كفره بحكمة ربّه وعدله فى خلقه وكفره بنعمته بخلقه فى أحسن تقويم. وبتفضيله على أهل عالمه (الأرض) حيث سخّرها وكل ما فيها لمنافعه، وعلى كثير ممن خلق فى عالم الغيب الذى وعده بمصيره إليه، ويستلزم جهله بما وهبه من المشاعر والقوى والعقل. وجهله بحكمته فى خلقه مستعدا لما ليس له حد ونهاية من العلم. الدال على أنه خلقه لحياة لا حد لها ولا نهاية فى الوجود.
ومن لوازم هذا الكفر والجهل كله احتقاره لنفسه باعتقاده أنه خلق عبثا لا لحكمة بالغة.
وأن وجوده فى الأرض موقوت محدود بهذا العمر القصير المنغص بالهموم والمصائب والظلم والبغى والآثام. وأنه يترك سدى لا يجزى كل ظالم من أفراد بظلمه. وكل عادل وفاضل بعدله وفضله. وإذا كان هذا الجزاء غير مطرد فى الدنيا لجميع الأفراد، تعين أن يكون جزاء الآخرة هو المظهر الأكبر للعدل العام، كما قال تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 185].
ومن أبدع أساليبه المكررة الجامعة وأروعها: المحاجة فى النار بين الأتباع والمتبوعين والغاوين والمغوين والضالين والمضلين، من شياطين الإنس والجن. وبراءة بعضهم من بعض ومنه التنادى والتحاور بين أهل الجنة وأهل النار.