الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جزيرتهم معقلا للإسلام وحده على اتساع سياسته مع غيرهم بإقرارهم على أوطانهم وأديانهم.
وبينت فيه أن بعض الصحابة كان قد ثقل عليهم نبذ عهود المشركين المقتضى لقتالهم مع سبقهم لنقض العهد مع النبى صلى الله عليه وسلم حتى بيّن الله لهم ذلك بأنهم إنما نقضوا عهده ونكثوا أيمانهم؛ لأنهم لا عهود لهم يلتزمونها بعقيدة وجدانية، ولا نظام متبع، وقال الله تعالى:
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة: 13] أى بالقتال ثم بنقض العهد فهم المعتدون «1» .
وإنما اشتبه على الغافلين الأمر بما كان فى بعض الغزوات والسرايا من بدء المسلمين بها ذاهلين عن حالة الحرب بينهم وبين المشركين باعتداء المشركين الأول واستمراره، فالدفاع لا يشترط أن يكون فى كل معركة وكل حركة.
وهذا الذى كان فى آخر أحكام القتال معهم يؤيد ما نزل فى أول الإذن للمسلمين بالقتال وهو قوله تعالى فى [سورة الحج، الآيتان: 39، 40]: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وتتمة الآيات فى القاعدة الثانية.
ولما نقضوا العقد الذى عقده النبى صلى الله عليه وسلم معهم فى الحديبية فى أواخر سنة ست للهجرة وعزم على فتح مكة سنة ثمان نزلت سورة الممتحنة (60) فى النهى عن ولاية المشركين، وفيها التصريح بأن النهى خاص بالذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من وطنهم لأجل دينهم، فهو نهى عن موالاتهم ومودتهم دون البر والعدل إلى كل مشرك. فتأمل الآيات 7، 8، 9 منها.
القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها
هى أن تكون الغاية الإيجابية من القتال- بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن- حماية الأديان كلها من الاضطهاد فيها أو الإكراه عليها، وعبادة المسلمين لله وحده وإعلائهم كلمته، وتأمين دعوته، وتنفيذ شريعته، وهى فى مصلحة البشر كلهم وإسداء الخير إليهم، لا الاستعلاء عليهم والظلم لهم.
(1) راجع تفسير هذه الآيات، من أوائل سورة التوبة فى الجزء العاشر- تفسير المنار.
والشاهد الأول قوله تعالى بعد ذلك الإذن لهم بالقتال الذى تلوناه آنفا: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41]. ذكر فى تعليل إذنه لهم بالقتال المذكور ثلاثة أمور:
(أولها): كونهم مظلومين معتدى عليهم فى أنفسهم، ومخرجين نفيا من أوطانهم وأموالهم لأجل دينهم وإيمانهم، وهذا سبب خاص بهم بقسميه الشخصى والوطنى، أو الدينى والدنيوى.
وقد جعلنا هذه الغاية للقتال قاعدة مستقلة من قواعد سورة الأنفال معبرين عنها «بحرية الدين ومنع فتون أحد واضطهاده لإرجاعه عن دينه» ، واستدللنا عليها بقوله
تعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 39] وقد كان المشركون يضطهدون المسلمين بكل ما قدروا عليه من الإيذاء والتعذيب لأجل ردهم عن دينهم، وأما المسلمون فلم يفعلوا ذلك فى الصدر الأول، ومن عساه شذ عن ذلك قليلا بعده فقد خالف حكم الإسلام الذى حرم الفتنة والاضطهاد والإكراه فى الدين وشرع فيه الاختيار، بل جعله شرطا لصحته.
(ثانيها): أنه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع لهدمت جميع المعابد التى يذكر فيها اسم الله تعالى اتباع الأنبياء كصوامع العباد، وبيع النصارى، وصلوات اليهود «كنائسهم» ومساجد المسلمين. بظلم عباد الأصنام. ومنكرى البعث والجزاء، وهذا سبب دينى عام صريح فى حرية الأديان فى الإسلام، وحماية المسلمين لها ولمعابد أهلها. وكذلك كان.
(فإن قيل): ولماذا لم يقر الإسلام المشركين على دينهم كما أقر اليهود والنصارى والمجوس؟
(قلت): إن الشرك الذى كان عليه العرب لم يكن دينا مبنيا على عبادة الله ومصلحة عباده كسائر الأديان حتى التى خالطها الشرك. فإنهم لم يكونوا يؤمنون بالبعث والجزاء على الأعمال عند الله تعالى على قاعدة «إن خيرا فخير. وإن شرا فشر» ، ولا كانوا يدينون الله تعالى بعمل الصالحات وتحريم المنكرات فأصول الدين العامة قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62].