الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى
تمهيد:
بينّا مقاصد القرآن أو أصول فقهه فى إصلاح البشر من طريق التدين والإيمان والعمل والإذعان، ومن طريق العقل والبرهان والفكر والوجدان، ومن طريق الحكم العادل والسلطان، ومن طريق إكمال نوع الإنسان، وما يتعلّق منه بالأفراد، وما يتعلّق منه بوحدة الجماعات والأجناس، وبقى ما يتعلق بفقهه فى إصلاح المفاسد الاجتماعية الكبرى الذى يتوقف كماله على ما تقدّم كله وهى:
(1)
طغيان الثروة ودولتها.
(2)
عدوان الحرب وقسوتها.
(3)
ظلم المرأة واستباحتها.
(4)
ظلم الضعفة والأسرى وسلب حريتهما، وهو الرقّ المطلق.
ذلك بأن جميع حظوظ الدنيا منوطة بها، ولا يتم الإصلاح فيها إلا بتعاون الدين والعقل، والعلم والحكمة والحكم، وإننا نتكلم عليها بالإجمال، مبتدئين بإرشاده فى مسألة المال، والآيات فيها تدور على سبعة أقطاب، وهاك البيان:
القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر
القاعدة الأساسيّة للقرآن فى المال أنه فتنة، أى اختبار وامتحان للبشر فى حياتهم الدنيوية من معايش ومصالح، إذ هو الوسيلة إلى الإصلاح والإفساد، والخير والشر، والبر والفجور، وهو مثار التنافس فى كسبه وإنفاقه، وكنزه واحتكاره، وجعله دولة بين الأغنياء وتداوله فى المصالح والمنافع بين الناس.
وقد كان وما زال مثيرا للعداوات بين الأفراد والجماعات من الأقوام والدول وحلال المشكلات وشفاء المعضلات فيها، حتى ذهب بعض علماء الاجتماع إلى جعله هو السبب
لجميع الانقلابات السياسية والاجتماعية، وكذا الدينية حتى الإسلامية، كما بينت هذا فى التفسير ونقضته بما يعلم برهانه مما هنا، وناهيك من المبالغة فى إكبار أمر المال قول الحريرى فى قصيدة الدينار من المقامة الدينارية:
* لولا التقى لقلت جلت قدرته*
وقد قصّر علماء الفقه والأدب والتربية من أمتنا فى إعطاء المال حقّه من المباحث المناحى والمقاصد التى دونت فى هذا العصر فى عدة علوم ولكن هذه العلوم ما زادت البشر إلا فسادا، ولا يجدون علاجا لهذا الفساد إلا فى القرآن.
قال الله عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 186]، وقال تعالى حكاية عن نبيه سليمان عليه السلام حين رأى عرش ملكة سبأ مستقرا عنده: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل: 40]، وقال الله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37]، وقال الله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم: 39]، وقال الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14]، وقال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]، ومثلها فى سورة [التغابن، الآية: 15]، ويليها الترغيب فى الإنفاق وقصر الفلاح على الوقاية من شح النفس، وقال الله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46].
انظر هذا مع قوله تعالى فى أول هذه السورة وهى الكهف: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7]، والمراد من العمل ما يتعلق بما على الأرض من العمران، وأحسنه أنفعه للناس وأرضاه لله بشكره، ثم ما ضربه فيها من المثل بصاحبى الجنتين، والمثل للحياة الدنيا بنبات الأرض «1» .
وقال الله تعالى فى تعليل قسمة الفيء بين مستحقيه: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7]، والدولة- بضم الدال- المال المتداول، أى: لئلا يكون المال محصورا فى الأغنياء متداولا بينهم وحدهم (وهذا يسمونه اليوم بالرأسمالية).
(1) راجع الآيات: 38 - 46، سورة الكهف.
والشواهد فى فتنة المال فى القرآن كثيرة تجد الكلام عليها فى مواضع من تفسير المنار ولا سيما فى الجزء العاشر منه «1» .
فمن الآيات فى ارتباط السعادة والفلاح بإنفاق المال، والشقاء بمنعه ما هو للترهيب وما هو للترغيب، وجمع بين الترغيب والترهيب فى قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]«2» ، أى إن منع إنفاق المال فى سبيل الله من أسباب التهلكة. ثم قال فى الترغيب: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وكذا قوله تعالى من سورة الليل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل: 5 - 11].
هذا كله تفصيل لقوله تعالى قبله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4]، ومعناه بالإجمال والإيجاز: إنّ سعيكم فى الكسب والإنفاق مختلف مبدأ وصفة وغاية وثمرة، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى، ما عليه من الحقوق الشخصية والقومية والمصالح الواجبة والمندوبة، وَاتَّقى، سوء عاقبة منعها وضرره فى الأفراد وفى الأمة، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، وهى ما وعد الله من الجزاء على الإحسان بما هو أحسن منه من مضاعفة الثواب بمثل قوله:[النجم: 31] وهو شامل لجزاء الدنيا والآخرة فَسَنُيَسِّرُهُ بمقتضى سنتنا فى تأثير صفات النفس من الأعمال، وتأثير الأعمال فى الأحوال الخاصة والعامة لِلْيُسْرى أى الخطة أو الطريقة الفضلى فى اليسر والسهولة والمنفعة له وللناس فيحبه الناس ويحبه الله وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بما عليه من هذه الحقوق وَاسْتَغْنى بماله عن حبّ الناس وحمدهم، وعن حب الله ومثوبته وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى التى بيناها آنفا بعدم طلبها وتحريها بالإعطاء والإنفاق، وإن اعترف بها باللسان فَسَنُيَسِّرُهُ بمقتضى سنتنا المبينة آنفا لِلْعُسْرى من الخطتين، وسوأى الطريقتين فيكون سببا لعسر البشر وعدوا لهم ولربهم، ويكون له شر الجزاء منهم ومنه عز وجل فى الدارين. ويؤيد ذلك شواهد القطب الثانى من آيات المال وهى:
(1) راجع فى الفهرس كلمة المال: فتنته.
(2)
ص 209 ج 2 تفسير المنار.