الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
هذا هو الجزء الثانى من تاريخ الأدب العربى، وهو خاص ب
العصر الإسلامى
، وقد وزّعته على كتابين، جعلت أوّلهما لعصر صدر الإسلام وثانيهما لعصر بنى أمية، وكل كتاب ينقسم فصولا تبحث فيها جوانب الحياة فى العصر بحثا ترتّب فيه المقدمات والنتائج موصولة بالنصوص، كما يبحث فيها الأعلام النابهون فى الشعر والخطابة والكتابة بحثا ترسم فيه شخصياتهم وخصائصهم الأدبية.
ودفعتنى النصوص الكثيرة فى عصر صدر الإسلام إلى نقض الفكرة التى شاعت فى أوساط الباحثين من عرب ومستشرقين. إذ ذهبوا يزعمون أن الإسلام انحسر عن أثر ضئيل نحيل فى أشعار المخضرمين. وهو زعم غير صائب، بل هو زعم يسرف فى تجاوز الحق، فقد أتمّ الله على هؤلاء الشعراء نعمة الإسلام، وانتظم كثيرون منهم فى صفوف المجاهدين فى سبيل الله داخل الجزيرة العربية وفى الفتوح. وهم فى ذلك كله يستلهمون الإسلام، ويعيشون له، ويعيشون به، يريدون أن ينشروا نوره فى أطباق الأرض، وقد مضوا يصدرون عنه فى أشعارهم صدور الشّذى عن الأزهار الأرجة. وبالمثل صدروا عنه فى نثرهم، فإذا هم يستحدثون فنونا من النثر ينشئونها إنشاء إذ أنشأوا-على هدى القرآن الكريم-آيات بديعة من المواعظ الدينية، كما أنشأوا ضروبا من المعاهدات والرسائل السياسية والتشريعية.
ثم كان عصر بنى أمية، عصر امتزاج العرب بغيرهم من الأمم وانسياحهم فى مشارق الأرض ومغاربها، مما أذكى فى نفوسهم جذوة الشعر، فإذا هو يحيى فى
أوطان جديدة حياة خصبة، ولا أقصد الكوفة والبصرة والشام ومصر فحسب، بل أيضا خراسان التى أهملها مؤرخو أدبنا، مع ازدهار الشعر فيها ازدهارا رائعا.
وقد أخذ الشعراء يخضعون فى كل مكان لمؤثرات مختلفة: بيئية ودينية وحضارية وثقافية واقتصادية. وفى هذه الأثناء كان الموالى يتعرّبون، وسرعان ما أتقنوا العربية وأعربوا بها عن قلوبهم وعقولهم وأعماق وجدانهم. وليس بصحيح ما يردده المستشرقون من أنهم كانوا يختصمون مع العرب فى العصر الأموى، فقد كانت العلاقة بين الجماعتين حينئذ علاقة برّ وتعاون وإخاء.
والكتاب الثانى يبسط كلّ هذه الظروف الجديدة فى حياة الأمة العربية لعصر بنى أمية وكيف اندفع الشعراء فى ظلالها ينهضون بالشعر ويتطورون به فى فنونه وأغراضه، فقد مضى شعراء الهجاء والفخر فى البصرة ينفذون إلى لون جديد هو النقائض التى بثّوا فيها مناظرة عنيفة فى المثالب والمفاخر القبلية.
كان يجتمع لها معاصروهم فى سوق المربد للاستماع إليها والفرجة والمتعة. ومضى شعراء المديح ينفذون إلى لون جديد هو الشعر السياسى الذى صوّر فيه الزبيريون والخوارج والشيعة وغيرهم نظرياتهم فى الحكم وقيامهم من دونها مدافعين. ولكل فرقة من هذه الفرق فى شعرها طوابع تميزه، فبينما يتميز مثلا شعر الخوارج بتصوير استبسالهم فى الحروب وتهافتهم على حياض الموت مستصغرين الدنيا ومتاعها الزائل نرى شعر الشيعة يتميز بكثرة ما ذرفوا على أئمتهم المستشهدين من دموع غزار، مطالبين بردّ السلطان إلى أصحابه الشّرعيين. وقد اضطرمت فنون الشعر اضطراما لا فى المديح والهجاء والفخر فحسب، بل أيضا فى الغزل، فظهر فيه الغزل العذرى بجانب الغزل الصريح، وزكا شعر الزهد، ونما شعر المجون ووصف الطبيعة، ومدّ الرّجّاز طاقة أراجيزهم، وسلكوا فيها الطّرديّات، فهى ليست عباسية-كما كان يظنّ-إنما هى أموية. وتحول نفر منهم بأراجيزه إلى غاية تعليمية للغة وشواذّها وشواردها، حتى غدت-فى بعض جوانبها-كأنها متون للاستظهار والحفظ. وفى كل هذه الفنون والأغراض تعاقبت تراجم الشعراء.
ولعل عصرا عربيّا لم تزدهر فيه الخطابة كما ازدهرت فى عصر بنى أمية بأنواعها السياسية والحفلية والدينية، فقد اشتدت الخصومات بين الفرق السياسية
وانبرى خطباؤها يذودون عن نظرياتهم مؤلّبين الناس على خصومهم. ونشطت نشاطا عظيما خطابة المحافل بين أيدى الخلفاء والولاة. أما الخطابة الدينية فاحتدمت على لسان الوعّاظ والقصّاص احتداما، استطاعوا فى أثنائه أن يتخذوا لأنفسهم أسلوبا جديدا، يرتفعون فيه عن ألفاظ العامة المبتذلة ويهبطون عن ألفاظ البدو الآبدة، أسلوبا يخاطبون به جميع الطبقات فى المراكز المتحضرة التى يختلط فيها العرب بالأعاجم، وقد أقاموه على الازدواج والترادف وتحلية الكلام بالأخيلة والمقابلات، مع العناية بدقائق المعانى وفتق الحيل للتعبير عن خفيّاتها. وقد أخذوا أنفسهم بتعليم شباب البصرة والكوفة كيف يحسنون الخطابة والمناظرة وكيف يتقنون إصابة الحجة، وبذلك كانوا أول من مهّد لوضع قواعد البلاغة العربية.
ونما تدوين المعارف فى عصر بنى أمية، سواء فيما يتصل بمعارف الجاهلية وأخبارها وأنسابها وأشعارها، أو فيما يتصل بالإسلام وكل ما يرتبط به من تشريع وتفسير وحديث نبوىّ وخطوب جسام. وقد مضوا يصنّفون فى المغازى والتاريخ وقصص الأنبياء، وفى المثالب والأمثال والمواعظ، وفى مسائل العقيدة من قدر وغير قدر، وفى الأغانى والمغنين وطبقاتهم. وترجموا رسائل فى الطب والنجوم والكيمياء، ودوّنوا كثيرا من الخطب ومن الرسائل السياسية والوعظية والشخصية. ونهض كتّاب الدواوين بالكتابة عن الخلفاء والولاة والقواد نهضة واسعة، جعلتهم يستعيرون من الوعاظ أسلوبهم الذى وصفناه، وما زالوا يرقون بكتابتهم، حتى وضعوا الرسائل الأدبية الخالصة. والله أسأل أن يهدينى سواء السبيل.
القاهرة فى 15 من يوليه سنة 1963 شوقى ضيف