المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - الكوفة والبصرة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٢

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر الإسلامى

- ‌الكتاب الأولفى عصر صدر الإسلام

- ‌الفصل الأولالإسلام

- ‌1 - قيم روحية

- ‌2 - قيم عقلية

- ‌3 - قيم اجتماعية

- ‌4 - قيم إنسانية

- ‌الفصل الثانىالقرآن والحديث

- ‌1 - نزول القرآن وحفظه وقراءاته

- ‌2 - سور القرآن وتفسيره فى العهد الأول

- ‌3 - اثر القرآن فى اللغة والأدب

- ‌4 - الحديث النبوى

- ‌الفصل الثالثالشعر

- ‌1 - كثرة الشعر والشعراء المخضرمين

- ‌2 - الشعر فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - الشعر فى عصر الخلفاء الراشدين

- ‌4 - شعر الفتوح

- ‌الفصل الرابعالشعراء المخضرمونومدى تأثرهم بالإسلام

- ‌1 - كثرة المخضرمين المتأثرين بالإسلام

- ‌4 - لبيد

- ‌5 - الحطيئة

- ‌الفصل الخامسالنثر وتطوره

- ‌1 - تطور الخطابة

- ‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - خطابة الخلفاء الراشدين

- ‌4 - الكتابة

- ‌الكتاب الثانىفى عصر بنى أمية

- ‌الفصل الأولمراكز الشعر الأموى

- ‌1 - المدينة ومكة

- ‌2 - نجد وبوادى الحجاز ونزوح قيس إلى الشمال

- ‌3 - الكوفة والبصرة

- ‌4 - خراسان

- ‌5 - الشام

- ‌6 - مصر والمراكز الأخرى

- ‌الفصل الثانىمؤثرات عامة فى الشعر والشعراء

- ‌1 - الامتزاج بالأمم الأجنبية وتعرّبها وأثر ذلك فى اللغة

- ‌2 - الإسلام وأثره فى موضوعات الشعر

- ‌3 - السياسة

- ‌4 - الحضارة

- ‌5 - الثقافة

- ‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

- ‌الفصل الثالثشعراء المديح والهجاء

- ‌1 - شعراء المديح

- ‌ نصيب

- ‌القطامى

- ‌2 - شعراء الهجاء

- ‌ ابن مفرّغ

- ‌ الحكم بن عبدل

- ‌3 - شعراء النقائض

- ‌4 - الأخطل

- ‌5 - الفرزدق

- ‌6 - جرير

- ‌الفصل الرابعشعراء السياسة

- ‌1 - شعراء الزبيريين

- ‌ ابن قيس الرقيات

- ‌2 - شعراء الخوارج

- ‌ عمران بن حطّان

- ‌الطّرمّاح

- ‌3 - شعراء الشيعة

- ‌ كثيّر

- ‌الكميت

- ‌4 - شعراء ثورة ابن الأشعث

- ‌ أعشى همدان

- ‌5 - شعراء بنى أمية

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل الصريح

- ‌ عمر بن أبى ربيعة

- ‌الأحوص

- ‌العرجى

- ‌2 - شعراء الغزل العذرى

- ‌ قيس بن ذريح

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌أبو الأسود الدّؤلى

- ‌4 - شعراء اللهو والمجون

- ‌أبو الهندى

- ‌5 - شعراء الطبيعة

- ‌ذو الرّمّة

- ‌6 - الرّجّاز

- ‌العجّاج

- ‌رؤبة

- ‌الفصل السادسالخطابة والخطباء

- ‌1 - ازدهار الخطابة

- ‌2 - خطباء السياسة

- ‌ زياد بن أبيه

- ‌3 - خطباء المحافل

- ‌ الأحنف بن قيس

- ‌4 - خطباء الوعظ والقصص

- ‌ الحسن البصرى

- ‌الفصل السابعالكتابة والكتّاب

- ‌1 - التدوين

- ‌2 - كثرة الرسائل المدوّنة

- ‌3 - كتّاب الدواوين

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌3 - الكوفة والبصرة

القشيرى وابن الصفّار المحاربى، وأخذ كل فريق يريش سهامه من الوعيد والتهديد والتخويف الشديد، فالتهب الهجاء والفخر التهابا.

ومضى كثير من شعراء القبائل فى هذه الأنحاء بعد أن عاد السلام إلى نصابه يمدحون الخلفاء والولاة طلبا للنوال، يتقدمهم فى ذلك الأخطل والقطامى وأعشى تغلب وأعشى بنى شيبان ونابغتهم، وكما كانوا يقصدون الولاة والخلفاء كانوا يقصدون الأجواد من الأمويين وغيرهم.

‌3 - الكوفة والبصرة

لما أقبل العرب من الجزيرة على العراق يفتحون وينشرون الإسلام واتسعت بهم الفتوح لعهد عمر بن الخطاب رأى أن لا يتخذوا المدن القديمة منازل لهم حتى لا يتلاشوا فيها، وأمر بثاقب بصيرته أن يبنى لهم معسكران على حدود الجزيرة الشرقية، حتى يظل اتصالهم بالجزيرة، وحتى لا ينساحوا فى البلاد المفتوحة. وهذان المعسكران اللذان كانا مادة الجيوش المحاربة فى عصر صدر الإسلام والعصر الأموى جميعا سواء فى فارس أو فى خراسان هما الكوفة والبصرة.

وقد خطّطت الكوفة فى سنة سبع عشرة للهجرة، ونزلت القبائل اليمبنية فى شرقيّها والعدنانية فى غربيها، ولم تلبث أن حشدت حسب أنسابها فى سبع خطط، خطة أو سبع لكنانة وخلفائها وجديلة، وخطة أو سبع لقضاعة وغسّان وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت والأزد، وخطة أو سبع لمذحج وحمير وهمدان وحلفائهم، وخطة أو سبع لتميم وسائر الرّباب وهوازن، وخطة أو سبع لأسد وغطفان ومحارب والنّمر وضبيعة وتغلب، وخطة أو سبع لإياد وعكّ وعبد القيس وأهل هجر الحمراء. ولم يذكر الطبرى السبع السابع (1)

(1) طبرى 3/ 152 وما بعدها.

ص: 153

واستظهر ما سينيون فى كتابه عن خطط الكوفة أنه كان لقبيلة طيئ، وربما شركتها فيه قبيلة بكر، إذ لا نجد لها هى الأخرى ذكرا فى الأسباع السالفة.

وظلت هذه الأسباع حتى عصر زياد بن أبيه وقد جعلها أربعة ليدخل القبائل بعضها فى بعض.

وكان يكنف الكوفة من الشرق زروع ونخيل وأشجار يسقيها الفرات، وكان فى ظاهرها من الغرب الحيرة والنجف والخورنق والسّدير والغريّان ومتنزهات وديرة كثيرة (1) وبمجرد أن نزلها العرب نزلتها معهم بقايا الجيوش الساسانية التى انضمت إليهم، ويقال إنهم بلغوا أربعة آلاف، وكان نقيبهم يسمى ديلم، فنسبوا إليه، وسمّوا حمراء ديلم (2)، ونزلها معهم أيضا رقيق الحروب التى خاضوها، وأخذ يتوافد كثير من النبط والتجار والصناع.

وقد اتخذ على بن أبى طالب الكوفة حاضرة له حين ذهب إلى حرب الخارجين عليه، بينما نزلت السيدة عائشة وطلحة والزبير فى البصرة، ووقعت بين البلدتين موقعة الجمل المعروفة وفيها علت كفة على والكوفة. ويدخل أهل البصرة فى طاعة على، ولكن تظل منذ هذا التاريخ فى صدورهم إحن لأهل الكوفة. ويخرج على بجيوشه إلى لقاء معاوية فى صفّين، وتحتدم المعركة بينهما ويشتد أوارها كما يشتد أوار الشعر بين الفئتين المتحاربتين. ويكون التحكيم.

ويخلص الأمر لمعاوية فيولّى على الكوفة المغيرة بن شعبة، ويأخذها بالرفق الشديد، حتى مع من كانوا يظهرون فيها التشيع ولا يخفونه من أمثال حجر بن عدى، وكذلك كان يصنع بالخوارج، وقد كفاه أهل الكوفة أمر المستورد ابن علّفة الخارجى حين ثار عليه، فانبروا لقتاله وقضوا عليه وعلى من تبعه وهم يتناشدون الشعر ويرمونه وجماعته (3) به. ومات المغيرة سنة 50 للهجرة فخلفه على الكوفة زياد بن أبيه، فأخذها أخذا شديدا، ولم يلبث أن ضيّق الخناق بها على حجر بن عدى وأصحابه من الشيعة، واضطرّ حجر وبعض من شايعه إلى حمل السلاح، فوقعت مناوشات بينه وبين أصحاب زياد،

(1) انظر مادة كوفة فى معجم البلدان لياقوت.

(2)

فتوح البلدان للبلاذرى (طبعة المطبعة المصرية بالأزهر) ص 279.

(3)

طبرى 4/ 143 وما بعدها.

ص: 154

ارتفع فيها صوت الشعر (1)، وتغلب زياد عليه وعلى المتمردين معه، وأرسله فى نفر منهم إلى معاوية، فقتله فى ستة من أصحابه. وكانت تلك أول شرارة أوقدت النفوس فى الكوفة ضد الحكم الأموى، واعتبر الشيعة حجرا وأصحابه شهداء، وأخذوا يتفجعون عليهم (2). وتمضى الكوفة تحت حكم زياد مبطنة معارضة شديدة، إذ أخذ كثير من أهلها يصطبغ بصبغة التشيع لعلىّ وبنيه. ويتوفّى زياد فى سنة 53 ويخلفه على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، ثم الضحاك بن قيس الفهرى ثم عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفى ثم النعمان بن بشير، ويتوفّى معاوية ويخلفه ابنه يزيد، فيضمّها إلى عبيد الله بن زياد والى البصرة. ويأبى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير مبايعة يزيد بالخلافة ويخرجان من المدينة إلى مكة، فيكاتب أهل الكوفة الحسين، ويرسل إليهم بابن عمه مسلم بن عقيل فيبايعه اثنا عشر ألفا منهم. ويخرج إليهم الحسين، ويعلم فى الطريق أن ابن عمه اضطرّ إلى قتال عبيد الله بن زياد وأن أهل الكوفة تخلّوا عنه وأسلموه إلى عبيد الله، فقتله، وكان أول قتيل لبنى هاشم صلبت جثته، يعلم الحسين بذلك كله، ولكنه يصمم على المضى إلى غايته فيقتل وهو يقاتل جنود عبيد الله بن زياد بكربلاء على نهر الفرات فى العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة. وتتطور الحوادث. فيتوفّى يزيد بن معاوية ويضطرّ عبيد الله بن زياد أن يغادر البصرة إلى دمشق. ويتلاقى الشيعة بالتلاوم والتندم على تقصيرهم فى حق الحسين ونفورهم عن نصرته، ويرون أنه لا يغسل عارهم إلا حرب من قتلوه وإلا التوبة مما فرط منهم، فسمّوا التّوابين، وولّوا أمرهم سليمان ابن صرد. ولم يلبثوا أن جمعوا آلة الحرب واتجهوا إلى الشام يريدون أن يثأروا للحسين، فالتقوا فى عين الوردة (رأس العين) فى وسط الجزيرة بجيش أموى على رأسه عبيد الله بن زياد ودارت الدوائر عليهم، وسقط سليمان فى المعركة، وكان ذلك فى ربيع الآخر سنة 65. وعادت فلول الجيش الشيعى إلى الكوفة، وانتهز المختار الثقفى الفرصة، فدعا لمحمد بن الحنفية، وانضوى الشيعة تحت لوائه، واستطاع أن يستخلص الكوفة من والى ابن الزبير ويطرده منها، وأخذ

(1) طبرى 4/ 193.

(2)

طبرى 4/ 209.

ص: 155

ينكّل بمن كان هواهم مع بنى أمية، مما جعل شعراءهم خشية بطشه يمدحونه هو وإمامه، وكأنهم من شيعتهم على شاكلة قول عبد الله بن همّام السّلولى (1):

دعا يا لثارات الحسين فأقبلت

كتائب من همدان بعد هزيع (2)

وآب الهدى حقّا إلى مستقرّه

بخير إياب آبه ورجوع

إلى الهاشمىّ المهتدى المهتدى به

فنحن له من سامع ومطيع

ولما استجمع الأمر للمختار أعدّ جيشا بقيادة إبراهيم بن الأشتر لحرب أهل الشام، فالتقى فى سنة 66 بجيش عليه عبيد الله بن زياد فى «خازر» بين الموصل وإربل، ودارت الدوائر على جيش عبيد الله وسقط فى المعركة. ويولّى ابن الزبير على البصرة أخاه مصعبا سنة 67 وتنشب الحرب بينه وبين المختار، وتعلو كفة مصعب، فيقتل المختار وتدخل الكوفة فى طاعة ابن الزبير.

ونمضى بعد ذلك، فنجد الكوفة تشارك فى ثورة ابن الأشعث لعهد الحجاج وهى ليست ثورة شيعية، وإنما هى ثورة أهل السيادة والشرف فى الكوفة على بنى أمية، فقد كانت الكوفة مستقر البيوتات العربية (3). وكان سادة هذه البيوتات وأشرافها يمتعضون من ظلم ولاة بنى أمية لهم وأخذهم بالعنف والقسوة وخاصة الحجاج، وأتيحت الظروف لواحد منهم هو ابن الأشعث أن يعلن الثورة على الحجاج بل على الظلم كله، ومن ثم دعا لنفسه بالخلافة، وانضم إليه كثير من الموالى والقرّاء. ونازله الحجاج فى وقائع كثيرة أهمها وقعة دير الجماجم وانتصر عليه، وهرب ابن الأشعث إلى فارس، وأوغل فى هروبه، حتى وصل إلى ملك الترك مستجيرا، وقتل أخيرا.

وما زال شيعة الكوفة ينتظرون الإمام العلوى الذى يخلّصهم من الأمويين وظلمهم، حتى ظهر بينهم زيد بن على بن الحسين، ودعا لنفسه بالخلافة منشئا نظرية شيعية جديدة نسبت إليه، هى نظرية الزيدية. وما زال به شيعته يستعدونه على بنى أمية ويدعونه للخروج، حتى خرج فى سنة 121 وما كاد

(1) طبرى 4/ 510.

(2)

الهزيع: نحو ثلث الليل.

(3)

من بيوت الشرف العريقة فى الكوفة بيت زرارة بن عدس التميمى وبيت الأشعث بن قيس الكندى وبيت حذيفة بن بدر الفزارى وبيت ذى الجدين الشيبانى.

ص: 156

القتال يستحرّ بينه وبين جند يوسف بن عمر حتى انفضّوا عنه إلا قليلا منهم ثبتوا معه حتى قتلوا عن آخرهم، وقتل زيد، وصلب بسوق الكناسة فى الكوفة.

وهرب ابنه يحيى إلى خراسان، وخرج بناحية الجوزجان، وانتهى فى سنة 125 إلى نفس المصير.

ولعل فى كل ما قدمنا ما يوضح كيف أن الكوفة كانت موثل الشيعة فى هذا العصر وأن سادتها الذين لم يعتنقوا التشيع كانوا يكنّون بغضا لبنى أمية وحكمهم. ولم يكن للخوارج شأن مذكور فى الكوفة، ومع ذلك نجد لهم فيها شاعرا مشهورا هو الطّرمّاح. وكان كثير من أهلها ينصرف عن هذه المعارضة السياسية إلى الزهد وتقوى الله، وكان بجوارهم من يقبلون على اللهو والخمر، أمثال الأقيشر الأسدى، وتكاثروا بأخرة من العصر على نحو ما هو معروف عن مطيع بن إياس وحلبته.

ولم تتورط الكوفة فى العصبيات القبلية، ولذلك كان حظها فى شعر الفخر والهجاء ضعيفا، وليس معنى ذلك أن الهجاء انحسر عنها، فقد أخرجت شاعرا من أكبر الهجائين فى العصر هو الحكم بن عبدل. وقد مضى كثير من شعرائها يعنى بمديح الخلفاء والولاة والقواد والأجواد، وكان منهم من يتعصب لبنى أمية تعصبا شديدا مثل عبد الله بن الزّبير الأسدى.

وإذا ولينا وجوهنا نحو البصرة وجدناها تخطّط حوالى سنة ست عشرة للهجرة معسكرا للجيوش المقاتلة فى الشرق على مقربة من مصب نهر دجلة بين إقليم البطائح الذى تكثر مستنقعاته وشاطئ خليج العرب، وقد روعى فيها كما روعى فى الكوفة أن تكون على حافة البادية، وسرعان ما توزعتها القبائل خططا، خمسا كبيرة: خطة لتميم وخطة لعبد القيس وخطة لأهل العالية وخطة لبكر وخطة للأزد، وكانت اليمن تلوذ بخطة الأزد بينما لاذت عشائر من أسد والنمر بن قاسط ببكر، ولاذ أهل هجر بخطة عبد القيس، ولاذت ضبة والرباب بخطة تميم. وقد أقاموا بجانبها سوقا كبيرة. هى سوق المربد، وقد تحولت فى هذا العصر إلى سوق أدبية يتناشد فيها الشعراء أشعارهم. ولكل شاعر حلقته.

ونزلها مع العرب كثير من الرقيق الفارسى الذى جلبوه من الحروب، كما

ص: 157

نزل معهم فريق كبير من جيوش يزدجرد خرج عليه وقاتله مع المسلمين، وهو المعروف باسم الأساورة. وقد دخل فى حلف تميم، ودخل أيضا فى حلفها نفر من الهنود هم المعروفون باسم الزّط والسيابجة والإندغار، ونزل أيضا بالبصرة جماعة من الأصبهانيين وأخرى من الحبش (1). وكان وقوع البصرة بالقرب من خليج العرب مهيئا دائما لأن ينزلها كثيرون من الإفريقيين والهنود، كما كان مهيئا لازدهار التجارة بها. وكانت الزراعة مزدهرة بها هى الأخرى، ولا سيما زراعة النخيل بفضل النهيرات الكثيرة التى اشتقّت من دجلة، وخاصة نهيرى الأبلّة ومعقل.

وأخذ نزلتها من العرب المجاهدين فى سبيل الله ومن انضم إليهم من الأساورة يثخنون بقيادة الأحنف بن قيس التميمى لعهد عمر بن الخطاب فى أرض فارس وتغلغلوا إلى خراسان، وتتابع الفرس على الصلح فيما بين نيسابور وطخارستان (2). وولى البصرة لعهد عثمان عبد الله بن عامر فدفع الجيوش البصرية إلى سجستان وعامة خراسان (3). ثم كانت فتنة عثمان وبيعة على، فانضم كثيرون من أهل البصرة إلى السيدة عائشة وطلحة والزبير، وانزوى الأحنف بقومه تميم عنهم (4)، ونشبت موقعة الجمل، وأسلمت البصرة لعلى، يتقدّم صفوفها الأحنف، وحاربت معه بصفّين، وظلت موالية له إلى وفاته.

وتدخل البصرة فى العصر الأموى، ونراها تذعن لمعاوية وابنه يزيد، بينما تأخذ فى اجترار العصبيات القبلية القديمة، وكان مما هيّأ لذلك قيام حلفين كبيرين بها، هما حلف تميم وقيس وحلف الأزد وبكر وعبد القيس. وبذلك تكتلت قبائلها فى حلفين كبيرين، وأوغر صدور الحلف الأول كثرة المهاجرين من أزد عمان إلى البصرة. ونرى زياد بن أبيه يستغلّ هذه العصبيات فى توطيد سياسته بالبصرة، إذ أخذ يضرب القبائل بعضها ببعض.

ومعنى ذلك أن البصرة لم تشغل بخصومة شيعية على نحو ما شغلت الكوفة،

(1) انظر فى تخطيط البصرة ومن نزلها فتوح البلدان للبلاذرى ص 341 وما بعدها والطبرى 4/ 265، 478، 559 ونقائض جرير والفرزدق 737.

(2)

طبرى 3/ 189، 221 - 244.

(3)

طبرى 3/ 358 وما بعدها.

(4)

طبرى 3/ 510 - 511.

ص: 158

فقد كانت كثرة أهلها عثمانية الهوى، إنما الذى شغلها حقّا هو الخصومة القبلية وما طوى فيها من عصبيات، وقد كان بها كثيرون من الخوارج، غير أن زيادا أمعن فى الضرب على أيديهم. ونراه يختار من أهلها خمسة وعشرين ألفا ومن أهل الكوفة مثلهم، ويخرجهم بأسرهم إلى غزو خراسان (1)، حتى يتخلص من عناصر الشغب فى البلدتين.

وتبعه ابنه عبيد الله فى سياسته من ضرب القبائل بعضها ببعض والتشديد على الخوارج. ويتوفّى يزيد بن معاوية، وتضطرب البصرة، ويبايع كثيرون منها ابن الزبير، ويضطرّ عبيد الله أن يبرحها إلى دمشق. ويستولى مسعود بن عمرو سيد الأزد على قصر الإمارة والمسجد بالقوة، يشدّ من أزره قبيلته وبكر وعبد القيس ويصعد المنبر يخطب فى الناس، فتغضب تميم وتهجم عليه مع أحلافها من الأساورة، فتنزله من فوق المنبر وتقتله. وينشب القتال بين الأزد وتميم طلبا للثأر، ويتدخل الأحنف ويستطيع بحنكته أن يعيد السلام بين القبيلتين نظير دية كبيرة يؤديها للأزد هو وقبيلته، ولكن العداوة تستمر متأججة بين الفئتين طوال العصر.

وتتبع البصرة ابن الزبير، ويولّى عليها أخاه مصعبا، فيحارب المختار الثقفى فى الكوفة كما أسلفنا، ويقضى عليه قضاء مبرما، ويحارب الأزارقة، ويوجّه إليهم المهلب وغيره من القواد، ويوقعون بهم هزائم عنيفة. وتنشب ثورة صغيرة للزنج فيجهز عليها.

وتعود البصرة إلى الخضوع لبنى أمية عقب مقتل مصعب، وهى تغلى بالعصبيات القبلية. ووليها الحجاج الثقفى لأكثر من عشرين عاما، وفى عهده علا شأن قيس لتعصبه لها، وكان أكبر شخصية بين أبنائها، فجنحت إليه وجنح إليها، وخاصة أنه احتاج تأييدها له فى الثورات الصغيرة التى كانت تنشب من حوله مثل ثورة قبيلة عبد القيس بزعامة ابن الجارود وثورة الزنج. وكان طبيعيّا أن يكون بين أفراد حاشيته كثير منها. وأخذ تعصبه لها يقوى مع الزمن، فإذا هو يعزل أبناء المهلب عن خراسان ويولى عليها قتيبة

(1) طبرى 4/ 170.

ص: 159

ابن مسلم الباهلى. ونراه يولّى على الجيوش الغازية فى الهند محمد بن القاسم الثقفى.

ومعروف أنه كان ينيب عنه فى حكم البصرة الحكم بن أيوب الثقفى. وولّى على أصبهان ختنه مالك بن أسماء الفزارى. ومعنى ذلك أن قيسا قوى أمرها فى البصرة لعهد الحجاج. ويتوفّى سنة 95 ويتوفّى بعده الوليد بن عبد الملك، ويخلفه سليمان أخوه، فيولّى على العراق ثم خراسان يزيد بن المهلب، فيعظم شأن قبيلة الأزد.

وعلى هذا النحو كان يعظم شأن كل قبيلة فى البصرة حين يتولاها شخص منها، وكان ذلك يزيد فى تنافس قبائلها واشتعال العصبيات بينها، لما يستتبع من المغانم السياسية فى تولى الوظائف وغيرها. وولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فعزل عن البصرة يزيد بن المهلب، وولّى عليها عدىّ بن أرطاة الفزارى، فعادت إلى قيس مكانتها. ويتوفّى عمر ويخلفه يزيد بن عبد الملك، فيثور عليه يزيد بن المهلب، وتتجمع حول لوائه الأزد وربيعة بينما تقف تميم وقيس بجانب ابن أرطاة. ويظهر مسلمة بن عبد الملك بجيوش الشام على المسرح، ويقضى على ابن المهلب، ويتبع فلول جيشه هلال بن أحوز المازنى التميمى فيقضى عليها وعلى من بقى من المهالبة قضاء مبرما. ويولّى يزيد بن عبد الملك على العراق مسلمة لمدة محدودة، إذ سرعان ما ولّى عليه عمر بن هبيرة الفزارى، وكان يتعصب لقيس تعصبا شديدا، ولم يثر عليه الأزد وربيعة وحدهما، فقد أثار عليه أيضا تميما وشاعرها الفرزدق. ويلى الخلافة هشام ابن عبد الملك، فيعزل ابن هبيرة، ويولّى خالدا القسرى لنحو خمسة عشر عاما، وكان يتعصب لليمن تعصبا شديدا، فاضطرّ الخليفة آخر الأمر أن يعزله ويولّى مكانه يوسف بن عمر الثقفى، وبذلك رفعت قيس رأسها، وعادت إلى سابق مكانتها. وممن وليها بعده عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وكان آخر ولاتها يزيد بن عمر بن هبيرة القيسى.

ونرى من كل ذلك أن البصرة ظلت طوال العصر تعيش للعصبيات القبلية، ومن ثمّ كانت المحور الذى دار عليه شعرها، إذ تحوّل كل شاعر يفخر بقبيلته مصوّبا سهام هجائه لمن يعادونها من القبائل. ولم يقف الشعراء عند الخصومات

ص: 160