الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودائما تلقانا فى الذكر الحكيم دعوة المسلمين إلى الخير والارتفاع عن الدنايا والنقائص {(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).}
وبهذه القيم الروحية جميعا يقوم الإسلام، فهو ليس عقيدة سماوية وفروضا دينية فحسب، بل هو أيضا سلوك خلقى قويم، إذ يدعو إلى طهارة النفس ونبذ كل الفواحش والرذائل، ومراقبة الإنسان لربه فى كل ما يأتى من قول أو فعل، فإنه معروض عليه يوم القيامة، يوم يجزى كلّ إنسان بما قدّمت يداه. وقد مضى الصحابة يعبدون الله حق عبادته مستشعرين ضربا من القلق على مصيرهم، بعث فيهم الضمير الحى الذى يستشعر صاحبه الخوف من ربه فى سره وعلنه، كما يستشعر الرجاء فى نعيمه ورضوانه.
2 - قيم عقلية
قضى الإسلام على الوثنية الجاهلية بكل ما طوى فيها من كهانة وسحر وشعوذة وخرافة، وبذلك ارتقى بعقل الإنسان إذ خلّصه من الحماقات والترهات، وقد مضى يحتكم إليه فى معرفة الكائن الأعلى الذى أنشأ الكون ودبّر نظامه، داعيا له إلى أن يتأمل فى ملكوت السموات والأرض، فإن من ينعم النظر فى هذا الملكوت ونظامه يعرف أنه لم يخلق عبثا وأن له صانعا سوّى كل شئ فيه وقدّره، يقول جلّ ذكره:{(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ)} {(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)} {(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).}
وواضح من ذلك أن القرآن اتجه إلى العقل فى دعوته إلى الإيمان بوجود الله وقدرته وتدبيره، وكذلك الشأن فى الإيمان بوحدانيته. وقد فضل الإنسان على سائر مخلوقاته {(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)} وما كان لهذا الذى
فضّله على كل ما فى الوجود أن يعبد أشياء خلقها الله وسخّرها لفائدته {(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)} {(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاُسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ).} وهو إله واحد يدبّر السموات والأرض {(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَاّ اللهُ لَفَسَدَتا)} {(وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ).} وبالمثل يحتكم القرآن إلى العقل فى الدلالة على صحة البعث والنشور فإن من يبعث الحياة فى الكائنات قادر على أن يردّها إليها {(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ)} {(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)} {(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اِهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).}
وينحى الذكر الحكيم باللائمة على من لا يستخدمون عقولهم، فيشبههم بالأنعام التى لا تعقل، ويقول إنهم لا يمتازون فى شئ عن الصّمّ البكم العمى {(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)} {(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).} وكثيرا ما تختم الآيات بمثل {(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)} {(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)} {(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).}
ودائما يدعو القرآن كل مسلم أن يستغل عقله فيما خلق له من التدبر، فيتأمل وينظر ويحكم لا عن عقائد موروثة بل عن دليل ناطق وشهادة صحيحة، ومن ثمّ كانت المعرفة المستبصرة ركنا أساسيّا فى الإسلام، فمن أسلم عن غير فهم وتبصر كان إسلامه منقوصا، إذ الإسلام الصحيح يقوم على الفهم والاقتناع لا على التقليد والمحاكاة للآباء والأسلاف.
ويشير القرآن مرارا إلى ما وهب الإنسان من فضيلة العقل، وأن الله أودع فى هذه الفضيلة خواص تمكّنه من السيطرة على جميع المخلوقات، يقول جلّ شأنه:
{تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)} {(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ)} {(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ).}
فكلّ ما فى الوجود مسخّر للناس ولعقولهم كى يستغلوه وكى يستكشفوه لمنفعتهم.
وكان أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم: {(اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)} فالدعوة إلى العلم وأنه نعمة أسبغها الله على الإنسان تقترن بآيات القرآن الأولى. ودائما تتردد فيه الإشادة بالعلم والعلماء فى مثل: {(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)} {(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)} {(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).} وفى كل هذه الآيات دعوة صريحة للمسلمين كى يطلبوا كل علم ويفيدوا منه، ولعله لذلك لم يظهر عندنا تعارض بين الإسلام والعلم فى أى عصر من العصور، بل تعاونا دائما تعاونا مثمرا. وقد رويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تحثّ على العلم والتعلم من مثل:«طلب العلم فريضة على كل مسلم» و «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة» و «العلماء ورثة الأنبياء» .
وقد حمّل الإسلام هؤلاء العلماء أمانة الدين الحنيف، وجعل لهم حق الاجتهاد فى فروعه وما يطوى فيه من استنباط للأحكام يقول جلّ ذكره:
{(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)} ويقول: {(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)} ، ويقول للرسول الكريم:{(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)} ، وفعلا كان يستشير أصحابه فى كثير من المسائل ويصدر عن رأيهم (1). ومن هنا أصبح الاجتهاد بالرأى أصلا من أصول الإسلام حين لا يوجد نصّ فى كتاب أو سنّة، روى الرواة عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضى بما فى كتاب الله
(1) انظر «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وما بعدها. لمصطفى عبد الرازق (الطبعة الأولى) ص 143