المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٢

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر الإسلامى

- ‌الكتاب الأولفى عصر صدر الإسلام

- ‌الفصل الأولالإسلام

- ‌1 - قيم روحية

- ‌2 - قيم عقلية

- ‌3 - قيم اجتماعية

- ‌4 - قيم إنسانية

- ‌الفصل الثانىالقرآن والحديث

- ‌1 - نزول القرآن وحفظه وقراءاته

- ‌2 - سور القرآن وتفسيره فى العهد الأول

- ‌3 - اثر القرآن فى اللغة والأدب

- ‌4 - الحديث النبوى

- ‌الفصل الثالثالشعر

- ‌1 - كثرة الشعر والشعراء المخضرمين

- ‌2 - الشعر فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - الشعر فى عصر الخلفاء الراشدين

- ‌4 - شعر الفتوح

- ‌الفصل الرابعالشعراء المخضرمونومدى تأثرهم بالإسلام

- ‌1 - كثرة المخضرمين المتأثرين بالإسلام

- ‌4 - لبيد

- ‌5 - الحطيئة

- ‌الفصل الخامسالنثر وتطوره

- ‌1 - تطور الخطابة

- ‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - خطابة الخلفاء الراشدين

- ‌4 - الكتابة

- ‌الكتاب الثانىفى عصر بنى أمية

- ‌الفصل الأولمراكز الشعر الأموى

- ‌1 - المدينة ومكة

- ‌2 - نجد وبوادى الحجاز ونزوح قيس إلى الشمال

- ‌3 - الكوفة والبصرة

- ‌4 - خراسان

- ‌5 - الشام

- ‌6 - مصر والمراكز الأخرى

- ‌الفصل الثانىمؤثرات عامة فى الشعر والشعراء

- ‌1 - الامتزاج بالأمم الأجنبية وتعرّبها وأثر ذلك فى اللغة

- ‌2 - الإسلام وأثره فى موضوعات الشعر

- ‌3 - السياسة

- ‌4 - الحضارة

- ‌5 - الثقافة

- ‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

- ‌الفصل الثالثشعراء المديح والهجاء

- ‌1 - شعراء المديح

- ‌ نصيب

- ‌القطامى

- ‌2 - شعراء الهجاء

- ‌ ابن مفرّغ

- ‌ الحكم بن عبدل

- ‌3 - شعراء النقائض

- ‌4 - الأخطل

- ‌5 - الفرزدق

- ‌6 - جرير

- ‌الفصل الرابعشعراء السياسة

- ‌1 - شعراء الزبيريين

- ‌ ابن قيس الرقيات

- ‌2 - شعراء الخوارج

- ‌ عمران بن حطّان

- ‌الطّرمّاح

- ‌3 - شعراء الشيعة

- ‌ كثيّر

- ‌الكميت

- ‌4 - شعراء ثورة ابن الأشعث

- ‌ أعشى همدان

- ‌5 - شعراء بنى أمية

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل الصريح

- ‌ عمر بن أبى ربيعة

- ‌الأحوص

- ‌العرجى

- ‌2 - شعراء الغزل العذرى

- ‌ قيس بن ذريح

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌أبو الأسود الدّؤلى

- ‌4 - شعراء اللهو والمجون

- ‌أبو الهندى

- ‌5 - شعراء الطبيعة

- ‌ذو الرّمّة

- ‌6 - الرّجّاز

- ‌العجّاج

- ‌رؤبة

- ‌الفصل السادسالخطابة والخطباء

- ‌1 - ازدهار الخطابة

- ‌2 - خطباء السياسة

- ‌ زياد بن أبيه

- ‌3 - خطباء المحافل

- ‌ الأحنف بن قيس

- ‌4 - خطباء الوعظ والقصص

- ‌ الحسن البصرى

- ‌الفصل السابعالكتابة والكتّاب

- ‌1 - التدوين

- ‌2 - كثرة الرسائل المدوّنة

- ‌3 - كتّاب الدواوين

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

تابعهما باسم المعتزلة. وقد اجتذبا إلى آرائهما كثيرا من الأتباع والدعاة، تسندهما فى ذلك دراسة مستفيضة لآى القرآن الكريم وعقل دعماه بالمنطق وأدلته الدقيقة. ومضى أتباعهما على شاكلتهما يجمعون بين الدين والفلسفة، فازدهر الاعتزال وأصبح فى العصر العباسى الأول أهم مذاهب المتكلمين،

وإنما أطلنا فى هذا الجانب لندل على أن العقل العربى فى عصر بنى أمية أمدّته روافد كثيرة، دعمته دعما، مما كان له آثار بعيدة فى أشعار الشعراء، إذ كانوا مندمجين فى الفرق السياسية والعقيدية وما نشب بينها من مجادلات، ويسوق الرواة من ذلك مجادلة بين ذى الرّمّة ورؤبة فى القدر، وكان أولهما قدريّا وثانيهما جبريّا (1). وبتأثير هذه المجادلات تحوّل جرير والفرزدق يتجادلان جدالا عنيفا فى عشيرتيهما من جهة وفى قيس وتميم من جهة ثانية على نحو ما هو معروف فى نقائضهما، وكأنهما يتحولان بشعر الهجاء والعصبيات القديم إلى ما يشبه مقالات أهل النّحل. وكلّ ذلك من آثار هذا التطور الذى أصاب العقل العربى، والذى جعله يندفع فى البحث والمناظرة والتدرب على جمع البراهين والأدلة فى أى موضوع يعرض له.

وكان من ثمار هذا التطور أيضا أن رأينا بعض الشعراء يسعى بشعره إلى غاية تعليمية، إذ أخذ بعض الشعراء المعلمين من أمثال الكميت والطّرمّاح يحشدون فى أشعارهم أوابد اللغة وشواردها، ليعينوا الناشئة على معرفتها. ولم يلبث الرّجّاز وعلى رأسهم العجّاج ورؤبة أن قدّموا من ذلك مادة وفيرة للناشئة ولعلماء اللغة.

‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

لا ريب فى أن للمؤثرات الاقتصادية أثرا كبيرا فى حياة الإنسان، وبالتالى فى كل ما ينتج من أعمال وآثار. وإذ أخذنا ننظر فى حياة الشعراء لهذا العصر وجدنا للاقتصاد أثره العميق فى اتجاهاتهم، وهل نستطيع تفسير شيوع الغزل

(1) أمالى المرتضى 1/ 19.

ص: 207

المادى الصريح فى مدن الحجاز وانتشار الغزل العذرى العفيف فى نجد وبيئات البوادى إلا بردّ ذلك إلى نعومة العيش وما كان ينعم به سكان تلك المدن من ثراء عريض ثم ما كان فيه سكان نجد والبوادى من شظف العيش وخشونته، ولا ننكر أثر الإسلام فى نفوسهم، غير أننا لا ننكر أيضا أثر نظام الحياة الاقتصادى ومدى عمله فى النفوس. وبالمثل نحن لا نستطيع تفسير شيوع المديح فى العراق وخراسان وما كان يهبط منه إلى دمشق إلا بردّ ذلك إلى ظهور طبقة ضخمة من الأثرياء كانت أخلاطا من الحكام الذين أداروا شئون الدولة فى الخراج وغير الخراج ومن الأغنياء الذين ملكوا الإقطاعات، بينما ظل وراءهم جميعا جمهور كبير، يتلقى منهم رزقه إما بالعمل لهم وإما بما يقدّم لهم من مديح، يقول ذو الرّمّة (1):

وما كان مالى من تراث ورثته

ولا دية كانت ولا كسب مأثم

ولكن عطاء الله من كلّ رحلة

إلى كل محجوب السّرادق خضرم (2)

وقد مضى كثيرون من أصحاب الثراء العريض يحققون لأنفسهم كل ما تصبو إليه نفوسهم من صور الترف مما أدّى، وخاصة فى أواخر العصر، إلى ذيوع شعر الخمر والمجون وانتشاره.

وإذا ذهبنا نتعمّق النزاع السياسى الحادّ الذى نشب طوال العصر وتكونت بسببه فرق الزبيريين والشيعة والخوارج رأيناه يعود فى كثير من جوانبه إلى بواعث اقتصادية، فقد كانت هذه الفرق ترى الأمويين متسلطين على أموال الدولة ينثرونها على أنصارهم ومن يلوذون بهم دون نظر إلى مصلحة الجماعة. وذهب الزبيريون إلى أنه لا يمكن تحقيق هذه المصلحة إلا بعودة الخلافة من دمشق إلى الحجاز وتحرير الناس من تحكم القبائل اليمنية التى جعل لها الأمويون معظم السلطان، وذهبت الشيعة إلى أن هذه المصلحة لا يمكن أن تتحقق إلا على يد علوية تحمل الناس على الجادّة، بينما ذهب الخوارج إلى أنه لا يمكن أن تتحقق إلا بردّ الأمر إلى الأمة لتختار أولياءه الصالحين، ومضوا يجاهدون الأمويين جهادا عنيفا.

(1) الديوان ص 633.

(2)

الخضرم: كثير الخير والجود.

ص: 208

وتدل دلائل كثيرة على أن ولاة بنى أمية ومن كانوا يقيمونهم على شئون الخراج والزكاة كانوا يستغلون وظائفهم فى جمع ثروات ضخمة، غير مراعين فى ذلك إلاّ ولا ذمة، فالمهلّب مثلا حين صرفه الحجاج عن الأهواز وجده قد احتجن لنفسه من بيت المال ألف ألف درهم (1)، بينما احتجن ابنه يزيد حين صرف عن خراسان لنفسه من بيت المال ستة آلاف ألف درهم (2)، ويقال إن راتب خالد القسرى فى ولايته على العراق كان عشرين ألف ألف درهم، ولم يكن يكفيه كل هذا الراتب، إذ كان يستصفى لنفسه-بوسائل غير مشروعة-ما يزيد على مائة ألف كل عام، وقد استخرج منه ومن موظفيه يوسف الثقفى حين ولى بعده العراق سبعين ألف ألف (3). وكأنما أصبحت الولاية على الناس السبيل غير الشريف للثروة الضخمة والغنى العريض، حتى لنرى أنس بن أبى أناس يقول لحارثة بن بدر الغدانى التميمى حين ولى على سرّق إحدى كور الأهواز (4):

أحار بن بدر قد وليت إمارة

فكن جرذا فيها تخون وتسرق

وعلى هذا النحو أصبحت الولاية على الأقاليم والكور مقترنة بالخيانة والسرقة، وعمّ هذا الفساد، حتى بين السعاة الذين كانوا يجمعون الزكاة فى نجد داخل الجزيرة العربية، على نحو ما تصوّر ذلك شكوى الراعى التى وجّه بها إلى عبد الملك بن مروان، وفيها يصف سنة مجدبة أصابت قومه بنى نمير. ومع ذلك فرض عليهم السعاة فروضا ثقيلة، فلما لم يؤدوها صبّوا عليهم السّياط وأرهقوهم من أمرهم عسرا، ومن قوله فى تلك الشكوى المريرة (5):

أخليفة الرحمن إنا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

إن السّعاة عصوك يوم أمرتهم

وأتوا دواهى لو علمت وغولا

فادفع مظالم عيّلت أبناءنا

عنا وأنقذ شلونا المأكولا (6)

(1) طبرى 5/ 135.

(2)

طبرى 5/ 303 وانظر 5/ 312.

(3)

تاريخ اليعقوبى (طبعة أوربا) 2/ 55، 388.

(4)

الحيوان 3/ 116 والشعر والشعراء 2/ 715.

(5)

جمهرة أشعار العرب لأبى زيد القرشى (طبع المطبعة الرحمانية) ص 355.

(6)

عيلت: أفقرت. الشلو: العضو.

ص: 209

وإذا كان هذا يحدث فى نجد والبوادى فما كان يحدث فى العراق وخراسان أدهى وأمرّ، فقد مضى الولاة وجباة الخراج يعتصرون الناس بفرض ضرائب استثنائية كثيرة، مما ملأ عليهم القلوب غيظا وحنقا والنفوس سخطا ووجدا، فارتفعت الأصوات تطالب بالأمانة فى الحكم لا فى عهد بنى أمية فحسب، بل أيضا فى عهد الزبيريين، ومن خير ما يصور ذلك قصيدة طويلة لابن همّام السّلولىّ وجّه فيها لابن الزبير شكوى عنيفة من عمّاله فى العراق ومن أقامهم هناك على الخراج، وهو يستهلها بقوله (1):

يابن الزّبير أمير المؤمنين ألم

يبلغك ما فعل العمّال بالعمل

باعوا التّجار طعام الأرض واقتسموا

صلب الخراج شحاحا قسمة النّفل (2)

وقد مضى يسميهم واحدا واحدا مصورا لخيانتهم فى الحكم ومطالبا بمحاسبتهم على ما استخلصوا من أموال لأنفسهم ظلما وعسفا.

ويظل الناس متحمّلين من هذا العسف والظلم ما يطاق وما لا يطاق إلى أن ولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فأمر برفع المظالم عنهم وإلغاء كل لون من ألوان الضرائب الاستثنائية، كما أمر بحطّ الجزية عمن أسلموا من الموالى.

وبعث على العراق وخراسان عمّالا جددا ينفذون سياسته العادلة، ومع ذلك ظلت الشكوى قائمة، فقد قام إليه رجل وهو على المنبر فقال (3):

إن الذين بعثت فى أقطارها

نبذوا كتابك واستحلّ المحرم

طلس الثياب على منابر أرضنا

كلّ يجور وكلّهم يتظلّم (4)

ويناديه كعب الأشقرى من خراسان (5):

إن كنت تحفظ ما يليك فإنما

عمّال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للذى تدعو له

حتى تجلّد بالسيوف رقاب

(1) أنساب الأشراف 5/ 191 وما بعدها.

(2)

النفل: غنائم الحروب.

(3)

البيان والتبيين 3/ 359.

(4)

طلس: غبر، وهو يكنى بغبرة الثياب عن قذارة نفوسهم وأنهم ليسوا أعفاء. يتظلم حقه: يظلمه إياه.

(5)

البيان والتبيين 3/ 358.

ص: 210

ويتوفّى عمر بن عبد العزيز سريعا، ويعود العسف والظلم. ويثور الحارث ابن سريج بخراسان فى العقد الثانى من القرن الثانى مطالبا برفع الجزية عمن أسلموا من الموالى، ويتولّى هناك نصر بن سيار فى العقد الثالث، ويرفع الجزية عن الموالى مثبّتا للخراج على الأرض.

ولا بد أن نفرق هنا بين معاملة العرب للموالى ومعاملة الدولة لهم فإن الدولة إذا كانت قد تعسفت معهم أحيانا فإن العرب ظلوا يرعون لهم أخوتهم فى الإسلام.

ويسوق المستشرقون دليلا قويّا على سوء معاملة الدولة لهم ما حدث فى أيام الحجاج إذ هاجر كثير من موالى السّواد فى العراق إلى البصرة والكوفة، فأمر بردّهم إلى قراهم ونقش أسمائهم على أيديهم حتى لا يبرحوها (1) وظاهر الحادث عنف شديد فى الظلم ولكن قد يكون الحجاج اضطرّ إلى ذلك لتعطل الزراعة فى السواد وبالتالى تعطل الخراج الذى كان ينفق منه على تجهيز الجيوش إلى خراسان وغير ذلك من شئون ولايته.

ولم ينكر عمر بن عبد العزيز وحده الجزية التى كانت مفروضة على مسلمى الموالى، فقد كان ينكرها جماعة الأتقياء والقرّاء، لأنها تخالف نصوص الإسلام، وأنكرتها جميع الفرق المعارضة للدولة من خوارج وشيعة ومرجئة، وما زالت الأمة تلح فى إنكارها إلحاحا حتى رفعت عنهم بأخرة من العصر.

وقد عقد ابن عبد ربه فصلا فى العقد الفريد، صوّر فيه العرب يسيئون فى المعاملة إلى الموالى لعصر بنى أمية إساءة بالغة (2). غير أن بين أيدينا أخبارا كثيرة تشهد بأنهم لم يكونوا يضطهدون أحرارهم ولا أرقاءهم، فقد ذكر ابن حبيب أن نحو ثلاثين من الرقيق فى الكوفة والبصرة نبه شأنهم حتى أصبحوا من أرباب السيادة والشرف (3). أما ما يلاحظه قلهوزن من أنهم كانوا يحاربون فى جيش المختار رجالة لا فرسانا (4) فلعل ذلك حدث اتفاقا، وقد اشتهر من بينهم غير قائد فى خراسان مثل حريث بن قتبة وأخيه ثابت وحيّان النبطى وابنه مقاتل، ومن قوادهم المشهورين فى الغرب طارق بن زياد فاتح الأندلس.

(1) طبرى 5/ 182 وتاريخ الدولة العربية لقلهوزن ص 235 وما بعدها.

(2)

العقد الفريد 3/ 403 وما بعدها.

(3)

المحبر ص 340.

(4)

تاريخ الدولة العربية لقلهوزن ص 237.

ص: 211

وقد مرّ بنا فى حديثنا عن الحضارة ما كان لهم من إقطاعات وقصور وحمامات تستغلّ فى البصرة. فهم لم يكونوا فى مرتبة متخلفة بالقياس إلى العرب، ولعل مما يدل على ذلك أن نجد الفرزدق المعروف بغطرسته حتى على الخلفاء يمدح طائفة منهم مثل عبد الله (1) بن عبد الأعلى مولى خالد بن الوليد ومسلمة (2) ابن سنان مولى بنى مسمع وكثير (3) بن سيار مولى بنى سعد ومسلم (4) بن المسيب مولى بنى بجيلة. ومن يرجع إلى ديوان جرير يجده فى إحدى قصائده يفتخر بمعدّ مدخلا فيها قضاعة كما يفتخر بالموالى ذاكرا أنهم ينتسبون إلى إسحق بن إبراهيم عليهما السلام. يقول (5):

أنا ابن الثّرى أدعو قضاعة ناصرى

وآل نزار ما أعزّ وأكثرا (6)

وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا

محامل موت لابسين السّنوّرا (7)

فيوما سرابيل الحديد عليهم

ويوما ترى خزّا وعصبا منيّرا (8)

إذا افتخروا عدّوا الصّبهبذ منهم

وكسرى وآل الهرمزان وقيصرا (9)

ويصرّح بأن الموالى أبناء إسحق يجمعهم مع العرب أبناء إسماعيل أب واحد، يقول:

أبونا أبو إسحق يجمع بيننا

أب كان مهديّا نبيّا مطهّرا

ولا تهمنا صحة الأسطورة التى ردّدها جرير فى هذه الأبيات، والتى تجعل الفرس والروم من أبناء إسحق، إنما تهمنا دلالتها على ما كان يسود بين العرب من الإحساس بأنهم والموالى شعب واحد، تفرّق، ثم عاد إلى الاجتماع

(1) ديوان الفرزدق (طبعة الصاوى) ص 2.

(2)

الديوان ص 106.

(3)

الديوان ص 287.

(4)

الديوان ص 887.

(5)

ديوان جرير (طبعة الصاوى) ص 242.

(6)

ابن الثرى: كناية عن كثرة قومه فهم عدد الثرى.

(7)

السنور: السلاح. وهو يصف بذلك الفرس.

(8)

الخز: الحرير. العصب: ضرب من الثياب النفيسة. منيرا: منسوجا بالقصب وله أهداب ووشى.

(9)

الصبهبذ: لقب أمراء إيران.

ص: 212

على الإسلام والعروبة، ونرى جريرا فى نفس القصيدة ينوّه بمولى من البربر يسمى وضّاحا، يقول:

لقد جاهد الوضاح بالحق معلما

فأورث مجدا باقيا أهل بربرا

والحق أن العرب اندمجوا فى الموالى منذ الأيام الأولى فى الفتوح، فقد ساكنوهم وتزوجوا منهم، وعرّبوهم عن طريق نظام الولاء الذى شرعه الإسلام، إذ أدخلوهم فى عداد قبائلهم، وكأنما أردوا بذلك أن يلغوا جنسياتهم إلغاء، فهم عرب ولاء. واستشعر الموالى ذلك فى عمق حتى إذا أحسن نفر منهم نظم الشعر وجدناهم يقفون فى صفوف قبائلهم ذائدين عنها ومفاخرين بنفس روح أبنائها الأصيلين، ومن خير ما يصور ذلك زياد الأعجم مولى عبد القيس فقد عاش لقبيلته يحامى عنها ويصول (1)، ومثله هرون (2) مولى الأزد وثروان (3) مولى بنى عذرة وشقران (4) مولى بنى سلامان. وكانت القبائل تبادلهم نفس التعصب، فإذا جنى أحدهم جناية كبيرة وزجّ به فى السجن لم يقر قرار لقبيلته حتى تردّ له حريته، على نحو ما يقصه الرواة من موقف اليمانية من ابن مفرّغ حين زجّ به عبّاد بن زياد فى سجن سجستان، فإنها ما زالت تتشفع فيه عند الخليفة وتتوسّل حتى أمر بإطلاق سراحه (5).

ومعنى ذلك أن نظام الولاء أقام أواصر بين العرب والموالى كأواصر الرحم، أما ما يلقانا عند إسماعيل بن يسار النسائى شاعر المدينة من أشعار تمجد الفرس (6) فإنه يعد شذوذا فى العصر، وهو شذوذ ربما ساقه إلى نفسه كثرة الأشعار التى كان يفتخر فيها كل عربى بقبيلته ممجدا لها ومشيدا بها محاولا الغضّ من القبائل التى تعاديها، وكأن ذلك نبّه إسماعيل للإشادة بجنسه الفارسى، وقد لقى جزاءه عند هشام بن عبد الملك، فإنه غضب عليه غضبا شديدا حين رآه يفخر بأصله الفارسى.

(1) أغانى (دار الكتب) 13/ 89، 15/ 380 وما بعدها.

(2)

الحيوان للجاحظ (طبع الحلبى) 7/ 75.

(3)

البيان والتبيين 3/ 309.

(4)

نفس المصدر 1/ 108 وأغانى (دار الكتب) 2/ 308.

(5)

الشعر والشعراء 1/ 323.

(6)

انظر ترجمته فى أغانى دار الكتب 4/ 411 وما بعدها.

ص: 213

ومهما يكن فإن إسماعيل كان شذوذا على الموالى أنفسهم فى هذا العصر، وأكبر الدلالة على ذلك أننا نجد بشار بن برد الذى أعلن النزعة الشعوبية فى عهد العباسيين إعلانا قويّا يفتخر فى هذا العصر بمواليه من قيس افتخارا عنيفا (1). ولعل من الطريف أننا نجد بعض الشعراء من العرب يفتخرون بأمهاتهم الأعجميات مثل ابن ميّادة (2)، ومثل أبى نخيلة الذى يقول (3):

أنا ابن سعد وتوسّطت العجم

فأنا فيما شئت من خال وعمّ

ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل دلالة واضحة على بطلان ما يذهب إليه بعض المستشرقين من أن العرب والموالى كانوا يستشعرون العداء بعضهم لبعض فى هذا العصر (4)، فقد كانوا بنعمة الإسلام إخوانا، وكان كل منهم ينصر صاحبه كلما هتف به أو استغاث، وقد أخذوا ينهضون بجميع صور الحياة نهوضا مشتركا. وحقّا كانت الدولة عربية وكانت تتخذ ولاتها من العرب، ولكنها فسحت للموالى فى شئون الخراج وفى الدواوين حتى بعد أن ترجمت وعرّبت، على نحو ما هو معروف عن سالم مولى هشام وكان رئيس دواوينه، ومثله عبد الحميد الكاتب وكان على رأس دواوين مروان بن محمد.

وربما كان أهم جانب يوضح علاقة العرب بالموالى لهذا العصر وأنها كانت تقوم على البر والتعاون الوثيق نهضتهم جميعا بالدراسات الدينية وما انطوى فيها من وعظ وإمامة للمسلمين فى المساجد، فإننا حين نستعرض هذا الجانب نجدهم لا يقفون مع العرب فيه على قدم المساواة فحسب، بل إنهم يبزّونهم، حتى لتصبح منهم الكثيرة الكثيرة من علماء الدين ودارسيه. وواضح من ذلك كله أن الموالى شاركوا فى الحياة العربية لهذا العصر مشاركة قوية، إذ كانوا يعدّون فعلا عربا، وقد أخذوا ينهضون بالأدب العربى، على أنه أدبهم، فهجروا آدابهم المختلفة من فارسية وغير فارسية، وأخذوا يعبّرون عن عواطفهم ومشاعرهم بلغة القرآن الكريم التى ملكت أزمة قلوبهم واستولت منهم على الضمائر استيلاء.

(1) أغانى 3/ 139 والديوان 1/ 316، 2/ 8، 3/ 250.

(2)

أغانى 2/ 261.

(3)

البيان والتبيين 3/ 225 والشعر والشعراء 2/ 583.

(4)

قلهوزن ص 472 وفى مواضع متفرقة.

ص: 214