الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجد هنا ولا هناك كلمة متوعرة ولا لفظا ضعيفا، إنما تجد روعة الأسلوب دائما وجزالته وعذوبته ونصاعته، مع دقة العبارات واستيفائها لمعانيها، ومع الألفاظ المستحسنة فى الآذان وعلى الأفواه، الألفاظ التى تغذى العقول برحيقها الصافى وتشفى القلوب والنفوس.
وهذا الأسلوب البالغ الروعة الذى ليس له سابقة ولا لاحقة فى العربية هو الذى أقام عمود الأدب العربى منذ ظهوره، فعلى هديه أخذ الخطباء والكتاب والشعراء يصوغون آثارهم الأدبية مهتدين بديباجته الكريمة وحسن مخارج الحروف فيه، ودقة الكلمات فى مواضعها من العبارات بحيث تحيط بمعناها، وبحيث تجلّى عن مغزاها، مع الرصانة والحلاوة. وكان العرب-ولا يزالون- يتحفّظونه، فهو معجمهم اللغوى والأدبى الذى ساروا على هداه، مهما اختلفت أقطارهم أو تباعدت أمصارهم وأعصارهم. يقول الجاحظ: «وكانوا يستحسنون أن يكون فى الخطب يوم الحفل وفى الكلام يوم الجمع آى من القرآن فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة وسلس الموقع. وقال الهيثم بن عدى:
قال عمران بن حطّان: إن أول خطبة خطبتها عند زياد-أو عند ابن زياد-فأعجب بها الناس وشهدها عمى وأبى، ثم إنى مررت ببعض المجالس فسمعت رجلا يقول لبعضهم: هذا الفتى أخطب العرب لو كان فى خطبته شئ من القرآن» (1). وما ذلك إلا لفتنتهم بأسلوبه وإحكام نظمه، فإنك تجد العبارة منه، بل اللفظة، حين تأتى فى سياق كلام كاتب أو خطيب أو شاعر تضئ، كأنها الشهاب الساطع. ولا يزال أدباء العرب يستقون من فيضه وينهلون من نبعه الغزير ما يقوّم ألسنتهم، ويكفل لهم إحسان القول بدون تكلف أو تعمل أو اجتلاب للألفاظ من بعيد.
4 - الحديث النبوى
الحديث هو كل ما حكى عن النبى صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وهو بذلك ليس جميعة أقوالا له، بل منه ما يسمّى باسم
(1) البيان والتبيين 1/ 118.
الآثار وهى ما رواه الرواة حكاية عن خلقه أو عمله أو فى شأن من شئونه.
وضم إليه الرواة كثيرا مما حكى عن الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين، إذ كانوا يقتدون به فى أقوالهم وأفعالهم عملا بقوله تعالى:{(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)} ويقول الجاحظ: «كانوا يكرهون أن يقولوا سنّة أبى بكر وعمر، بل يقال: سنة الله وسنة رسوله» (1). وفى ابن سعد عن صالح بن كيسان قال:
وأهمية الحديث ترجع إلى أن القرآن الكريم يذكر أصول الدين الإسلامى وأحكامه مجملة دون تفصيل وأنه هو الذى يفصّلها، فالقرآن مثلا لم يذكر تفاصيل الصلاة والزكاة وهما من أهم أركان الإسلام، بل اكتفى بمثل قوله تعالى {(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)} وفصّل الحديث أوقات الصلاة وكيفياتها، كما فصل القواعد والأسس التى يجب اتباعها فى جمع الزكاة وتوزيعها. وهذان أمران من مئات الأوامر التى تناولتها أفعال الرسول وأقواله. فهو الذى بيّن أحكام الشريعة وصوّرها عمليا كما صور المبادئ الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية التى جاء بها الرسول. وبذلك كان مكملا للقرآن، وخاصة حين تجمل أحكامه أو ينبهم المراد من معنى بعض آياته، فقد روى عن على بن أبى طالب أنه لما أرسل ابن عباس ليحاجّ بعض الخوارج أوصاه بأن لا يعارضهم بالقرآن لأنه حمّال أوجه، ويحتمل معانى مختلفة، وبأن يكون عماده السّنة فلا يجدوا منها مخرجا (3).
وكان الصحابة يروون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى حياته وكان هو نفسه يحثهم على ذلك، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله: «اللهم ارحم خلفائى قلنا
(1) الحيوان للجاحظ (طبعة الحلبى) 1/ 336.
(2)
طبقات ابن سعد (طبعة أوربا) ج 2 ق 2 ص 135.
(3)
نهج البلاغة (طبعة بيروت) 2/ 146.
يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يروون أحاديثى ويعلمونها الناس (1)».
وكان كثيرا ما يقول للوفود: احفظوا أحاديثى واخبروا بها من وراءكم من العشائر، وتتكرر فى خطبة حجة الوداع المشهورة:«ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب» . وكان يرسل فى القبائل رسله ليعلموهم القرآن وسنته. ومرّ بنا أنه لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن سأله: بم تقضى؟ فقال: بكتاب الله، فقال:
فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسوله. فالحديث كان متداولا فى حياة الرسول وكان الرسول يأمر بنشره وإذاعته فى الناس، حتى يقفوا على أوامر الدين ونواهيه وما أخذهم به من آداب ونظم.
ولما توفّى الرسول وانتشر الصحابة فى الأمصار الإسلامية أخذوا يبلّغون كتاب الله وسنة رسوله أينما ذهبوا، وكادوا لا يتركون صغيرة ولا كبيرة من أفعاله وأقواله إلا أحصوها وتناقلوها، واشتهر من بينهم جماعة بكثرة ما روى عنهم فى هذا الباب مثل أبى هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وابن عباس وأنس بن مالك، وكثير غيرهم. حتى إذا ذهب الصحابة خلفهم التابعون يحكون ما سمعوه منهم. وبذلك أخذ الحديث ينتقل من جيل إلى جيل، فالمحدّث يقول: سمعت من فلان عن فلان أو حدثنى أو أخبرنى أو أنبأنى. ومن ثمّ تكوّن سند الحديث وتكونت السلاسل الطويلة من رواته، تلك السلاسل التى تضخمت مع مر الزمن بعامل طول المسافة بين المحدّث ومن ينقل عنهم حتى عصر الرسول. وقد يكون للحديث الواحد أكثر من سند بسبب تفرّق الصحابة فى الأرض، وبذلك تعددت طرق رواية الحديث، كما تعدد حاملوه، وأصبح يحتوى متنا وسندا يطول ويقصر. وطبيعى أن يسمّى حديثا لأنه كان يعتمد على الرواية والنقل الشفوى، وهو يسمّى أيضا السنة، وهى فى اللغة العادة ويراد بها العادة المقدسة التى رويت عن النبى وصحابته، وهى تستعمل فى القرآن بمعنى تقاليد الأسلاف الأولين وقد حوّلها المسلمون إلى التقاليد التى حكيت عن الرسول وصحبه.
ومما لا ريب فيه أن بعض أحاديث الرسول دوّن فى حياته، وخاصة تلك
(1) انظر فى هذا الحديث مقدمة القسطلانى على البخارى.
التى تتصل بالزكاة حين كان يكتب إلى بعض الأقوام يبيّن لهم فرائض دينهم، على نحو ما نجد ذلك فى بعض كتبه المأثورة (1). ورخّص النبى فى بعض الأحوال لنفر من الصحابة أن يكتبوا حديثه، فقد أذن لرجل من الأنصار شكا إليه سوء حفظه لما يسمع منه أن يستعين على حفظه بيمينه (2)، وعن رافع بن حديج قال:
«قلنا يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج (3)» ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما يسمع من حديث فأذن له (4)، وكان يسمّى صحيفته التى كتبها عن الرسول الصادقة (5). وفى بعض الأحاديث أن الرسول أمر أصحابه أن يكتبوا لرجل يمنىّ خطبة سمعها منه، تضمنت بعض الأحكام الدينية (6). على أنه ينبغى أن لا نبالغ فى تصور ما كان من هذه الكتابة لحديث الرسول فى حياته، فإنها كانت محدودة جدّا، وكان الرسول ينهى أن تصبح كتابة حديثه عامة، حتى لا يختلط بالقرآن، وهذا هو السبب فيما أثر عنه من أقوال تنهى عن تدوين حديثه من مثل قوله لأصحابه:«لا تكتبوا عنى شيئا إلا القرآن فمن كتب شيئا فليمحه» (7).
ومما يدل دلالة قاطعة على أن جمهور الحديث لم يكتب على عهد الرسول أن نجد عمر بن الخطاب يستشير الصحابة فى كتابته، وطفق يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إنى كنت أردت أن أكتب السّنن وإنى ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإنى والله لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا» (8). فترك كتابة السنن، وتبعه كثير من الصحابة يروون الحديث ويكرهون أن يكتبه سامعهم مثل زيد بن ثابت وأبى هريرة وأبى سعيد الخدرى وأبى موسى الأشعرى، واقتدى بهم كثير من التابعين وإن كانت أخذت تظهر عند بعضهم بوادر كتابته، ولكنه على كل حال لم يدوّن فى القرن الأول للهجرة تدوينا عامّا: وظل الأمر على ذلك حتى تولى عمر بن عبد العزيز
(1) انظر فى ذلك مجموعة الوثائق السياسية فى العهد النبوى والخلافة الراشدة لحميد الله (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر).
(2)
تقييد العلم للخطيب البغدادى (طبعة يوسف العش) ص 65.
(3)
تقييد العلم ص 72.
(4)
تقييد العلم ص 74 وما بعدها.
(5)
تقييد العلم ص 84.
(6)
نفس المصدر ص 86.
(7)
تقييد العلم ص 29 وما بعدها.
(8)
نفس المصدر ص 49 وما بعدها.
الخلافة (99 - 101 هـ) فأمر بتدوينه. جاء فى حاشية (1) الزرقانى على موطأ مالك: «لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدّونها لفظا ويأخذونها حفظا إلا كتاب الصدقات والشئ اليسير. . حتى خيف عليها الدروس وأسرع فى العلماء (من حفّاظها) الموت، فأمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمى (والى المدينة) فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنّة أو حديث فاكتبه. وقال مالك فى الموطأ رواية محمد بن الحسن: أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبى بكر محمد بن عمرو بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنتّه أو نحو هذا فاكتبه لى فإنى خفت دروس العلم وذهاب العلماء، علّقه البخارى فى صحيحه، وأخرجه أبو نعيم فى تاريخ أصبهان بلفظ: كتب عمر إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه» . وتوفّى عمر قبل أن يصله عمل ابن حزم فى هذا الصدد. وأول مدوّن للحديث بالمعنى الدقيق لكلمة تدوين هو ابن شهاب الزهرى (2) المتوفى سنة 124 للهجرة. وأخذ التصنيف والتأليف فى الحديث يكثر بعده ويتسع، وسرعان ما ظهر موطأ مالك ثم تتابعت صحاحه مثل صحيح البخارى وصحيح مسلم.
وإنما قدمنا ذلك ليقف القارئ على أن الحديث تأخر تدوينه، وكان طبيعيّا أن يتداوله الأعاجم والمولدون قبل هذا التدوين حتى ينهجوا نهج الرسول ويقتفوا أثره، فزادوا ونقصوا فى عبارته وقدموا فى كلماتها وأخّروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ، ومن أجل ذلك رأى أئمة اللغة والنحو من علماء البصرة والكوفة وبغداد أن لا يحتجوا بشئ من الحديث فى إثبات لغة العرب والاستدلال على القواعد التى دونوها، لأن الأحاديث لم تكن تروى بألفاظها كما جاءت عن الرسول إنما كانت-تروى غالبا-بمعانيها، ومن أجل ذلك كان كثير من الأحاديث تتعدد رواياته.
(1) انظر الحاشية 1/ 10.
(2)
انظر فى ترجمته كتاب الأنساب للسمعانى 281 وابن خلكان (طبعة بولاق) 1/ 571 وتهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 445 وتذكرة الحفاظ للذهبى 1/ 102 والمعارف لابن قتيبة ص 239 وصفة الصفوة 2/ 77.
على أن طائفة من الأحاديث رويت رواية تواتر، ومن ينظر فى هذه الأحاديث وما نصّ عليه العلماء بأنه روى بلفظه يعرف أنه عليه السلام أوتى جوامع الكلم، وحقّا ما بقوله الجاحظ من أنه «لم يتكلم إلا بكلام قد حفّ بالعصمة وشيّد بالتأييد ويسّر بالتوفيق» (1) ويضرب الجاحظ لبيانه الرائع بعض الأمثله من حديثه الذى قلّ عدد حروفه وكثرت معانيه، فمن ذلك قوله للأنصار:
«أما والله ما علمتكم إلا لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع» وقوله «المسلمون تتكأفأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ، وقوله:«لا تزال أمتى صالحا أمرها ما لم تر الأمانة مغنما والصّدقة مغرما» ، وقوله «المستشار مؤتمن» ، وقوله: «إن أحبّكم إلى وأقربكم منى مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطّئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون.
وإن أبغضكم إلىّ وأبعدكم منى مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون»، وقوله «لا تجن يمينك على شمالك» وقوله:«ما أملق تاجر صدوق» وقوله:
«رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» وقوله: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرّقوا وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» وقوله: «يقول ابن آدم: مالى مالى، وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو وهبت فأمضيت» وقوله: «إن قوما ركبوا سفينة فى البحر فاقتسموا فصار لكل رجل موضع، فنقر رجل موضعه بفأس، فقالوا: ما تصنع؟ قال: هو مكانى أصنع به ما شئت، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا وإن تركوه هلك وهلكوا» وقوله: «حصّنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة» وقوله: «من ذبّ عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقا على الله أن يحرّم لحمه على النار» وقوله: «أوصانى ربى بتسع: أوصانى بالإخلاص فى السرّ والعلانية، وبالعدل فى الرّضا والغضب، وبالقصد فى الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمنى، وأعطى من حرمنى، وأصل من قطعنى، وأن يكون صمتى فكرا ونطقى ذكرا ونظرى عبرا» وقوله: «إن الأحاديث ستكثر
(1) البيان والتبيين 2/ 17.
بعدى كما كثرت على الأنبياء من قبلى، فما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو عنى قلته أو لم أقله». ويذكر الجاحظ طائفة من أقواله التى دارت بين الناس دوران الأمثال والتى تعدّ ذخيرة أدبية رائعة من نحو قوله صلى الله عليه وسلم (1):
يا خيل الله اركبى-مات حتف أنفه (2) -لا تنتطح فيه عنزان-الآن حمى الوطيس (3) -كل الصّيد فى جوف الفرا (4) -هدنة على دخن وجماعة على أقذاء (5) -لا يلسع المؤمن من جحر مرتين. ومن أمثاله أيضا: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى (6) -إياكم وخضراء الدّمن (7) -الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (8).
وإذا كنا قد عرضنا فى غير هذا الموضع لأثر القرآن فى اللغة والأدب فإن للحديث هو الآخر أثرا فيهما، وإن كان لا يبلغ أثر القرآن العظيم، لأنه دونه فى البلاغة، وإن كان قائله أبلغ العرب قاطبة وأفصحهم. ويمكن أن نلاحظ أثره فى أنه عاون القرآن الكريم فى انتشار العربية، وفى حفظها وبقائها، وكان له أثر أيضا فى توسيع المادة اللغوية بما أشاع من ألفاظ دينية وفقهية لم تكن تستخدم من قبل هذا الاستخدام الخاص، وقد أقبل العلماء فى مختلف الأمصار الإسلامية، وعلى تعاقب الأعصار، يدرسونه ويتحفظونه ويشرحونه ويستنبطون منه. وحقّا أن كثرته رويت بالمعنى، ولكن هذا لا يقلل من قيمته اللغوية، إذ كانت ألفاظه تدور فى عصور سبقت عصر فساد اللغة، وهى من أجل ذلك ألفاظ عربية سليمة، وبالتالى هى كنز ثمين. وقد استمد المتأدبون من هذا الكنز فى رسائلهم وأشعارهم ما أضاف إليها-على مر العصور-رونقا وطلاوة، وما يزال ذلك شأنهم إلى اليوم. وقد
(1) انظر البيان والتبيين 2/ 15 وراجع كتب الأمثال.
(2)
مثل يضرب لمن مات على فراشه.
(3)
الوطيس: التنور. يضرب مثلا فى اشتداد الحرب.
(4)
الفرا: حمار الوحش. يضرب مثلا فى نفاسة الشئ أو الشخص.
(5)
دخن: حقد.
(6)
المنبت: من أسرع بناقته حتى هلكت فلم يقض ما يبغى من حاجة أو من سفر. والظهر: الناقة التى يركبها.
(7)
الدمن: البعر المتلبد. يضرب مثلا للتنفير من المرأة الحسناء تنشأ فى منبت سيئ.
(8)
الراحلة: الصالحة لأن ترحل.
جاءت فيه أحرف غريبة من لغات القبائل، إذ كان الرسول يخاطب بعض وفودهم بلغاتهم، وبقيت من ذلك آثار مختلفة كحديثه المشهور الذى أبدل فيه أل بأم كما يصنع بعض العرب من حمير إذ قال:«ليس من امبرّ امصيام فى امسفر» ، أى ليس من البر الصيام فى السفر. ومن أجل هذا وأمثاله ألف العلماء فى غريبه كتبا، من أهمها كتاب غريب الحديث للقاسم بن سلام.
ومن تأثيره أيضا نشأة الكتابة التاريخية لا فى السيرة النبوية فحسب، بل أيضا فى تراجم المحدّثين للحكم لهم أو عليهم فيما نقل عنهم. ومن غير شك هو السبب فى أن المسلمين أشد الأمم عناية بتواريخ رجالهم على نحو ما نعرف فى مثل طبقات ابن سعد وأسد الغابة والإصابة والاستيعاب وميزان الاعتدال للذهبى.
فالحديث هو الذى فتح باب الكتابة التاريخية وهيّأ لظهور كتب الطبقات فى كل فن. وهذا غير ما نشأ عنه من علوم الحديث وغير مشاركته فى علوم التفسير والفقه، مما بعث على نهضة علمية رائعة.