الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
شعراء السياسة
1 - شعراء الزبيريين
رأينا فى غير هذا الموضع كيف أخذت تظهر فى صفوف الأشراف من أبناء كبار الصحابة معارضة حادة لأخذ معاوية البيعة لابنه يزيد بولاية العهد واستخلافه له من بعده، وكيف قاد الحسين بن على بن أبى طالب وعبد الله بن الزبير هذه المعارضة. وحدث أن دعا بعض أهل الكوفة الحسين ليبايعوه، ومضى إليهم غير أنه قتل دون غايته، فخلا الجوّ لابن الزبير الذى عاذ بمكة، وقد اتخذ من قتل الحسين أداة للتشنيع على يزيد وعمّاله، وثارت المدينة، وأوقع بها يزيد وقعة الحرّة المشهورة. فاتسعت الجروح فى الحجاز، وبدا للعيان أن الأمويين، وإن كانوا قرشيين، يحكمون بسيوف كلب وغيرها من قبائل الشام اليمنية، وكأنه لم يعد لقريش ولا للحجاز عامة شئ فى الحكم. وحقّا أن الأمويين قرشيون ولكنهم حولوا الخلافة عن المدينة حاضرتها فى الحجاز إلى دمشق، ولم يعودوا يستندون فى حكمهم على قريش، بل أصبحوا يستندون على قبائل الشام اليمنية ويحكّمونها فى رقاب الناس، بل لقد استباحوا بها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضوا يلون الخلافة كما وليها يزيد، لا بسلطان شرعى، وإنما بسلطان السيف والقوة، إذ أن يزيد لا يأتى أولا بين أبناء كبار الصحابة فبينهم من يفضلونه بسابقة آبائهم فى الإسلام وبسيرتهم الفاضلة. واتجه الجيش الذى نكب المدينة فى وقعة الحرّة إلى مكة حيث يعوذ ابن الزبير، وهبّ كثير من العرب حتى من الخوارج للذوّد عن البلد الحرام. وضرب من حوله حصار،
غير أن الأنباء جاءت بموت يزيد، فرفع الحصار، وعاد الجيش أدراجه.
وبدا حينئذ كأن ابن الزبير هو القرشى الذى اختير للجماعة، فأبوه من كبار الصحابة المقدّمين وأمه أسماء أخت السيدة عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان قوىّ الشخصية تقيا وشارك فى فتوح إفريقية، وسرعان ما انضمت تحت لوائه قيس فى الشام والجزيرة وتبعته العراق ومصر، وكذلك تبعته خراسان بقيادة عبد الله بن خازم السّلمى القيسى. وولى بعد يزيد ابنه معاوية بعهد منه، ولكنه توفّى سريعا، وبدا كأن حكم بنى أمية قد انتهى، حتى ليقول ابن عرادة بخراسان (1):
أبنى أميّة إنّ آخر ملككم
…
جسد بحوّارين ثمّ مقيم (2)
طرقت منيّته وعند وساده
…
كوب وزقّ راعف مرثوم (3)
ومرنّة تبكى على نشوانه
…
بالصّنج تقعد تارة وتقوم (4)
وظل ابن الزبير يقود الولايات التى تبعته من مكة، ولم يلبث مروان بن الحكم أن ظهر بالشام تسنده كلب والقبائل اليمنية، وأوقع بقيس الشام وقعة مرج راهط المشهورة، فخلصت له الشام، ولم تلبث مصر أن استجابت له، وولّى عليها ابنه عبد العزيز. وبذلك تحولت الخلافة من بيت السفيانيين إلى بيت المروانيين، فإن مروان لم يلبث أن توفّى وخلفه ابنه عبد الملك، وكان سياسيّا أريبا، يعرف كيف يستخدم المال فى جمع الناس من حوله، وكان فى ابن الزبير بخل وحرص شديد جعل كثيرا من العرب ينصرفون عنه، ويضرب الرواة لذلك مثلا هو أن فضالة بن شريك الأسدى، وقيل بل ابنه، وفد عليه (5)
(1) طبرى 4/ 421.
(2)
حوارين: قرية من قرى حمص توفى بها يزيد.
(3)
راعف: سائل. مرثوم: انكسر حتى تقطرت منه الخمر.
(4)
مرنة: مغنية.
(5)
انظر فى هذه الوفادة ترجمة فضالة بن شريك فى الأغانى (طبع دار الكتب) 12/ 71 وما بعدها وتهذيب ابن عساكر 7/ 424 والإصابة 3/ 224 ومعجم الشعراء ص 176.
فقال له: إن ناقتى قد نقبت (1) ودبرت (2)، فقال: ارقعها بجلد (3)، واخصفها بهلب (4)، وسر البردين (5) بها تصحّ، فقال فضالة: إنى أتيتك مستحملا ولم آتك مستوصفا، فلعن الله ناقة حملتنى إليك، فقال له ابن الزبير: إنّ (6) وراكبها. وانصرف فضالة من عنده، وهو يقول:
شكوت إليه أن نقبت قلوصى
…
فردّ جواب مشدود الصّفاد (7)
يضنّ بناقة ويروم ملكا
…
محال، ذلكم غير السّداد
ومضى يشيد ببنى أمية وكرمهم الفياض، ويقول إنه صائر إليهم. ولعل فى هذا الحادث ما يفسر السبب فى قلة الشعراء الذين صدروا عن رأى ابن الزبير فى الخلافة مدافعين عنه بنبال شعرهم، وكأنما لم تكن تعنيه هذه النبال.
وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك شعراء يقفون فى صف ابن الزبير، وإنما معناه أنه رغب بنفسه عن هذا اللون من الدعاية، أو قل رغب به شحّه عنه، ومع ذلك فقد وقف فى صفّه كثير من الشعراء، لا فى الحجاز حيث كان يدعو لنفسه بل بين قيس فى الشام والجزيرة ولدن أخيه مصعب واليه على العراق.
ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أن العصبيات والوقائع الحربية اشتعلت بين القبائل القيسية من جهة والقبائل اليمنية وتغلب من جهة ثانية، وأن الشعراء فى الطرفين جميعا سلّوا ألسنتهم مدافعين عن قبائلهم ومهاجمين، أو بعبارة أخرى مفاخرين ومتهاجين هجاء مريرا. ولم يكن الطرفان يتناقضان فى العصبية القبيلية فحسب، بل كانا أيضا يتناقضان فى السياسة، إذ كان هوى قيس مع ابن الزبير وهوى القبائل اليمنية وتغلب مع بنى أمية، ومن ثم اختلطت فى أشعارهم العصبية بالسياسة، ومن خير ما يمثل ذلك قصيدة «خفّ القطين» التى ضمنها الأخطل هجاء قيس ومديح عبد الملك مصورا موقف قبيلته من الخلافة الأموية وما قدمته لها من
(1) نقبت: من نقب البعير إذا حفى ورقت أخفافه.
(2)
دبرت: أصابها جرح فى ظهرها.
(3)
ارقعها بجلد: يريد أن يجعل لها خفا من جلد.
(4)
الهلب: الشعر. الحصف: الخرز. يريد أن يخرز الخف به ليقيه.
(5)
البردين: الغداة والعشى.
(6)
إن هنا بمعنى نعم.
(7)
القلوص: الناقة. الصفاد: ما يشد به الأسير من قيد ونحوه.