الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمضى فيصور قضاءه الليل فى الحديث معها حتى تباشير الصباح، وكأنه فى ذلك يحاكى امرأ القيس فى معلقته إذ يصف بعض مغامراته، ولكن خلافا واضحا يقوم بينهما، فامرؤ القيس يغامر مع نساء متزوجات، أما عمر فيغامر مع فتيات نبيلات، وهى عنده مغامرات لا تتعدى اللقاء والمتعة بالحديث.
وعمر من هذه الناحية صريح ولكنها صراحة لا تنتهى إلى إباحية ولا إلى إثم. ومن ثمّ كنا ننفى القصص التى تزعم أن بعض الخلفاء حين حج نفاه إلى الطائف أو إلى دهلك إحدى جزر البحر الأحمر، ونظن ظنّا أن هذا من انتحال الرواة.
ويقولون إنه مات وقد قارب السبعين أو جاوزها (1)، وإذا صح ذلك يكون قد توفّى حوالى سنة ثلاث وتسعين للهجرة.
الأحوص
(2)
أوسى من الأنصار من أهل المدينة، اسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم ابن ثابت، وجده عاصم حمىّ الدّبر أى النّحل، إذ بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بنى لحيان فى نفر، فحاربوهم فى يوم يسمى يوم الرّجيع. ولما قتلوه أرادوا أن يصلبوه، فحمته الدبر منهم نهارا حتى إذا جنّ الليل أمطرت السماء فاحتمله السّيل، فسمّى حمىّ الدبر. وخال أبيه حنظلة بن أبى عامر الذى قتل يوم أحد وقال عنه الرسول إن الملائكة لتغسله، وقد افتخر بهما الأحوص جميعا، فقال:
غسّلت خالى الملائكة الأبرار
…
ميتا طوبى له من صريع
وأنا ابن الذى حمت لحمه الدّبر
…
قتيل الّلحيان يوم الرّجيع
وإنما لقب الأحوص لحوص كان فى عينيه، وهو ضيق فى مؤخرهما.
ويقال إنه كان أحمر شديد الحمرة. وهو مثل ابن أبى ربيعة عاش للحب
(1) أغانى (دار الكتب) 1/ 71
(2)
انظر فى ترجمة الأحوص وأخباره الأغانى (طبع دار الكتب) 1/ 294، 297، 301، 4/ 224 وما بعدها، 6/ 254 وما بعدها، 9/ 64 وما بعدها وابن سلام ص 534 والشعر والشعراء 1/ 499 والموشح ص 187 والاشتقاق ص 437 والخزانة 1/ 231 وحديث الأربعاء 1/ 329 وكتابنا الشعر والغناء فى المدينة ومكة لعصر بنى أمية ص 114.
والغزل، غير أنه فيما يظهر لم يكن ثريّا، ومن ثمّ كان يرحل كثيرا إلى دمشق يمدح خلفاء بنى أمية وينال عطاياهم الجزيلة، يقول:
وما كان مالى طارفا من تجارة
…
وما كان ميراثا من المال متلدا
ولكن عطايا من إمام مبارك
…
ملا الأرض معروفا وجودا وسؤددا
وله مدائح مختلفة فى الوليد بن عبد الملك وعبد العزيز بن مروان وعمر ابنه ويزيد بن عبد الملك. وأخباره تدل على أنه كان فيه طيش شديد، ولعله من أجل ذلك كان يصطدم بكثير من معاصريه، فيهجوهم هجاء قبيحا. وهو فى غزله شديد الصبابة، يستأثر الحب بقلبه ويملك عليه كل شئ، حتى ليقول:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
…
فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا
فالحب الحياة ومن لم يعشق عدّ من الأموات، بل من الجماد، بل من الحجارة أو أشد قسوة. وهو يعلن حبه إعلانا، يعلن صبوته وثورة نفسه. وكان فاسد الخلق، فانصرفت الفتيات والنساء عنه، إذ رأينه يذهب بعيدا فى التصريح، على شاكلة قوله:
تعرّض سلماك لما حرم
…
ت ضلّ ضلالك من محرم (1)
تريد به البرّ يا ليته
…
كفافا من البرّ والمأثم (2)
وأشعاره فى أم جعفر الأوسية أنقى غزلياته، وكانت تدفعه عنها دفعا شديدا، وكذلك كان يدفعه عنها أخوها أيمن، حتى ليروى أنه أصلاه يوما سياطا حامية، وفيها يقول:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر
…
بأبياتكم ما درت حيث أدور
أزور البيوت اللاصقات ببيتها
…
وقلبى إلى البيت الذى لا أزور
وما كنت زوّارا ولكن ذا الهوى
…
إذا لم يزر لا بد أن سيزور
(1) حرمت: دخلت الحرم مثل أحرمت.
(2)
يقول: ليتنى تعادل إثمى وبرى، فخرجت غير بار ولا آثم.
ويقول:
وما هو إلا أن أراها فجاءة
…
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
لك الله إنى واصل ما وصلتنى
…
ومثن بما أوليتنى ومثيب
أبثّك ما ألقى وفى النفس حاجة
…
لها بين جلدى والعظام دبيب
ومضى ينظم فيها أشعاره، وهى تزداد كرها له وازورارا عنه. ونراه مشغوفا بجميلة المغنية وناديها المشهور فى المدينة ومن كنّ فيه من الإماء مثل الذّلفاء وعقيلة وسلاّمة القس وله فيهن غزل كثير، كن يغنين فيه، من مثل قوله فى الذلفاء:
إنما الذلفاء همّى
…
فليدعنى من يلوم
حبّب الذّلفاء عندى
…
منطق منها رخيم
حبّها فى القلب داء
…
مستكنّ لا يريم (1)
وكانت سلامة القس أكثرهن عطفا عليه وبرّا به، فنظم فيها غزلا كثيرا، يصوّر كلفه بها أشد الكلف وتهالكه عليها أشد التهالك على شاكلة قوله:
يا دين قلبك منها لست ذاكرها
…
إلا ترقرق ماء العين أو دمعا (2)
لا أستطيع نزوعا عن محبّتها
…
أو يصنع الحبّ بى فوق الذى صنعا
وزادنى كلفا فى الحب أن منعت
…
وحبّ شئ إلى الإنسان ما منعا
وهو فى هذا الغزل بالإماء والجوارى يختلف عن ابن أبى ربيعة الذى كان لا يتغزل كما مرّ بنا إلا بالحرائر النبيلات من القرشيات والعربيات. وهو يختلف عنه أيضا فى بعده فى التصريح، إذ كان لا يتحرج أحيانا من إباحة، ومن ثمّ شكاه أهل المدينة لأبى بكر بن حزم عامل سليمان بن عبد الملك، فأقامه على البلس للناس. ولما ولى عمر بن عبد العزيز أمر بنفيه إلى دهلك، فظل بها طوال خلافته، وولى يزيد بن عبد الملك، فشفعت له سلاّمة-وقد صارت إليه- عنده فعفا عنه. ولما ردّت إليه حريته زار دمشق، وتغنّى بيزيد وانتصاراته على ابن المهلب طويلا. ويقال إنه توفّى حوالى سنة 110 للهجرة.
(1) لا يريم: لا يبرح.
(2)
دين هنا: داء.