الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
الخطابة والخطباء
1 - ازدهار الخطابة
أسهمت عوامل كثيرة فى ازدهار الخطابة لعصر بنى أمية، إذ كانت لا تزال للعرب سلائقهم اللغوية ولم تفسد ألسنتهم بمجاورة الأمم الأجنبية والاختلاط بشعوبها، وكانوا من بلاغة المنطق وحسن البيان وجودة الإفصاح والإفهام بحيث يستطيع متكلمهم أن يبلغ ما يريد من استمالة الأسماع مع الديباجة الرائعة والرونق البديع.
وقد وقف الجاحظ طويلا فى كتابه البيان والتبيين يشيد بقدرتهم الخطابية، وبلغ من إشادته بهذه القدرة أن رفعهم فى الخطابة على جميع الأمم، حتى الفرس واليونان، وهو محق فى تقديمه لهم على الفرس، أما اليونان فمن المعروف أن الخطابة بأنواعها السياسية والقضائية والحفلية نشطت عندهم نشاطا واسعا، وأنه اشتهر بينهم غير خطيب مثل ديموستين، وتوّج هذا النشاط بكتاب الخطابة لأرسططاليس.
ويظهر أن الجاحظ لم يكن يعرف شيئا من ذلك، ومن ثم مضى يقدم الفرس على اليونان فى الخطابة، ومما لا شك فيه أنهم يتخلّفون عنهم وعن العرب جميعا فى مضمار هذا الفن من فنون النثر القولى.
وعوامل مختلفة هيأت للخطابة العربية أن تبلغ فى هذا العصر كل ما كان ينتظر لها من نشاط وازدهار، بالإضافة إلى ما ذكرناه من مواهبهم البيانية، ومن الممكن أن نردها إلى السياسة والمحافل والدين، فأما من حيث السياسة فإن هذا العصر امتاز بظهور معارضة حادة فيه للدولة الأموية، وهى معارضة كانت تدور كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع على الخلافة وهل تقصر على بنى أمية أو
تكون حقّا شائعا للمسلمين جميعا، أو تردّ إلى بنى هاشم وأبناء على خاصة، أو تكون حقّا للعرب، فلا تختص بها قريش.
وكان الأمويون وولاتهم من مثل زياد والحجاج لا يزالون يقرّرون أنها حق لهم وأن الله اصطفاهم ليقودوا العرب والمسلمين ويحكموهم بشريعته. وانبرى لهم الخوارج يصيحون منذ خروجهم على على بن أبى طالب بأن الخلافة حق عام للمسلمين، يتولاّها خيرهم زهدا وتقوى وورعا، ولو كان غير قرشى، بل لو كان غير عربى. ومضوا يحاجّون فى أول الأمر عليّا وابن عباس، ثم أخذوا يحاجون ابن الزبير، واختلفوا فيما بينهم وانقسموا فرقا وطرائق قددا، فكان منهم الأزارقة والنّجدات والصّفرية والإباضية، وأخذ كل فريق يحتج لرأيه مستعينا بدقة مداخله فى حجته.
ومنذ قيام على بالكوفة ظهرت من حوله جماعة ترى أنه هو وأبناءه أصحاب الحق الشرعى فى الخلافة. ويتوفّى على، فيدعون للحسن، ويخيب ظنهم فيه حين يتنازل عن الخلافة لمعاوية. ولا تهدأ ثائرتهم، فيطلبهم زياد بن أبيه، وقصته مع حجر بن عدى مشهورة. ويتوفّى معاوية، فتكتب شيعة الكوفة إلى الحسين، ويتجه إليهم، ولكنه يقتل بكربلاء دون غايته. ويتوفّى يزيد ابن معاوية، فتنشب حركة التوابين، يقودها سليمان بن صرد، وتبوء بالخذلان.
حينئذ يتولى قيادة الشيعة هناك المختار الثقفى، وما يزال يخطب ويدعو حتى يجتمع عليه خلق كثير، ويتجرد له مصعب بن الزبير، فيقضى عليه قضاء مبرما.
ونمضى إلى القرن الثانى فيظهر زيد بن على بن الحسين، ويثور، وسرعان ما يقضى عليه.
ويتكون فى هذه الأثناء حزب عبد الله بن الزبير، ويظل نحو ثمانى سنوات، وكان هذا الحزب يدعو إلى عودة الخلافة إلى الحجاز وأن يتولاها أحد أبناء كبار الصحابة من قريش، لا هؤلاء الأمويون الذين حولوا الخلافة إلى دمشق وأخذوا هناك يحكمون الناس مستندين إلى القبائل اليمنية الشامية. وبذلك ضاع الحكم من قريش ومن الحجاز جميعا.
وكان كثير من سادة العرب وأسرها النبيلة يرى أن الخلافة ينبغى أن لا تقصر على قريش وأن تردّ إلى العرب قاطبة، وبلغ هذا الشعور قمته فى الكوفة، فانبرى عبد الرحمن بن الأشعث الكندى يعبّر عنه فى ثورته على الحجاج، تؤيده بلدته، ولكن ثورته باءت بالفشل. ولا نصل إلى أوائل القرن الثانى حتى يثور نفس الثورة يزيد بن المهلب، وتدور عليه الدوائر.
ودائما تلقانا فى صفوف هذه المعارضة خطابة كثيرة، إذ يمتشق الخطباء ألسنتهم فى تصوير مذاهبهم السياسية، يدعون لها، كما يدعون للانتقاض على بنى أمية. وكان يلقاهم أنصار الأمويين بخطابة ملتهبة، يصورون فيها خروجهم على الجماعة وشغبهم وأنهم يضلون الطريق. وكل ذلك هيأ فى قوة لنشاط الخطابة السياسية، ومن الممكن أن نضيف إلى هذا الجانب خطابة القواد فى الجيوش الغازية شرقا وغربا، إذ قلما احتدمت معركة إلا احتدم معها الشعر والخطابة. ومن الممكن أيضا أن نضيف ما احتدم بين القبائل من خصومات قبلية جعلتهم يقتتلون كما جعلتهم يخطبون متوعدين منذرين على نحو ما مرّ بنا فى خصومات قيس من جهة وتغلب والقبائل اليمنية من جهة ثانية سواء فى الشام أو فى الجزيرة، وكذلك خصومات تميم والأزد فى البصرة، وما اندلع من ألسنة هذه الخصومات جميعا فى خراسان. وهى-كما قدمنا-خصومات كانت تختلط فيها العصبيات القبلية بالسياسة وموقف القبائل من بنى أمية ونصرتهم لهم أو انفضاضهم عنهم.
وإذا تركنا السياسة وأحزابها وأحداثها إلى المحافل ووفودها وجدنا لذلك آثارا قديمة منذ الجاهلية، وقد أخذت هذه الوفود تكثر منذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وخاصة بعد فتح مكة. ولما فتحت الفتوح ومصرّت الأمصار واستبحرت الدولة واتسعت كان يقدم على الخلفاء الراشدين من ينبئونهم بالفتح، ومن يذكرون لهم حاجة قومهم فى المصر الجديد. وندخل فى عصر بنى أمية، فتتحول هذه الوفود إلى سيول، تقصد قصور الخلفاء وقصور الولاة، متحدثة فى شئون قومها. واشتهر معاوية باستقدامه الوفود من الأمصار حين تعنّ له فكرة سياسية كفكرة تولية ابنه يزيد الخلافة من بعده. وكانت هذه الوفود تنوب عن أقوامها
فى بيعة الخليفة الجديد وفى بثّ شكواها حين يلمّ بها ما يوجب الشكوى. وانبثقت فى هذه الأثناء خطب التهنئة والتعزية. وكانوا يسمّون محافل هذه الوفود باسم المقامات، وفى العادة كان ينوب عن القوم فى هذه المقامات سيدهم الذى يصدرون عن رأيه. ويتصادف فى بعض الأحيان أن تجتمع وفود مختلفة، حينئذ يتبارى خطباؤها، ويحاول كل منهم أن يكون له قصب السبق فى البيان والفصاحة.
وبجانب المحافل والسياسة دفع الإسلام إلى نشاط واسع فى الخطابة، إذ جعلها جزءا لا يتجزأ من صلاة الجمعة والعيدين، فأيّان ركز الإسلام أعلامه انتصبت المنابر فى المساجد كى يعظ الخطباء الناس بالمواعظ الحسنة، يسهم فى ذلك الخلفاء والولاة، وجمهور كبير من الخطباء. ولم تلبث جماعة أن عاشت حياتها تعظ الناس مستلهمة هدى القرآن الكريم وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثر أفراد هذه الجماعة فى كل مصر، وكثر بجانبهم جماعة من القصّاص، كانوا يقصون على الناس مازجين قصصهم بتفسير آى الذكر الحكيم وبكثير من مخلّفات أهل الكتب السماوية وتراثهم الدينى. وكانوا يستهوون الناس بما يوردون عليهم من أخبار عجيبة، وكان نفر منهم يتزيد فى هذه الأخبار تزيدا شديدا، مما جعل كثيرين من زهاد الأمة ونساكها ينفرون منهم، وخاصة حين رأوا معاوية وخلفاءه يستغلون بعضهم للدعوة لهم والإزراء على خصومهم (1)، فارضين لهم رواتب ومكافآت شهرية (2). ولعل من الطريف أن هؤلاء القصاص كانوا ينبثّون فى الجيوش لتحميس الجند على القتال، كما كان ينبث معهم جماعة من الوعاظ، وفى الطبرى نصوص تدل على ذلك كثيرة، إذ نجد عتّاب بن ورقاء حين نازل شبيبا الخارجى يقصّ على جنده محمسا لهم (3) كما نجد قتيبة بن مسلم فى خراسان يسأل عن واعظ جنده محمد بن واسع الأزدى الناسك المشهور (4). ولم يكن ذلك قاصرا على جيوش الدولة، فقد كان الخوارج يذهبون نفس المذهب، ومن كبار قصّاصهم صالح بن مسرّح الصّفرىّ،
(1) انظر حاشية الولاة والقضاة للكندى ص 304 وخطط المقريزى (طبعة بولاق) 2/ 253
(2)
الولاة والقضاة ص 317.
(3)
طبرى 5/ 89.
(4)
البيان والتبيين 3/ 273.
وفى الطبرى طرف من قصصه (1)، وكذلك كان يصنع أصحاب الثورات على نحو ما نعرف عن جهم بن صفوان وصنيعه فى فتنة الحارث بن سريج بخراسان (2).
وفى هذه البيئة الدينية، بيئة الوعظ والقصص، أخذ يتضح رقىّ العقل العربى بما أصاب من كنوز الثقافات الأجنبية، فإذا جدل كثير ينشب فى مسائل العقيدة، كمسألة ارتباط الإيمان بالعمل، وهل يعدّ المسلم مؤمنا وإن لم يؤدّ الفروض الدينية، ومثل مسألة حرية الإرادة وهل الإنسان مخيّر فى الحياة أو مسيّر لا حول له ولا قوة. ومثل مسألة صفات الله، هل هى عين الذات الإلهية أو غيرها، وسرعان ما تكونت فرق الجبرية والمرجئة والقدرية والمعتزلة، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع.
والمهم أن هذه الفرق تجادلت جدالا طويلا فى هذه المسائل العقيدية وهو جدال رشّح لقيام مناظرات عنيفة بينها، وهى مناظرات حشدوا لها كل ما يمكن من أدلة نقلية عن الكتاب والسنة وأدلة عقلية مدارها على البرهان المنطقى.
ولم تكن هذه الفرق تتجادل فيما بينها فحسب، بل كانت تجادل أيضا طوائف من أصحاب الديانات السماوية وغير السماوية، وكانوا يرونهم فى جدالهم يستعينون بالمنطق اليونانى وبشعب مختلفة من الفلسفة والثقافات الأجنبية، فطلبوا الوقوف على ذلك كله. وهم من هذه الناحية يعدّون أسبق الطوائف العربية فى معرفة شئون الفكر الأجنبى ودقائق احتجاجاته.
وعلى هذا النحو انبثق علم الكلام فى عصر بنى أمية، وانبثقت معه صور خطابية جدلية هى صور المناظرة والمحاورة، وهى صور جديدة ضمّت إلى صور الخطابة السياسية والحفلية والدينية، صور كانت تسعى إلى نقض أدلة الخصوم وبيان أنهم مخدوعون فيما يذهبون إليه من آراء. وكان الناس يجتمعون من حول أصحاب هذه الصور فى حلقات، يقف فيها المناظر ومعه أصحابه، فيعلن رأيه ويدعمه بكل دليل، ويتقدم خصمه بين أنصاره فيحاول أن يحطم له كل دليل قدّمه، وأن يثبت رأيه هو بما يجمع له من براهين. وسنرى مدى ما كان لهذه المناظرات من أثر فى رقى الخطابة رقيّا بعيدا.
(1) طبرى 5/ 50.
(2)
طبرى 6/ 3 وما بعدها.