الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن هاتين القصتين شئ ونظم العرب للشعر حينذاك وروايته شئ آخر. فقد كانت حريتهم مكفولة فى هذه الرواية وذلك النظم ما لم يتعرضوا للأعراض، ومن الظلم للإسلام أن يقال إنه كفّ العرب عن الشعر ووقف نشاطه، فقد كان ينشد على كل لسان، وساعدت الأحداث على ازدهاره لا على خموله سواء فى معركة الإسلام مع الوثنيين والمرتدين أو فى الفتوح أو فى معركة على مع خصومه فى العراق. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الإسلام أذكى جذوته وأشعلها إشعالا، فإن أحداثه حلّت من عقد الألسنة وأنطقت بالشعر كثيرين لم يكونوا ينطقونه، فإذا بنا نجد مكة التى لم تعرف فى الجاهلية بشعر كثير يكثر شعراؤها، وإذا بنا إزاء عشرات من الشعراء فى الفتوح لم يشتهروا بالشعر ونظمه قبلها. وهم يسمون جميعا مخضرمين من الخضرمة وهى الاختلاط لأنهم خلطوا فى حياتهم بين الجاهلية والإسلام فعاشوا فى العصرين معا.
2 - الشعر فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
مما لا ريب فيه أن شعراء القبائل ظلوا ينظمون شعرهم بالصورة الجاهلية إلى أن دخلوا فى الإسلام، وكان الموت قد سبق إلى كثيرين منهم، فماتوا قبل إسلامهم وحرى بهؤلاء أن يدخلوا فى غمار الجاهليين، فهم ليسوا مخضرمين بالمعنى الصحيح للخضرمة، ومن ثمّ كنا نخرج دريد بن الصّمّة والأعشى وأمية ابن أبى الصلت والأسود بن يعفر النّهشلى وأضرابهم من سلك المخضرمين وننظمهم فى سلك الجاهليين، لأن الموت أدركهم قبل أن يتمّ الله عليهم نعمة الإسلام.
ومعروف أن قريشا حادّت الله ورسوله حين بعث مما اضطره الى الهجرة من مكة إلى المدينة، وسرعان ما نشبت بين البلدتين معركة حامية الوطيس، تقف فيها قريش ومن يعينها من العرب فى جانب، ويقف الرسول صلوات الله عليه ومن هاجروا معه من مكة ومن التفّوا حوله فى المدينة فى جانب آخر. وبمجرد أن
اشتبكت السيوف أخذ الشعراء فى الجانبين المتناقضين يسلّون ألسنتهم، ولم تكن مكة فى الجاهلية-كما قدمنا-تعرف بشعر إلا بعض مقطوعات تنسب لورقة ابن نوفل وغيره من المتحنّفين، ومقطوعات أخرى تنسب لبعض فتيانها مثل نبيه ومسافر اللذين ترجم لهما أبو الفرج فى أغانيه. فلما نشبت الحرب بينها وبين الرسول لمعت فيها أسماء شعراء كثيرين مثل أبى سفيان بن الحارث وعبد الله بن الزّبعرى وضرار بن الخطاب الفهرى وأبى عزّة الجمحى وهبيرة بن أبى وهب المخزومى، وقد أخذوا يسدّدون سهام أشعارهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين وأنصاره من المدينة. وعزّ ذلك عليه لا لأنهم كانوا يهجونه فحسب، بل أيضا لأنهم كانوا يصدّون عن سبيل الله بما يذيع من شعرهم فى القبائل العربية، فقال للأنصار:«ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسّان بن ثابت: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرّنى به مقول بين بصرى وصنعاء» (1) وانضم إليه كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، فاحتدم الهجاء بينهم وبين شعراء مكة. واقرأ فى سيرة ابن هشام فستجده ينقل عن ابن إسحق عقب كل موقعة حربية ما قيل فيها من شعر، تجد ذلك عقب غزوة بدر فى السنة الثانية للهجرة وعقب غزوة أحد فى السنة الثالثة وغزوة الخندق فى السنة الخامسة كما تجد أطرافا من ذلك فى فتح مكة للسنة الثامنة.
على أنه ينبغى أن نشك فى كثير من هذه الأشعار لأن ابن إسحق-كما يقول ابن سلام-كان يحمل كل غثاء من الشعر حتى أفسده وهجّنه (2)، ونرى ابن سلام يقول فى ترجمته لأبى سفيان بن الحارث:«لسنا نعدّ ما يروى ابن إسحق له ولا لغيره شعرا، ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم» (3). على أن ابن سلام نفسه يثبت لأبى سفيان بن الحارث قصيدة كافية ناقض بها فى يوم أحد كافية كان قد نظمها حسان بعد وقعة بدر (4)، وقد
(1) أغانى 4/ 137.
(2)
ابن سلام ص 8.
(3)
ابن سلام ص 206.
(4)
ابن سلام ص 207 وما بعدها.
أثبت لابن الزّبعرى قصيدته التى قالها فى نفس اليوم (1)، والتى يقول فيها:
ليت أشياخى ببدر شهدوا
…
ضجر الخزرج من وقع الأسل (2)
حين ألقت بقباء بركها
…
واستحرّ القتل فى عبد الأشلّ (3)
فقبلنا النّصف من سادتهم
…
وعدلنا ميل بدر فاعتدل (4)
وأيضا فإنه أثبت لأبى عزّة ميمية يحرّض فيها بنى كنانة (5)، وقال عن هبيرة بن أبى وهب: إنه كان شديد العداوة لله ولرسوله، وهو الذى يقول فى يوم أحد (6):
قدنا كنانة من أكناف ذى يمن
…
عرض البلاد على ما كان يزجيها (7)
قالت كنانة: أنّى تذهبون بنا
…
قلنا: النّخيل، فأمّوها وما فيها (8)
وكان فى الطرف المقابل حسان وكعب وابن رواحة، وحسان أشعر الثلاثة، يقول ابن سلام:«وهو كثير الشعر جيده» ، ويقال إن أول ما جرى به لسانه حين سلّه على قريش هذه الأبيات يتحدّى بها أبا سفيان بن الحارث (9):
هجوت محمدا فأجبت عنه
…
وعند الله فى ذاك الجزاء
فإن أبى ووالده وعرضى
…
لعرض محمد منكم وقاء
أتهجوه ولست له بكفء
…
فشرّكما لخيركما الفداء
(1) ابن سلام ص 198 وما بعدها.
(2)
أشياخه ببدر: من قتلوا بها من مشركى قريش. الأسل: الرماح.
(3)
قباء: موضع بضواحى المدينة. ألقت الحرب بركها: حمى وطيسها. استحر القتل: اشتد وكثر.
(4)
قبلنا النصف: انتصفنا بمن قتلناه منهم لقتلى بدر.
(5)
ابن سلام ص 213.
(6)
ابن سلام ص 215.
(7)
الأكناف: النواحى. ذو يمن: موضع قريب من مكة. يزجى: يسوق ويدفع.
(8)
يريد بالنخيل المدينة لكثرته فيها. أموها: قصدوها.
(9)
أغانى 4/ 139 والاستيعاب لابن عبد البر ص 129.
ويقول ابن سلام: «وكعب شاعر مجيد، قال يوم أحد فى كلمة:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه
…
أحابيش منهم حاسر ومقنّع (1)
ثلاثة آلاف ونحن نصيّة
…
ثلاث مئين إن كثرنا وأربع (2)
فراحوا سراعا موجفين كأنهم
…
جهام هراقت ماءه الرّيح مقلع (3)
ورحنا وأخرانا بطاء كأننا
…
أسود على لحم ببيشة ظلّع (4)
وقال فى أيام الخندق:
من سرّه ضرب يرعبل بعضه
…
بعضا كمعمعة الأباء المحرق (5)
فليأت مأسدة تسلّ سيوفها
…
بين المذاد وبين جزع الخندق (6)
ووقف ابن سلام عند ابن رواحة وتحدث عن حسن إسلامه وأنه كان أحد الأمراء الثلاثة الذين قتلوا يوم مؤتة وأثبت له من هجائه لقريش قوله (7):
نجالد الناس عن عرض فنأسرهم
…
فينا النبىّ وفينا تنزل السّور (8)
وقد علمتم بأنا ليس غالبنا
…
حىّ من الناس إن عزّوا وإن كثروا
يا هاشم الخير إن الله فضّلكم
…
على البريّة فضلا ماله غير (9)
فثبّت الله ما آتاك من حسن
…
تثبيت موسى ونصرا كالذى نصروا (10)
(1) أحابيش قريش: حلف منهم تحالفوا عند جبل يسمى حبشيا. الحاسر: الذى لا بيضة له عكس المقنع.
(2)
النصية: الخيار والأشراف.
(3)
موجفين: مسرعين. الجهام: السحاب أفرغ ماءه.
(4)
بيشة: مسبعة فى واد كثير الشجر. ظلع: من الظلع وهو العرج. يكنى بذلك عن سيرهم البطئ المطمئن.
(5)
يرعبل: يمزق. المعمعة: صوت لهب النار فى القصب. الأباء: أجمة القصب. يصف أصوات المعركة.
(6)
أرض مأسدة: كثيرة الأسود. المذاد: موضع بالمدينة. جزع الخندق: منعطفه.
(7)
ابن سلام ص 188.
(8)
عن عرض: عن ناحية، يريد أنهم لا يبالون من يضربون.
(9)
غير: تغيير.
(10)
يقصد الرسل.
وفى الأغانى أن حسانا وكعبا «كانا يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيّرانهم بالمثالب، وكان عبد الله بن رواحة يعيّرهم بالكفر، فكان فى ذلك الزمان أشدّ القول عليهم قول حسان وكعب وأهون القول عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة» (1). ومن المؤكد أن حسانا وكعبا كانا يرميان قريشا عن بصيرة حين غلبت على هجائهما صورة الهجاء القديمة، لأنها هى التى كانت تؤذى نفوس القرشيين المكّيين ولو أنهما رمياهم بالشرك وعبادة الأوثان لما نالا منهم، إذ كانت تلك عقيدتهم وكانوا يعتزّون بها، ومن ثم اتجه حسان وكعب هذه الوجهة، فطعنا فى الأحساب والأنساب، وعيّرا سادتهم وفرسانهم بالفرار من الحرب وتوعداهم بالبلاء المستطير. وطبيعى لذلك أن لا نجد عندهما تأثرا واضحا بمثالية القرآن الكريم فى ذم المشركين، إذ نراه خاليا من الشتم والسباب والطعن فى الأعراض والأحساب، وأيضا فإنه لا يتوعد المشركين بحرب مبيرة تأتى على الشيب والشبان، إنما يتوعدهم بالنار، ومع ذلك يفتح الأبواب واسعة لرحمة الله وغفرانه وتوبته على المشركين الذين يثوبون إلى عقولهم ويدخلون فى دينه الحنيف.
وكان يشرك شعراء قريش فى التأليب على رسول الله وأنصاره وأصحابه نفر من شعراء اليهود نكثوا ما عاهدوه من الموادعة وحقوق الجوار (2) وأخذوا يهجونه هو والمسلمين ويخذّلون عنه قريشا والعرب، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون. وكان من رءوسهم فى هذا الفساد كعب بن الأشرف (3)، وقد بلغ من سوء فعله أن كان يشبّب بنساء الرسول ونساء المسلمين، مما جعل محمد بن مسلمة يقتله فى رهط من الأنصار (4). غير أن اليهود لم يرتدعوا وأخذوا يعملون سرّا وجهرا على تقويض الدعوة المحمدية، فاضطر الرسول إلى إجلائهم عن المدينة، حتى إذا انتهينا إلى خلافة عمر رأيناه ببصيرته النافذة يأمر بإجلائهم عن الجزيرة.
(1) أغانى 4/ 138.
(2)
السيرة النبوية (طبع الحلبى) 2/ 147.
(3)
أغانى (طبعة الساسى) 19/ 106.
(4)
ابن سلام ص 238 والسيرة النبوية 3/ 54 وما بعدها.
وكان كثير من شعراء العرب يقفون مع قريش باكين قتلاها ومحرّضين لها على كفاحها ضد الرسول مثل أمية بن أبى الصلت، ورثاؤه لقتلى بدر مشهور (1) ومثل الأسود بن يعفر الذى أشاد بانتصارها فى يوم أحد (2)، وقد ماتا فى أثناء هذا الصراع. وكان يقف هذا الموقف نفر من شعراء القبائل التى لما تدخل فى الإسلام. وكان يرد عليهم جميعا شعراء المدينة متوعدين مهددين على شاكلة قول كعب بن مالك يهدد ثقيفا بعد انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم على يهود خيبر (3):
قضينا من تهامة كلّ وتر
…
وخيبر ثم أحجمنا السيوفا (4)
نخيّرها ولو نطقت لقالت
…
قواطعهنّ: دوسا أو ثقيفا (5)
فلست لحاصن إن لم تروها
…
بساحة داركم منا ألوفا (6)
فننتزع العروش ببطن وجّ
…
ونترك داركم منا خلوفا (7)
ونردى اللاّت والعزّى وودّا
…
ونسلبها القلائد والشّنوفا (8)
وتفتح مكة فى السنة الثامنة للهجرة، ولكن تظل للصراع بقية فى شعراء هذيل، على نحو ما يمثلهم أبو خراش الهذلى فى بكائه لدبيّة سادن العزّى حين قتله خالد بن الوليد (9). وتظل بقية أخرى فى ثقيف ومعاركها مع الرسول فى حنين. على أنه بمجرد أن دخلت مكة فى الإسلام أدمجت الجزيرة كلها فيه، وأخذت وفودها تفد على الرسول معلنة اعتناقها الدين الحنيف. وفى هذه الأثناء نجد كثيرا من الشعراء وعلى رأسهم شعراء قريش يفزعون إلى ساحة الرسول الكريم
(1) ابن سلام ص 221 والسيرة النبوية 3/ 31.
(2)
ابن سلام ص 123.
(3)
ابن سلام ص 184.
(4)
الوتر: الثأر.
(5)
دوس وثقيف: قبيلتان كانتا تنزلان بالطائف.
(6)
الحاصن: المرأة العفيفة.
(7)
يقصد بالعروش قضبان الكرم. وج: الطائف ونواحيها. والحى الخلوف: الذى فارقه الرجال، يقصد أنهم سيبيدونهم.
(8)
نردى: نهدم. اللات والعزى وود: أصنام. القلائد: السموط. الشنوف: جمع شنف وهو القرط.
(9)
ديوان الهذليين (طبعة دار الكتب) 2/ 148 وانظر الأصنام لابن الكلبى ص 24 وما بعدها.
يطلبون عفوه، وقصة كعب بن زهير مشهورة، وقد مرت بنا الإشارة إليه، ومثله أنس بن زنيم، فإنه كان هجا الرسول، ثم ثاب إلى رشده، فقدم عليه معتذرا، وأنشده أبياتا مدحه بها، يقول فى تضاعيفها (1):
وما حملت من ناقة فوق رحلها
…
أبرّ وأوفى ذمّة من محمّد
ونظم أبو سفيان بن الحارث أشعارا كثيرة يأسى فيها على ما فرّط فى جنب الله ورسوله على شاكلة قوله (2):
لعمرك إنى يوم أحمل راية
…
لتغلب خيل اللاّت خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
…
فهذا أوان حين أهدى وأهتدى
وكان كثير من الشعراء المسلمين يمتدح الرسول وهديه الكريم، يتقدمهم فى ذلك شعراء المدينة، وتنسب إلى الأعشى قصيدة فى مديحه (3) لا شك أنها منحولة، وتنسب لأبى طالب قصيدة مدحه بها يقول فيها:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
ويقول ابن سلام: «قد زيد فيها وطوّلت» (4) وتنسب إلى عباس بن مرداس فارس بنى سليم أشعار كثيرة يمدحه بها من مثل قوله (5):
نبىّ أتانا بعد عيسى بناطق
…
من الحق فيه الفصل منه كذلكا
أمينا على الفرقان أول شافع
…
وآخر مبعوث يجيب الملائكا
ونظم كثير من المراثى فى قتلى المسلمين والمشركين، ورثاء قتيلة لأبيها النّضر بن الحارث ذائع مشهور. ولما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى بكاه الشعراء بكاء حارّا، ومن أرق ما رثى به قصيدة حسان التى يستهلها بقوله (6):
ما بال عينى لا تنام كأنما
…
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
(1) الإصابة لابن حجر 1/ 69.
(2)
ابن سلام ص 206.
(3)
أغانى (طبعة دار الكتب) 9/ 125.
(4)
ابن سلام ص 204.
(5)
أغانى (طبعة دار الكتب) 14/ 305
(6)
ديوان حسان (طبعة هرشفيلد) ص 58.