الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرب عند خمار ونام، ودخل جماعة فسألوا عنه، فعرفوا خبره، فشربوا وناموا وانتبه، فرآهم، فسأل عنهم، فعرف أنهم مصرّعون من الخمر، فشرب، حتى سكر ونام، وانتبهوا فصنعوا صنيعه، وأقاموا جميعا كذلك عشرة أيام، يفيقون ثم يشربون وينامون، وروى قصته معهم فى بعض شعره. إنه يعيش للخمر ويعيش بالخمر، يصف سقاتها ودنانها وأباريقها وزقاقها مثل قوله:
يمجّ سلافا من زقاق كأنها
…
شيوخ بنى حام تحنّت ظهورها
وقوله:
وإذا صبّت لشرب خلتها
…
حبشيّا قطعت منه الرّكب
ونراه يصف القيان اللائى يسمعهن فى أثناء شربها، كما يصف من تصرعهم وصفا فيه براعة، فقد أخلص لها نفسه، ووجد فيها طمأنيته، بل فرحته ومسرته حتى ليتمنى أن يضمها إلى صدره فى قبره، فلا تزايله حيّا ولا ميتا، يقول:
اجعلوا-إن متّ يوما-كفنى
…
ورق الكرم وقبرى معصره
وادفنونى وادفنوا الرّاح معى
…
واجعلوا الأقداح حول المقبره
وعلى هذا النحو مضى أبو الهندى فى سكة الخسران إلى الأنفاس الأخيرة من حياته، يصدح بخمرياته، ويتخذ الخمر وحى إلهامه.
5 - شعراء الطبيعة
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الطبيعة دائما كانت ملهما بالغ التأثير فى نفسية الشاعر العربى، وقد مضى أسلافه فى الجاهلية يصدرون عنها فى أشعارهم، فلم يتركوا كبيرة ولا صغيرة فى صمتها ولا فى حركتها دون أن يرسموها فى أشعارهم، فهم يصورون فلواتها بكثبانها ورمالها وغدرانها وغيثها وسيولها وخصبها وجد بها ونباتاتها وأشجارها وحيوانها وطيرها وزواحفها وهواجرها وما قد ينزل ببعض مرتفعاتها وأطرافها من البرد وقوارصه.
ومضى شعراء العصر الأموى-على سنّة آبائهم-يستلهمون صحراءهم، مزاوجين على شاكلتهم بين حب الطبيعة وحب المرأة، إذ يفتتح الشاعر غالبا مطولاته بوصف أطلال الديار التى قضى بها شبابه مع بعض صواحبه، ويسترسل فى الحديث عن ذكريات حبه. ولا يلبث أن يتحدث عن رحلته فى الصحراء، وما قطع فيها من مفاوز على ناقته التى يسهب فى وصفها لما لها من جمال فى نفسه، كما يسهب فى وصف فرسه إن كان فارسا، وهو فى ثنايا ذلك يحدّثنا عن كل ما تقع عليه عينه فى صحرائه ويخلّف أثرا فى ذهنه من طير وحيوان فى الأرض ونجوم وكواكب فى السماء.
وعلى الرغم من أن جمهور الشعراء لهذا العصر عاش فى بيئات متحضرة، فإن الصحراء لم تجفّ ينابيعها فى نفوسهم، بل لقد ظلت ملهمهم الأول فى أشعارهم، على نحو ما نجد عند مبرّزيهم من أمثال الفرزدق والأخطل وجرير، ومن خير ما يصور ذلك أبيات للفرزدق يوازن فيها بين طبيعة الصحراء ونهير دجيل وما يجرى فيه من سفن، موازنة يعلى فيها الطبيعة الأولى علوّا كبيرا، يقول (1):
لفلج وصحراواه لو سرت فيهما
…
أحبّ إلينا من دجيل وأفضل (2)
وراحلة قد عوّدونى ركوبها
…
وما كنت ركّابا لها حين ترحل (3)
قوائمها أيدى الرجال إذا انتحت
…
وتحمل من فيها قعودا وتحمل (4)
إذا ما تلقّتها الأواذىّ شقّها
…
لها جؤجؤ لا يستريح وكلكل (5)
إذا رفعوا فيها الشّراع كأنها
…
قلوص نعام أو ظليم شمردل (6)
وواضح أنه يؤثر الطبيعة الصحراوية البدوية على طبيعة البيئات الجديدة وما فيها من أنهار وسفن تحمل الناس فى رحلات نهرية ممتعة. وهو يعبّر بذلك
(1) ديوان الفرزدق (طبعة الصاوى) ص 626.
(2)
فلج: واد من أودية تميم بين البصرة وحمى ضرية. ودجيل: من أنهار دجلة.
(3)
ترحل: تهيأ للرحيل.
(4)
القوائم هنا: المجاذيف بأيدى الملاحين.
(5)
الأواذى: الأمواج. الجؤجؤ: بطن السفينة من أمام، الكلكل: الصدر.
(6)
قلوص النعام: طويلة القوائم، الظليم: ذكر النعام، الشمردل: الطويل تام الخلق.
عن شعوره وشعور من حوله من الشعراء الذين فتنوا مثله بالصحراء ومناظرها الطبيعية أمثال ذى الرّمّة، وسنعرض له عما قليل. وكان يعاصره العجّاج وغيره من الرجّاز. أمثال رؤبة الذى يقول (1):
إن الرّدافى والكرىّ الأرقبا
…
يكفيك درء الفيل حتى تركبا (2)
فهو يفضل ركوب الإبل على ركوب الفيل الذى يحتاج إلى الدفع قبل اعتلائه.
وليس معنى ذلك أن الشاعر الأموى لم يفسح لطبيعة البيئات الجديدة فى شعره، إنما معناه أن الطبيعة الصحراوية هى التى كانت تستولى على ملكاته، أما بعد ذلك فقد كانت تنفذ طبيعة الأقاليم الجديدة إلى حواسه، فيصور ما يراه بها من جبال وثلوج. وقد صور الفرزدق نفسه فى بعض رحلاته إلى دمشق ما كان ينزل عليه وعلى صحبه فى طريقه شتاء من نثير الثلج، يقول (3):
مستقبلين شمال الشام تضربهم
…
بحاصب كنديف القطن منثور (4)
على عمائمنا يلقى، وأرحلنا
…
على زواحف نزجيها محاسير (5)
وكان جرير على شاكلته لا يزال يبدئ ويعيد فى وصف المناظر الصحراوية ومع ذلك تلقانا فى ديوانه قطعة صوّر فيها نهيرات شقّها هشام بن عبد الملك من نهر الفرات، وخاصة نهير الهنئ، وما نبت على ضفافها من زرع وزيتون وأعناب ونخيل ومن كل الثمرات، وهى تطّرد على هذا النمط (6):
شققت من الفرات مباركات
…
جوارى قد بلغن كما تريد
وسخّرت الجبال وكنّ خرسا
…
يقطّع فى مناكبها الحديد
(1) الحيوان 7/ 90.
(2)
الردافى: الحادى. الكرى: الذى يكرى دابته ويؤجرها. والأرقب: غليظ الرقبة. دره الفيل: ذفعه وكفه.
(3)
الديوان ص 262.
(4)
شمال الشام: ريح شمالية. الحاصب: ما تحمله الريح من دقاق التراب أو الثلج. النديف: نثير الثلج والبرد.
(5)
نزجيها: نسوقها وندفعها، محاسير: كليلة.
(6)
ديوان جرير (طبعة الصاوى) ص 150.
بلغت من الهنئ فقلت شكرا
…
هناك، وسهّل الجبل الصّلود (1)
بها الزّيتون فى غلل ومالت
…
عناقيد الكروم فهنّ سود (2)
فتمّت فى الهنئ جنان دنيا
…
فقال الحاسدون هى الخلود
يعضّون الأنامل أن رأوها
…
بساتينا يؤازرها الحصيد (3)
ومن أزواج فاكهة ونخل
…
يكون لحمله طلع نضيد (4)
وجرير يحدثنا عن شق الطرق للنهيرات فى الجبال وتحطيم ما يعترض من الصخور، كما يحدثنا عن المناظر الطبيعية فى تلك البيئة وما حفّ بها من أشجار فاكهة وغير فاكهة وزروع مختلفة.
فالشاعر الأموى مع استغراق مناظر الصحراء له لم يغمض عينيه عن مناظر البيئات الجديدة، فقد كان يسجلها من حين إلى حين، وخاصة منهم من كانوا يلهجون بالصيد وكلابه وصقوره وفهوده، وسنعرض لذلك فى حديثنا عن الرّجّاز، وقد تعرضت طائفة منهم لوصف الفيل، على شاكلة قول رؤبة يصفه (5):
أجرد كالحصن طويل النّابين
…
مشرّف اللّحى صغير الفقمين (6)
عليه أذنان كفضل الثّوبين
واشتهر فى هذا المجال هرون مولى الأزد (7). فالطبيعة الجديدة المتحركة والصامتة ألهمتهم كثيرا من الشعر والرجز، ولكن من الحق أن بيئتهم الصحراوية كانت ملهمهم الأول فى هذا العصر.
(1) الصلود: اليابس.
(2)
الغلل: الماء الجارى تحت الشجر على وجه الأرض. الكروم: الأعناب.
(3)
الحصيد: الزروع التى تحصد ثمارها كالقمح.
(4)
الطلع: ثمر النخل فى إبانه. نضيد: منتظم.
(5)
الحيوان 7/ 79.
(6)
الفقمان: اللحيان.
(7)
الحيوان 7/ 114 وما بعدها.