الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى العراق وفى الحجاز، ولم تكن الخمر وحدها ضريبة هذا الترف، فقد ظهرت فى المدينة طائفة من المخنّثين، كانوا يتشبّهون بالنساء فى ثيابهن وعاداتهن من مثل تضفير الشعر وتصفيفه وصبغ الأظافر بالحنّاء، مما اضطر سليمان بن عبد الملك أن ينزل بهم عقابا صارما (1).
وطبيعى أن يمتد هذا الترف إلى النساء العربيات فقد كان الجوارى يزاحمنهنّ فى قلوب الرجال، فتفنّنّ فى زينهن تفننا واسعا، على نحو ما حكينا ذلك فيما أسلفنا عن السيدة سكينة بنت الحسين. ويروى أن مصعب بن الزبير أهدى زوجته عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ثمانى حبّات من اللؤلؤ، قيمتها عشرون ألف دينار، ولما دخل عليها بهديته وجدها نائمة فأيقظها ليقدّمها إليها، فلما رأتها قالت له غير آبهة: لقد كان النوم أحبّ إلىّ (2). ويروى الأغانى أن عاتكة بنت يزيد ابن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان استأذنته فى الحج فقال لها: ارفعى حوائجك واستظهرى فإن عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت، وجاءت بهيئة جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها وفرّق جماعتها، فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا:
هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة، عائشة، فضغطهم، فسألت عنه، فقالوا: هذه ماشطتها. ثم جاءت مواكب على هذه الهيئة إلى سننها، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة، عليها القباب والهوادج، فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى (3).
5 - الثقافة
إذا أخذنا نحلل عناصر الثقافة العربية فى هذا العصر وجدناها تعود إلى ثلاثة جداول مهمة: جدول جاهلى وجدول إسلامى وجدول أجنبى. فأما الجدول الجاهلى فيبدو فى الشعر والأيام ومعرفة أنساب القبائل وتقاليد الجاهلية، وقد
(1) أغانى (دار الكتب) 4/ 271 وما بعدها.
(2)
أغانى 11/ 182.
(3)
أغانى 11/ 188.
أقبل العرب يعبّون من هذا الجدول عبّا، وكأنما صفّوا عليه صفوفا، وسرعان ما ظهر من بينهم علماء كثيرون يتخصصون بمعرفة الشعر وروايته والأنساب وتشعباتها وأخبار الجاهلية وأيامها مثل عبيد بن شريّة راوية الأخبار اليمنية، ودغفل بن حنظلة النّسّابة والنّخّار بن أوس العذرى وزيد بن الكيّس النّمرى وشهاب بن مذعور وبنى الكّواء وغيرهم كثيرون. وفى أهل هذه الطبقة يقول مسكين الدارمى (1):
وحكّم دغفلا وارحل إليه
…
ولا ترح المطىّ من الكلال
تعال إلى بنى الكّواء يقضوا
…
بعلمهم بأنساب الرجال
هلمّ إلى ابن مذعور شهاب
…
ينبّئ بالسّوافل والعوالى
وعند الكيّس النّمرىّ علم
…
ولو أضحى بمنخرق الشّمال
وأما الجدول الإسلامى فيبدو فى القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وغزواته. ثم فى الفتوح الإسلامية وأحداثها وحروب على وخصومه.
وقد أخذ هذا الجدول يتشعب شعبتين كبيرتين: شعبة تاريخية تعنى بتاريخ الإسلام على نحو ما يصور لنا ذلك أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير فى اهتمامهما بمغازى الرسول، وكان هناك من عنوا بجمع أخبار أهل الكتب السماوية مثل وهب بن منبّه. وشعبة دينية تعنى بقراءات القرآن وبالحديث النبوى وما يتصل بهما من تشريع وفقه، وقد ألّف أصحاب هذه الشعبة فى كل بلد إسلامى مدرسة كبيرة يأخذ فيها الخلف عن السلف، واشتهر من بينهم بمكة تلاميذ ابن عباس وعلى رأسهم عطاء وعكرمة وبالمدينة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومولاه نافع وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن أذينة والزّهرى وباليمن طاووس وبالكوفة تلاميذ ابن مسعود وعلى رأسهم الشّعبى وسعيد بن جبير وشريح بن الحارث القاضى وبالبصرة ابن سيرين والحسن البصرى وقتادة وإياس بن معاوية ومالك بن دينار وبخراسان الضحاك بن مزاحم وبالشام شهر بن حوشب ومكحول والأوزاعى وبمصر الصابحى ويزيد بن عبد الله البربى.
(1) البيان والتبيين 1/ 351.
وهذان الجدولان الإسلامى والجاهلى أخذت تنشأ حولهما طبقة من المعلمين العامين الذين كانوا يعلمون الناشئة القرآن والشعر وما يتصل بهما. وكان منهم معلمون لأولاد الخاصة (1) من خلفاء بنى أمية وأمرائهم وولاتهم مثل عبد الصمد ابن عبد الأعلى، ومعلمون لأولاد العامة فى كتاتيب القرى، وقد اشتهر الحجاج الثقفى بأنه هو وأباه كانا معلّمين بالطائف. ومن هؤلاء المعلمين الكميت بن زيد وكان يعلم الصبية بالكوفة، وكان يقابله فى مكة عطاء بن أبى رباح وفى خراسان الضحاك بن مزاحم وفى الرّىّ الطرماح، وفيه يقول بعض من شاهدوه هناك:«لقد رأيت الصبيان يخرجون من عنده وكأنهم قد جالسوا العلماء (2)» .
وكان يلتقى بهذين الجدولين الإسلامى والجاهلى جدول ثالث أجنبى جاء العرب من ملابستهم للأمم الأجنبية فقد اندفعوا يطلبون كل ما لدى هذه الأمم من معارف تطبيقية نافعة، فتعرّفوا على تخطيط المدن وعمارة المبانى وطريقة استغلال الأرض وشق التّرع والقنوات، كما تعرفوا على طرق جباية الخراج وضبط الدواوين، ونقلوا فى ذلك عن الفرس والروم كثيرا. وكانوا فى أول الأمر يستعينون بالأولين فى دواوين العراق وفارس وخراسان وبالأخيرين فى دواوين مصر والشام، وظلوا على ذلك إلى عصر عبد الملك، إذ عرّبت تلك الدواوين.
وقد دفعتهم حروبهم مع الروم لإنشاء الأساطيل واقتباس بعض أساليبهم الحربية.
ولم يقف العرب فى تأثرهم بالأجانب عند المعارف التطبيقية النافعة، فقد تحولوا إلى المعارف النظرية البحتة يدرسونها، وكانت تنتشر فى البلاد التى فتحوها الثقافة الهيلينية، وهى مزيج من الثقافة اليونانية وثقافات شرقية مختلفة دينية وغير دينية. وكانت تعنى بهذه الثقافة مدرسة جنديسابور فى إيران ومدارس أخرى فى الرّها ونصيبين وأنطاكية وقنّسرين وحرّان والإسكندرية كما كانت تع؟ ؟ ؟ بعض الأديرة فى العراق والشام ومصر. وكان المعلمون
(1) انظر فى هؤلاء؟ ؟ ؟ للخاصة ومن يليهم من معلمى الكتاتيب: البيان والتبيين 1/ 251 والمعارف لابن قتيبة (طبعة جوتنجن) ص 271.
(2)
البيان والتبيين 2/ 323.
فى هذه الأديرة والمدارس يعتمدون غالبا على مصادر سريانية ويونانية، وممن اشتهر منهم فى هذا العصر «سويرس سيبوخت» أسقف دير قنسرين وتلميذه يعقوب الرهاوى وجورجيس أسقف حوران، وكانوا جميعا يعنون بالمنطق الأرسططاليسى والفلسفة اليونانية (1).
وطبيعى أن يتصل العرب بهذه الفلسفة وذلك المنطق، إذ كانوا ناشرين لدينهم، وكانوا يجادلون النصارى وغيرهم من أصحاب الملل، وقد اشتهر يوحنا الدمشقى الذى كان يشرف على الشئون المالية لغير خليفة أموى بأنهم كانوا يكثرون من جداله، وله مصنفات مختلفة، منها محاورة مع بعض المسلمين فى ألوهية المسيح ونظرية حرية الإرادة (2). وقد مضى العرب يطلبون الوقوف على ما عند القوم من وجوه الاستدلال المنطقى، حتى يستعينوا على دحض الشّبه، ويدعموا جدالهم بالحجج القاطعة. وينبغى أن نلاحظ أن كثيرين من حملة هذه الثقافة الهيلينة المتشعبة أسلموا، وتحولوا يدافعون عن الإسلام ويردون على خصومه.
وبذلك لم تنتظر طويلا هذه الثقافة وما يتصل بها من المنطق حتى تترجم، فقد كان أهلها يعرّبون تعريبا تامّا، ومن ثم انتقلوا بها إلى العربية. وبين أيدينا أخبار تدل على أن العرب اهتموا بالترجمة منذ هذا العصر، فمن ذلك ما يروى عن خالد بن يزيد بن معاوية من أنه استعان براهب رومى يسمى ماريانس ليعلمه الكيمياء (3)، كما استعان بأصطفن القديم، ويقول الجاحظ:«هو أول من ترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء (4)» ويذكر ابن النديم بعض كتبه فى ذلك (5).
وفى أخبار عمر بن عبد العزيز أنه أمر ماسرجويه البصرى أن يترجم من السريانية إلى العربية كتابا فى الطب للقس أهرن بن أعين (6)، وقد ذكر الحكم بن
(1) انظر مقالة مايرهوف «من الإسكندرية إلى بغداد» فى التراث اليونانى لعبد الرحمن بدوى ص 53 وما بعدها.
(2)
راجع تاريخ العرب (مطول) لفيليب حتى (الطبعة العربية) 2/ 314.
(3)
وفيات الأعيان (طبعة ديلان) 1/ 246.
(4)
البيان والتبيين 1/ 328.
(5)
الفهرست لابن النديم (طبعة القاهرة) ص 338.
(6)
ابن أبى أصيبعة 1/ 163 وتاريخ الحكماء (مختصر الزوزنى) طبع ليبزج ص 324 وانظر نقولا عن ماسرجويه فى الحيوان 3/ 275، 5/ 364.
عبدل الكوفى أهرن وطبّه فى بعض شعره (1). ويروى أن سالما مولى هشام بن عبد الملك ترجم بعض رسائل لأرسطاليس (2). كما يروى أنه نقل لهشام كتاب عن الفارسية يتحدث عن الدولة الساسانية ونظمها السياسية. (3)
وهذه الأخبار القليلة عن الترجمة فى عصر بنى أمية إنما هى رمز للحقيقة الكبيرة، حقيقة تحول الثقافة الهيلينية إلى حجور العرب بكل ما كان فيها من منطق يونانى ومعارف مختلفة، ومن المؤكد أن هذا التحول لم يتأخر إلى العصر العباسى كى يتم، أو كى تتم دورته، فقد كان كل شئ فى هذا العصر الأموى يدفع إلى تمامه، لا عن طريق الترجمة فحسب، بل أيضا كما قلنا آنفا عن طريق المشافهة وانتقال الشعوب المفتوحة إلى الإسلام والعربية بكل كنوزها الفكرية ومعارفها العقلية.
ومعنى هذا كله أن العقل العربى دعم فى هذا العصر بمواد ثقافية كثيرة، وهو دعم نجد آثاره فى ازدهار العلوم الإسلامية الخالصة: علوم الفقه والتفسير والحديث، كما نجد هذه الآثار فى كثرة المناظرات التى نشبت بين الآراء المختلفة فى السياسة والدين وغير السياسة والدين. وارجع إلى أخبار الخوارج فستجدهم يثيرون الجدال فى كل مكان، وجدالهم مع على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس مشهور، ويروى أن عبد الملك بن مروان أتى برجل منهم، فجعل يبسط له من قولهم ويزين له من مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، حتى قال عبد الملك: لقد كاد يوقع فى خاطرى أن الجنة خلقت لهم وأنى أولى بالجهاد منهم، ثم رجعت إلى ما ثبّت الله علىّ من الحجة وقرّر فى قلبى من الحق (4). وهذا رجل من عامتهم فما بالنا بزعمائهم، ويشيد المبرد فى كتابه «الكامل» بقدرتهم على الجدل واستظهار الأدلة والبراهين (5)، وقد جعلهم
(1) الحيوان 1/ 247 وعيون الأخبار 4/ 62.
(2)
الفهرست ص 171.
(3)
راجع صفحات عن إيران لصادق نشأت ومصطفى حجازى (نشر مكتبة الأنجلو المصرية) ص 81.
(4)
الكامل (طبعة رايت) ص 573.
(5)
الكامل ص 561.
ذلك يختلفون ويتوزعون فرقا من أزارقة ونجديّة وصفرية وإباضية، وشكا زيد بن جندب من هذا الاختلاف بينهم، فقال (1):
كنّا أناسا على دين ففرّقنا
…
؟ ؟ ؟ الجدال وحلط الجدّ باللّعب
ما كان أغنى رجالا ضلّ سعيهم
…
عن الجدال وأغناهم عن الخطب
وكان الشيعة على شاكلتهم ينافحون عن عقيدتهم، واختلفوا هم الآخرون وتجادلوا فيما بينهم، وجادلوا أصحاب الفرق التى عاصرتهم، وممن اشتهر بإحسانه للجدال منهم زيد بن على بن الحسين مؤسس مذهب الزيدية الشيعى، وقد تحول شاعره الكميت بأشعاره الملقّبة بالهاشميات إلى تقرير نظرية هذا المذهب وكأننا لا نقرأ عنده شعرا، وإنما نقرأ مقالة فى المذهب الزيدى تبسط أصوله وتدافع عنه بالحجج والبراهين.
وإذا انتقلنا من السياسة إلى الدين وجدنا الفقهاء يتجادلون طويلا فى مسائلهم الفقهية بين أيدى الخلفاء وفى مجالسهم العامة والخاصة، وتروى من ذلك مناظرة (2) بين قتادة والزّهرى فى مجلس سليمان بن عبد الملك وأخرى (3) بين ابن شبرمة وإياس بن معاوية، تناولا فيها نحو سبعين مسألة. ويروى أن الشّعبى الكوفى كان يجلس فى مجالسه وحوله تلاميذه يناظرونه (4). وقد كثرت هذه المناظرات حتى نشأ عنها علم الاختلاف أى اختلاف الفقهاء. وكان أيوب السّختيانى يقول:«لا يعرف الرجل خطأ معلمه حتى يسمع الاختلاف (5)» ، وأداهم ذلك إلى تحكيم العقل فى آرائهم والتدقيق فى مسالك أدلتهم حتى نشأ بينهم من سمّوا أهل الرأى لغلبة القياس على فقههم (6).
وقد تجادلوا طويلا فى مسائل العقيدة، وسرعان ما أخذ علم الكلام فى الظهور وتكونت فيه مذاهب القدرية والجبرية والمرجئة والمعتزلة، وكان من أهم المسائل التى أثيرت بينهم مسألة حرية الإرادة، وهل الإنسان حر مختار فى أفعاله أو هو
(1) البيان والتبيين 1/ 42.
(2)
البيان والتبيين 1/ 243.
(3)
ابن سعد ج 7 ق 2 ص 5.
(4)
البيان والتبيين 2/ 322.
(5)
البيان والتبيين 2/ 98.
(6)
المعارف لابن قتيبة ص 248.
مجبر مسيّر؟ ووقف القدرية وعلى رأسهم الحسن البصرى يدافعون عن الرأى الأول، إذ لو كان الإنسان مسيّرا بقضاء لازم وقدر محتوم لبطل الثواب والعقاب وسقط وعد الله ووعيده.
واصطفّ أمام القدرية أصحاب مذهب الجبر يناضلون عن مذهبهم وأن كل شئ بقضاء وقدر. وكان هذا المذهب يرضى الأمويين، لأنه يصرف الناس عن التفكير فى ولايتهم وتدبيرهم لشئونهم، مؤمنين بأن خلافتهم قدر مقدور يجب عليهم التسليم به، ومن ثم نرى شعراءهم يردّدون هذه الفكرة طويلا على شاكلة قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان (1):
الله طوّقك الخلافة والهدى
…
والله ليس لما قضى تبديل
وانبثقت من هذا المذهب ومذهب القدرية شعبة المرجئة فكان هناك جبرية مرجئة وقدرية مرجئة، وكانوا يرون الفصل بين الإيمان والعمل، فالمؤمن مسلم وإن لم يؤدّ الفروض الدينية، إذ المعوّل فى الإيمان على التصديق بالقلب. وكانوا يرون أيضا إرجاء الحكم على أعمال الناس وتركه إلى الله جل جلاله، ومن ثمّ رأوا إرجاء الحكم فى أمر على وعثمان ومعاوية حتى يحكم الله بينهم. وجعلهم ذلك يصطدمون بالدولة، لما تنتهى إليه دعوتهم من تعطيل أحكام الدين وأوامره ونواهيه، ويلقانا منهم أبو رؤبة سنة 102 فى نفر من أصحابه يحارب مع يزيد ابن المهلب فى ثورته على الأمويين (2). وفى أخبار عمر بن عبد العزيز أنه طلب أئمتهم فى الكوفة من أمثال عون بن عبد الله بن عتبة الهذلى، وناظرهم فى آرائهم (3). ونرى عونا يرجع من عنده، فيبرأ منهم، وينضم إلى الشيعة، مصورا ذلك فى أبيات تنسب إليه تجرى على هذا النمط (4):
وأول ما نفارق غير شكّ
…
نفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من أهل جور
…
وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال
…
وقد حرمت دماء المسلمينا
(1) ديوان جرير (طبعة الصاوى) ص 474.
(2)
طبرى 5/ 340.
(3)
ابن سعد 6/ 218.
(4)
البيان والتبيين 1/ 328.
وواضح أنه يصف المرجئة بأنهم يستحلّون دماء المسلمين مما كان سببا فى تعقب الأمويين لهم، وقتلهم أحيانا على نحو قتل هشام بن عبد الملك لغيلان (1) الدمشقى.
ولم يعرف هذا المذهب فى العراق والشام فحسب، فقد كان له أنصار فى خراسان، ومن قدماء أنصاره هناك ثابت قطنة وهو من مرجئة الجبرية، وله قصيدة طويلة يصور فيها عقيدته، يقول فى تضاعيفها (2):
المسلمون على الإسلام كلّهم
…
والمشركون أشتّوا دينهم قددا (3)
ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا
…
م الناس شركا إذا ما وحّدوا الصّمدا
وما قضى الله من أمر فليس له
…
ردّ وما يقض من شيء يكن رشدا
كلّ الخوارج مخط فى مقالته
…
ولو تعبّد فيما قال واجتهدا
أما علىّ وعثمان فإنهما
…
عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
ويتوفّى ثابت، ويظهر هناك جهم بن صفوان أحد رءوس الإرجاء (4) ويضع يده فى يد الحارث بن سريج ويشعلان ثورة عنيفة على الأمويين، ويقضى عليها بعد صراع مرير.
وقد انبثق من مذهب القدرية مذهب جديد هو مذهب الاعتزال، وكانت المشكلة الأولى التى انبثق عنها هذا المذهب هى مشكلة مرتكب الكبيرة، إذ كان الخوارج يرون أنه كافر، بينما كانت المرجئة ترى أنه مؤمن، وكان الحسن البصرى ومن تابعوه من القدرية يرون أنه مؤمن فاسق فأظهر واصل بن عطاء القول بأنه غير مؤمن ولا كافر، بل هو فى منزلة بين المنزلتين. وأثار ذلك جدالا عنيفا بينه وبين أصحابه من القدرية، ودفع الحسن عمرو بن عبيد ليجادله فيه، فأقنعه واصل برأيه (5)، وبذلك فارقا معا مذهب الحسن، وسميّا هما ومن
(1) انظر فى ترجمته لسان الميزان 4/ 424 والمعارف ص 244 وفى هذين الكتابين أنه كان قدريا ولكن فى الفهرست ص 171 والملل والنحل (طبعة لندن) 105 أنه كان مرجئا، ومن ثم فعداده فى مرجئه القدرية. وراجع فيه المنية والأمل لابن المرتضى والفرق بين الفرق ص 190.
(2)
أغانى 14/ 270.
(3)
أشتوا: فرقوا. قددا: طرائق وفرقا.
(4)
انظر الملل والنحل ص 60 حيث يوضح كيف أصبح رئيسا لفرقة تسمى الجهمية نبينا بعض أصول مقالتها.
(5)
انظر فى ذلك أمالى المرتضى 1/ 165