الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - شعراء الشيعة
رأينا التشيع ينمو فى الكوفة منذ اتخذها على حاضرة لخلافته. وقد مضى كثير من أهلها بعد وفاته يؤمنون بأن أبناءه وأحفاده أهل الخلافة الحقيقيون وأصحابها الشرعيون، وأن الأمويين اغتصبوها منهم، وينبغى أن تردّ عليهم.
وتكوّنت فى أثناء ذلك فرقة الكيسانية التى دعت لابن الحنفية، وقد تأثرت بغير قليل من آراء ابن سبأ، فذهبت تزعم أن ابن الحنفية هو المهدى المنتظر، وأنه ورث عن علىّ علم الباطن وأن به قبسا من روح الله، وهو قبس يتنقل فى أئمة الشيعة إماما بعد إمام، حتى إذا توفّى قالوا برجعته، وأنه سيعود فيملأ الأرض علما ونورا. ونمضى إلى أواخر العصر الأموى فتظهر فرقة الزّيدية، ولم تكن غالية غلو فرقة الكيسانية، وقد صورنا ذلك فى حديثنا عن السياسة.
وعلى نحو ما كثر شعراء الخوارج فى هذا العصر كثر شعراء الشيعة يتقدمهم كثيّر شاعر الكيسانية والكميت شاعر الزيدية، ولعل من الطريف أننا نجد عند أولهما عقيدة الكيسانية ماثلة فى أشعاره بكل ما أوغلت فيه من تطرف فى العقيدة الشيعية، كما نجد عند ثانيهما عقيدة الزيدية بكل أصولها المذهبية.
وإذا أخذنا نقرأ فى أشعارهما وأشعار غيرهما من شعراء الشيعة وجدناهم محزونين على أئمتهم الذين سفك الأمويون دماءهم، لا يرعون فيهم إلاّ ولا ذمّة، وقد تحولوا يبكونهم ويندبونهم بدموع لا ترقأ ولا تجفّ. وربما كان هذا الطابع أهمّ ما يميّز الشعر الشيعىّ فى هذا العصر، فهو دموع وبكاء وزفرات على الحسين أولا ثم على زيد بن على وابنه يحيى، زفرات ودموع سخينة من مثل قول سليمان بن قتّة يرثى الحسين (1):
(1) مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصبهانى (طبعة الحلبى) ص 121 وانظر أيضا فى مراثى الحسين الطبرى 4/ 209 وما بعدها وأغانى (ساسى) 14/ 158 وما بعدها والمبرد ص 127 والاستيعاب ص 146.
مررت على أبيات آل محمّد
…
فلم أرها كعهدها يوم حلّت
وكانوا رجاء ثم صاروا رزيّة
…
وقد عظمت تلك الرزايا وجلّت
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة
…
لفقد حسين والبلاد اقشعرّت
وقد أعولت تبكى السماء لفقده
…
وأنجمها ناحت عليه وصلّت
ولم يكونوا يرثونه ويبكونه فقط، إذ كان كثير منهم يضيف إلى رثائه وبكائه تحريضا على الأخذ بثأره وثأر من دافعوا عنه من رفاقه، وهو تحريض يتحول إلى رغبة شديدة فى سفك الدماء، حتى يغسل الشيعة عنهم عار القعود عن نصرته. ويتحول ذلك عند طائفة منهم إلى ما يمكن أن نسميه غريزة الدم المسفوح ومن خير من يصورها عوف (1) بن عبد الله بن الأحمر الأزدى، وله فى الحسين قصيدة طويلة رثاه بها وحضّ الشيعة على الطلب بدمه، وفيها يقول:
ليبك حسينا كلما ذرّ شارق
…
وعند غسوق الليل من كان باكيا
ويا ليتنى إذ كان كنت شهدته
…
فضاربت عنه الشانئين الأعاديا
ودافعت عنه ما استطعت مجاهدا
…
وأعملت سيفى فيهم وسنانيا
ومرّ بنا أن كثيرين أخذوا يتلاومون فى الكوفة على خذلانه، وهم جماعة التوابين، ومن خير من يمثلهم عبيد الله بن الحرّ، ويروى أنه خرج فى جماعة من أصحابه حتى أتى كربلاء، فنظر إلى مصرع الحسين ورفاقه فاستغفر لهم، ثم مضى وهو ينشد (2):
ويا ندمى أن لا أكون نصرته
…
ألا كلّ نفس لا تسدّد نادمه
وإنى لأنى لم أكن من حماته
…
لذو حسرة ما إن تفارق لازمه
ويقتل زيد بن على بن الحسين، فيبكيه الشيعة معولين منذرين لبنى أمية ومهددين من مثل قول المفضّل المطّلبى (3):
(1) انظر ترجمة عوف فى معجم الشعراء للمرزبانى ص 126.
(2)
طبرى 4/ 360.
(3)
مقاتل الطالبيين ص 149.
ألا يا عين لا ترقى وجودى
…
بدمعك ليس ذا حين الجمود (1)
وكيف تضنّ بالعبرات عينى
…
وتطمع بعد زيد فى الهجود (2)
وكيف لها الرّقاد ولم ترائى
…
جياد الخيل تعدو بالأسود
بأيديهم صفائح مرهفات
…
صوارم أخلصت من عهد هود
بها نسقى النفوس إذا التقينا
…
ونقتل كلّ جبار عنيد
ونحكم فى بنى الحكم العوالى
…
ونجعلهم بها مثل الحصيد (3)
وعلى هذا النحو كان كل شاعر شيعى يطوى فى نفسه حزنا عميقا على أئمته المستشهدين ورغبة عنيفة فى سفك دماء من قتلوهم، ولكن أنّى ذلك وسيوف بنى أمية بالمرصاد لكل من يخرج عليهم. وإنهم ليتعقبون هم وولاتهم أحياءهم ويعدّون أنفاسهم عدّا. ومن ثم نشأت بين الشيعة نظرية مشهورة هى نظرية التقية، فمن حق الشيعى أن يخفى عقيدته ويكتمها، حتى لا يعرّض نفسه للخطر بل لا مانع من مصانعة خصومه أحيانا على نحو ما سنرى عند كثيّر والكميت عما قليل، إذ مدحا بنى أمية، وهما يكنّان لهم العدواة والبغضاء.
وهذان المنزعان من بكاء الشهداء والتحريض على قتل من قتلوهم كان ينطوى فيهما حقد شديد على الأمويين، وهو حقد ينتهى أحيانا إلى دعوة الناس شيعيين وغير شيعيين للثورة عليهم على نحو ما نجد عند الكميت حين ولىّ خالد القسرى أخاه أسدا على خراسان سنة 117 فإنه أرسل إلى أهل مرو يستحثهم على الثورة بأبيات، يقول فيها (4):
ألا أبلغ جماعة أهل مرو
…
على ما كان من نأى وبعد
رسالة ناصح يهدى سلاما
…
ويأمر فى الذى ركبوا بجدّ
فلا تهنوا ولا ترضوا بخسف
…
ولا يغرركم أسد بعهد
وإلا فارفعوا الرايات سودا
…
على أهل الضّلالة والتعدّى
(1) ترقى: من رقأ الدمع إذا جف وسكن. جمود العين: بخلها بالدمع.
(2)
الهجود: النوم.
(3)
بنو الحكم: بنو مروان بن الحكم. العوالى: الرماح. الحصيد: الزرع المحصود
(4)
طبرى 5/ 433.
وإذا كانت قلوب الشيعة على هذا النحو تمتلئ بالحقد والغيظ على بنى أمية فقد كانت تمتلئ بالحبّ لآل البيت حبّا يملك على نفوسهم أهواءها وعواطفها وإحساساتها ومشاعرها، على شاكلة قول أبى الأسود الدّؤلى وقد عابه قوم بتشيعه:(1)
أحبّ محمدا حبّا شديدا
…
وعبّاسا وحمزة والوصيّا (2)
أحبهم لحب الله حتى
…
أجئ إذا بعثت على هويّا (3)
هوى أعطيته منذ استدارت
…
رحى الإسلام لم يعدل سويّا (4)
بنو عم النبىّ وأقربوه
…
أحبّ الناس كلّهم إليّا
فإن يك حبّهم رشدا أصبه
…
ولست بمخطئ إن كان غيّا
ويقول عبد الله بن كثيّر السّهمى فى نفس المعنى (5):
إن امرءا أمست معايبه
…
حبّ النبىّ لغير ذى ذنب
وبنى أبى حسن ووالدهم
…
من طاب فى الأرحام والصّلب
أيعدّ ذنبا أن أحبّهم
…
بل حبّهم كفّارة الذنب
فهم يحبون آل البيت لجدهم صلوات الله عليه، وهو حب دفعهم دفعا إلى استشعار التقوى وعبادة الله حق عبادته، بل لقد دفع نفرا منهم إلى الزهد فى الحياة ومتاعها الزائل، على نحو ما سنرى عند أبى الأسود الدؤلى فى حديثنا عن شعراء الزهد، ومما يصور ذلك قول حرب بن المنذر بن الجارود، وكان بتشيع، فى كلمة له (6):
فحسبى من الدنيا كفاف يقيمنى
…
وأثواب كتّان أزور بها قبرى (7)
وحبّى ذوى قربى النبىّ محمّد
…
فما سالنا إلا المودّة من أجر (8)
(1) المبرد ص 554.
(2)
يريد بالوصى على بن أبى طالب، إذ كان الشيعة كما قلنا مرارا يعتقدون أن النبى أوصى له بالخلافة.
(3)
على هويا: على هواى
(4)
لم يعدل سويا: لا مثيل له.
(5)
البيان والتبيين 3/ 360.
(6)
البيان والتبيين 3/ 365.
(7)
الكفاف: القوت القليل لا فضل فيه.
(8)
سالنا بالتخفيف: لغة فى سأل. وهو يشير إلى الآية الكريمة: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).