المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌6 - جرير - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٢

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر الإسلامى

- ‌الكتاب الأولفى عصر صدر الإسلام

- ‌الفصل الأولالإسلام

- ‌1 - قيم روحية

- ‌2 - قيم عقلية

- ‌3 - قيم اجتماعية

- ‌4 - قيم إنسانية

- ‌الفصل الثانىالقرآن والحديث

- ‌1 - نزول القرآن وحفظه وقراءاته

- ‌2 - سور القرآن وتفسيره فى العهد الأول

- ‌3 - اثر القرآن فى اللغة والأدب

- ‌4 - الحديث النبوى

- ‌الفصل الثالثالشعر

- ‌1 - كثرة الشعر والشعراء المخضرمين

- ‌2 - الشعر فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - الشعر فى عصر الخلفاء الراشدين

- ‌4 - شعر الفتوح

- ‌الفصل الرابعالشعراء المخضرمونومدى تأثرهم بالإسلام

- ‌1 - كثرة المخضرمين المتأثرين بالإسلام

- ‌4 - لبيد

- ‌5 - الحطيئة

- ‌الفصل الخامسالنثر وتطوره

- ‌1 - تطور الخطابة

- ‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - خطابة الخلفاء الراشدين

- ‌4 - الكتابة

- ‌الكتاب الثانىفى عصر بنى أمية

- ‌الفصل الأولمراكز الشعر الأموى

- ‌1 - المدينة ومكة

- ‌2 - نجد وبوادى الحجاز ونزوح قيس إلى الشمال

- ‌3 - الكوفة والبصرة

- ‌4 - خراسان

- ‌5 - الشام

- ‌6 - مصر والمراكز الأخرى

- ‌الفصل الثانىمؤثرات عامة فى الشعر والشعراء

- ‌1 - الامتزاج بالأمم الأجنبية وتعرّبها وأثر ذلك فى اللغة

- ‌2 - الإسلام وأثره فى موضوعات الشعر

- ‌3 - السياسة

- ‌4 - الحضارة

- ‌5 - الثقافة

- ‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

- ‌الفصل الثالثشعراء المديح والهجاء

- ‌1 - شعراء المديح

- ‌ نصيب

- ‌القطامى

- ‌2 - شعراء الهجاء

- ‌ ابن مفرّغ

- ‌ الحكم بن عبدل

- ‌3 - شعراء النقائض

- ‌4 - الأخطل

- ‌5 - الفرزدق

- ‌6 - جرير

- ‌الفصل الرابعشعراء السياسة

- ‌1 - شعراء الزبيريين

- ‌ ابن قيس الرقيات

- ‌2 - شعراء الخوارج

- ‌ عمران بن حطّان

- ‌الطّرمّاح

- ‌3 - شعراء الشيعة

- ‌ كثيّر

- ‌الكميت

- ‌4 - شعراء ثورة ابن الأشعث

- ‌ أعشى همدان

- ‌5 - شعراء بنى أمية

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل الصريح

- ‌ عمر بن أبى ربيعة

- ‌الأحوص

- ‌العرجى

- ‌2 - شعراء الغزل العذرى

- ‌ قيس بن ذريح

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌أبو الأسود الدّؤلى

- ‌4 - شعراء اللهو والمجون

- ‌أبو الهندى

- ‌5 - شعراء الطبيعة

- ‌ذو الرّمّة

- ‌6 - الرّجّاز

- ‌العجّاج

- ‌رؤبة

- ‌الفصل السادسالخطابة والخطباء

- ‌1 - ازدهار الخطابة

- ‌2 - خطباء السياسة

- ‌ زياد بن أبيه

- ‌3 - خطباء المحافل

- ‌ الأحنف بن قيس

- ‌4 - خطباء الوعظ والقصص

- ‌ الحسن البصرى

- ‌الفصل السابعالكتابة والكتّاب

- ‌1 - التدوين

- ‌2 - كثرة الرسائل المدوّنة

- ‌3 - كتّاب الدواوين

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌6 - جرير

حتى قالوا: «لولا شعره لذهب نصف أخبار الناس» . وواضح مما قدمنا أن شعره لا يشتبك بأحداث البصرة وحدها. بل يشتبك أيضا بأحداث الخوارج وأحداث خراسان، وله مدائح وأهاج مختلفة فى ولاتها وولاة فارس، أمثال عبيد الله بن أبى بكرة والجرّاح الحكمى وعمر بن عبيد الله بن معمر والجنيد ابن عبد الرحمن المرّىّ. وقد نوّه طويلا بأسد بن عبد الله القسرى وهلال بن أحوز المازنى. وأشعاره رغم فسقه مطبوعة بروح الإسلام، فهو يكثر فيها من ذكر الصلاة والتقوى والبعث والحساب، كما يكثر من الإشارة إلى قصص الأنبياء، وهو يضمن ذلك مدائحه وأهاجيه جميعا. وتمتاز أساليبه بجزالة اللفظ وقوة الرصف، مما جعل تراكيبه ضخمة، وهو ضخم ناشئ من طوايا نفسه الضخمة الصلبة التى قلما تعرف الرقة واللين

‌6 - جرير

(1)

شاعر تميمى من عشيرة كليب اليربوعية، ولم يكن لآبائه ولا لعشيرته ما لآباء الفرزدق وعشيرته مجاشع من المآثر والأمجاد، أما العشيرة فعرفت بأنها كانت ترعى الغنم والحمير. وقد دعا ذلك جريرا إلى أن يرتفع بفخره إلى يربوع وكان لها أيام كثيرة فى الجاهلية، فأشاد بأيامها وفرسانها طويلا.

وكان أبوه عطية متخلفا فى المال مبخّلا، أما جدّه الخطفى فكان كثير المال من الغنم والحمير، وقد أتاه من قبله الشعر، ومما يروى من شعره قوله:

عجبت لإزراء العيىّ بنفسه

وصمت الذى قد كان بالقول أعلما

وفى الصمت ستر للعيىّ وإنما

صحيفة لبّ المرء أن يتكلما

(1) انظر فى ترجمة جرير الأغانى (طبع دار الكتب) 8/ 3 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 435 وابن سلام ص 315 والموشح للمرزبانى ص 118 وخزانة الأدب 1/ 36 والعينى 1/ 91 وراجع فهارس الكامل للمبرد والبيان والتبيين- وانظر ذيل الأمالى ص 43 والطبرى 5/ 267، 273 وراجع فهرس الأغانى فى مواضع متفرقة والاشتقاق ص 231 وما بعدها. وقد نشر ديوانه فى القاهرة سنة 1313 للهجرة ونشره الصاوى بتعليقات مختصرة عن مخطوطة تتصل روايتها بابن حبيب. ونشر بيفن نقائضه مع الفرزدق بشرح أبى عبيدة، ونشر صالحانى نقائضه مع الأخطل برواية أبى تمام.

ص: 276

وكانت أمه تسمى أم قيس، وهى من نفس عشيرته، وقد ولدت جريرا فى بادية اليمامة حوالى سنة ثلاثين للهجرة، وكان له أخوان هما عمرو وأبو الورد، كانا ينظمان الشعر.

فجرير إن لم يكن نشأ فى بيت مجد فقد نشأ فى بيت شعر، وظل الشعر يتوارث فى أبنائه، وأشعرهم بلال. وحفيده عمارة من الشعراء المشهورين فى العصر العباسى، وعنه أخذ الرواة شعر جدّه وأكثر أخباره، ويقول ابن قتيبة كان لجرير عشرة من الولد فيهم ثمانية ذكور.

ويظهر أن موهبة جرير الشعرية تفتحت مبكرة، وقد وجد فى جدّه الخطفى خير من يلقّنه الشعر، ويقال إن من أوائل ما نظمه مما رواه له الرواة أبياتا عاتبه بها، وذلك أنه كان ذا مال كثير، وكان ينحل أبناءه وأحفاده من ماله، فاستنحله جرير، فأعطاه بعض ماله، ثم رجع فيه، وقيل بل أعطاه قليلا فاستزاده فلم يزده، فتسخّطه، ونظم فيه طائفة من الأبيات يعاتبه بها، وقد وصلها بعد ذلك بسنوات بأبيات نظمها فى الفرزدق وغسّان السليطى، وفيها يقول معاتبا جدّه:

وإنى لمغرور أعلّل بالمنى

ليالى أرجو أنّ مالك ماليا

وإنى لعفّ الفقر مشترك الغنى

سريع-إذا لم أرض دارى-انتقاليا

ويقال إنه وفد بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية وهو خليفة، فأنشده هذه الأبيات، فقال له: كذبت إنها لجرير، فقال له: أنا جرير. ومن قوله فيها:

وليست لسيفى فى العظام بقيّة

وللسّيف أشوى وقعة من لسانيا

وواضح أنه يجعل لسانه أقطع من السيف، فالسيف إنما يقطع الشّوى أى الأطراف، فيبقى على من طعنه، أما لسانه فلا يبقى بقية فيمن يطعنه.

وهو استهلال لحياته الشعرية، يدل على أنه مقتحم بها فن الهجاء، وقد ظل يجول ويصول فى هذا الفن منذ خلافة يزيد إلى وفاته سنة 114 إذ توفى بعد الفرزدق بنحو ستة أشهر. ونراه يهاجى غسّانا السّليطى، ويعينه البعيث، فيطعنه ويطعن نساء عشيرته مجاشع طعنات نجلاء، فيضطرّ الفرزدق أن ينازله،

ص: 277

ويحتدم بينهما الهجاء طوال حياتهما، ويقال إنه ظل يهجوه وهو مقيم بالمروّت من بادية اليمامة بضع سنوات، فأرسلت بنو يربوع إليه: إنك مقيم بالمروت، ليس عندك أحد يروى عنك، والفرزدق بالعراق قد ملأها عليك، فانحدر إلى العراق، فأقام بالبصرة، منشدا:

وإذا شهدت لثغر قومى مشهدا

آثرت ذاك على بنىّ ومالى

ويظهر أن إقامته بالبصرة بدأت مع دخول العراق فى طاعة ابن الزبير إذ نجد واليه الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة الملقب بالقباع (65 - 66 هـ) يأمر-حين رآه يتواقف مع الفرزدق بالمربد-صاحب شرطته عبّاد بن الحصين بهدم داريهما، فيهدم الدارين جميعا ويطلبهما، وفى ذلك يقول الفرزدق:

أحارث دارى مرّتين هدمتها

وكنت ابن أخت لا تخاف غوائله

ويقول جرير:

وما فى كتاب الله هدم بيوتنا

كتهديم ماخور خبيث مداخله

ولم يتهاج جرير مع الفرزدق وحده، فقد تهاجى-كما أسلفنا-مع كثير من الشعراء، ويقول صاحب الأغانى نقلا عن الأصعمى إنه كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا، فينبذهم وراء ظهره، ويرمى بهم واحدا واحدا، ويقول فى موضع آخر إنه كان يهاجيه ثمانون شاعرا غلبهم جميعا وكان يقول: إنهم يبدءوننى ثم لا أعفو، كما كان يقول: إننى لا أبتدئ ولكن أعتدى، ويروى أن الراعى سمع راكبا يتغنى:

وعاو عوى من غير شئ رميته

بقافية أنفاذها تقطر الدّما (1)

خروج بأفواه الرّواة كأنها

قرا هندوانىّ إذا هزّ صمّما (2)

(1) أنفاذ: جمع نفذ وهو الكلم الذى تحدثه الطعنة.

(2)

خروج: كثيرة الخروج؛ يريد أنها كثيرة الإنشاد. قرا: متن وظهر. الهندوانى: السيف؛ كانوا يجلبون سيوفهم الجيدة من الهند. صمم: قطع اللحم وبرى العضم.

ص: 278

فسأل عن صاحب البيتين، فقيل له جرير، فقال: والله لو اجتمع الجن والإنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا، هل ألام على أن يغلبنى مثل هذا الشاعر؟ . وكان لا يزال بخصومه يطعنهم طعنات مسمومة فى نساء عشائرهم، كقوله فى نساء عشيرة سراقة البارقى، وكان ممن رفعوا الفرزدق عليه:

يعطى النساء مهورهن كرامة

ونساء بارق مالهن مهور

ولم يثبت له-كما أسلفنا-سوى الفرزدق والأخطل، وثبت له عمر بن لجأ التّيمى إلى حين ويقال إنهما وفدا على المدينة، وعليها عمر بن عبد العزيز، وقيل ابن حزم، وتصادف أن حجّ الوليد بن عبد الملك، فسمع بأنهما يتهاجيان، فأمر بأن يضربا تأديبا، فضربا وأقيما على السلس (1) مقرونين. وعادا إلى العراق، وجرير يرميه وعشيرته بمثل قوله:

قوم إذا حضر الملوك وفودهم

نتفت شواربهم على الأبواب

واستغاثت تيم بجرير وتوسلت إليه وتضرّعت أن يكفّ عنها، فكفّ بعد أن ثلبها وشاعرها ثلبا قبيحا. وويل للعشيرة التى كانت تتعرض له، روى الرواة أن الفرزدق أتى مجلس بنى الهجيم فى مسجدهم، فأنشدهم، وبلغ ذلك جريرا، فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق، فتعرض له شيخ منهم قائلا له:

اتّق الله، فإن هذا المسجد بنى لذكر الله والصلاة، فانصرف عنهم مغضبا، وهو يقول:

إن الهجيم قبيلة ملعونة

حصّ اللّحى متشابهو الألوان (2)

لو يسمعون بأكلة أو شربة

بعمان أصبح جمعهم بعمان

متوركين بنيهم وبناتهم

صعر الأنوف لريح كلّ دخان (3)

(1) البلس: غرائر كبار تحشى تبنا، كان يرفع عليها الجناة تشهيرا لهم وتأديبا.

(2)

الأحص: قليل الشعر فى ذقنه وعارضيه.

(3)

متوركين: يريد أنهم يحملون بناتهم وبنيهم ويذهبون يسألون بهم. صعر: جمع أصعر وهو الذى ينظر بوجهه لاويا عنقه.

ص: 279

وظل جرير إلى أوائل عصر الحجاج (75 - 95 هـ) لا يعرف من الشعر سوى الفخر والهجاء وما يقدّم لهما من الغزل ووصف الصحراء، حتى إذا أظلّه هذا العصر، وصار حكم العراق لقيس وصاحبها الحجاج رأيناه يقدم على صهره وابن عمه الحكم بن أيوب الثقفى نائبه على البصرة، فيمدحه برجز، يقول فيه:

خليفة الحجّاج غير المتّهم

فى معقد العزّ وبؤبؤ الكرم (1)

واستنطقه فأعجبه ظرفه وشعره، فكتب إلى الحجاج يخبره عنه، فكتب إليه أن ابعث به إلىّ، فقدم عليه، فأكرمه. وسرعان ما عاش له جرير يمدحه مدائح رائعة من مثل قوله:

من سدّ مطّلع النفاق عليكم

أم من يصول كصولة الحجّاج (2)

أم من يغار على النّساء حفيظة

إذ لا يثقن بغيرة الأزواج (3)

إنّ ابن يوسف فاعلموا وتيقّنوا

ماضى البصيرة واضح المنهاج

ماض على الغمرات يمضى همّه

والليل مختلف الطرائق داجى (4)

منع الرّشا وأراكم سبل الهدى

والّلصّ نكّله عن الإدلاج (5)

وإذا رأيت منافقين تخيّروا

سبل الضّجاج أقمت كل ضجاج (6)

داويتهم وشفيتهم من فتنة

غبراء ذات دواخن وأجاج (7)

ولقد كسرت سنان كلّ منافق

ولقد منعت حقائب الحجّاج

وهو يمدحه بالصفات التى يجلّها العرب من قديم، وبصفات أخرى تتصل بسياسته وولايته للعراق، إذ يقول إنه سد ثغور النفاق، مع شجاعة فائفة ومحافظة على الذمام. ويقول إنه نافذ البصيرة واضح السياسة، يعرف كيف يخرج من الغمرات والشدائد، ويصوّر كيف أقام العدل فى الناس ومنع

(1) بؤبؤ: أصل.

(2)

المطلع: المنفذ من أعلى، أو المصعد.

(3)

الحفيظة: الغضب.

(4)

الغمرات: الشدائد. داجى: مظلم.

(5)

الإدلاج: السير ليلا.

(6)

الضجاج: الباطل.

(7)

الأجاج هنا: من أجة النار. والدواخن: جمع داخن وهو الدخان

ص: 280

الرشوة وقضى على اللصوص وقطّاع الطريق فى الليل المدلهم. ويقول إنه قوّم كل مائل وباطل، وإنه داوى النفوس المريضة وحطم أسنة المنحرفين عن الدولة ولم يعد هناك أحد ممن يعيثون فى الأرض فسادا. ويقضى الحجاج على ثورة ابن الأشعث سنة 82 فينوّه بانتصاره عليه قائلا:

دعا الحجّاج مثل دعاء نوح

فأسمع ذا المعارج فاستجابا (1)

صبرت النفس يابن أبى عقيل

محافظة فكيف ترى الثّوابا

ولو لم يرض ربّك لم ينزّل

مع النّصر الملائكة الغضابا

إذا سعر الخليفة نار حرب

رأى الحجّاج أثقبها شهابا

وكان عبد الملك بن مروان فى دمشق يفسح فى مجالسه للأخطل شاعر تغلب النصرانى. وينقل إليه شعر جرير فى الحجاج فيغبطه عليه لروعة شعره ومهارته فى المديح. ورأى الحجاج أن يهديه إليه، ووجد عند جرير رغبة صادقة فى أن يمثل بمديحه بين يديه، فصحبه معه فى وفادته التى وفدها على عبد الملك، ويقال: بل بعث به إليه مع ابنه محمد، فأذن له فى النشيد، فبدأ فأنشد مدائحه فى الحجاج واحدة بعد واحدة، ثم أنشده قصيدته التى يقول فى استهلالها:

تعزّت أمّ حزرة ثم قالت

رأيت الموردين ذوى لقاح (2)

تعلّل، وهى ساغبة، بنيها

بأنفاس من الشّبم القراح (3)

سأمتاح البحور فجنّبينى

أذاة اللوم وانتظرى امتياحى (4)

وخرج من ذلك إلى مديح عبد الملك، فقال

وإنى قد رأيت علىّ حقّا

زيارتى الخليفة وامتداحى

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (5)

(1) كان دعاء نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) ذو المعارج: الله جل جلاله.

(2)

الموردون: أصحاب الإبل يوردونها الماء. ولقاح: جمع لقحة وهى الناقة فى أول نتاجها. أم حزرة: إحدى زوجاته.

(3)

تعلل أبناءها: تشغلهم. ساغبة: جائعة. النفس من الماء: الجرعة. الشبم: البارد. القراح: الصافى.

(4)

أمتاح: أستقى من الميح وهو العطاء.

(5)

أندى: أجود.

ص: 281

ولم يلبث أن أخذ يهاجم من ثار على عبد الملك مثل عمرو الأشدق بن سعيد بن العاص. ووقف عند عبد الله بن الزبير يصوّر فتنته وكيف قضى عليه عبد الملك قضاء مبرما. ومضى يمدح عبد الملك وأسرته وأنهم الجديرون من بين القرشيين بالخلافة، منوها بانقياد الأمة له واجتماعها تحت لوائه، يقول:

وقوم قد سموت لهم فدانوا

بدهم فى ململمة رداح (1)

أبحت حمى تهامة بعد نجد

وما شئ حميت بمستباح (2)

دعوت الملحدين أبا خبيب

جماحا، هل شفيت من الجماح (3)

فقد وجدوا الخليفة هبرزيّا

ألفّ العيص ليس من النواحى (4)

فما شجرات عيصك فى قريش

بعشّات الفروع ولا ضواحى (5)

رأى الناس البصيرة فاستقاموا

وبيّنت المراض من الصّحاح (6)

وأعجب عبد الملك بجرير إعجابا شديدا فأعطاه مائة من الإبل وثمانية من الرعاة ومحلبا من فضة. وجرير فى هذه القصيدة ليس مادحا فحسب، بل هو محام عن عبد الملك وحكمه، يدافع عن حقه فى الخلافة، ويهاجم خصومه هجوما عنيفا، وقد مضى بقية حياته يقرر فى مدائحه لعبد الملك ومن خلفوه حقهم فى الخلافة على الناس، وهو من هذه الناحية يعدّ شاعرا سياسيا بالمعنى التام، شاعرا يحامى عن نظرية الأمويين فى الحكم ويناضل عنهم وما يزال يسدّد سهامه إلى خصومهم، وهو فى تضاعيف ذلك يحفّهم بإطار رائع من التقوى والعمل الصالح، مقررا أن شيعتهم على الحق، وأن من يخالفهم من الشّيع أهل باطل وضلال وأهواء وبدع، يقول فى عبد الملك:

لولا الخليفة والقرآن نقرؤه

ما قام للناس أحكام ولا جمع

(1) دانوا: أطاعوا. الدهم: الجيش الكثير. ململمة: مجتمعة. رداح: ضنخمة. يقصد من ثاروا عليه.

(2)

يريد عبد الله بن الزبير وغلبة عبد الملك على ما كان فى يديه من نجد والحجاز.

(3)

أبو خبيب: ابن الزبير: الجماح: العناد والخلاف.

(4)

هبرزيا: نافذا فى الأمور ماضيا. ألف: ملتف. العيص: الشجر. يريد أنه فى صميم العز وليس فى نواحيه.

(5)

الشجرة عشة الفروع: دقيقة الأغصان. والضاحية: بادية العيدان ولا ورق عليها.

(6)

بينت: تبينت.

ص: 282

أنت الأمين أمين الله لا سرف

فيما وليت ولا هيّابة ورع (1)

أنت المبارك يهدى الله شيعته

إذا تفرّقت الأهواء والشّيع

فكلّ أمر على يمن أمرت به

فينا مطاع ومهما قلت مستمع

يا آل مروان إن الله فضّلكم

فضلا عظيما على من دينه البدع

وواضح أنه يزرى على أصحاب الأهواء الذين يحادّون بنى أمية من الزبيريين والخوارج والشيعة، ويسميهم أهل بدع وضلالة. ويتوفّى عبد الملك، فيلزم ابنه الوليد، ويظهر أنه كان يجفوه فى أول الأمر، فقد مرّ بنا أنه أمر واليه على المدينة أن ينزل به وبابن لجأ عقوبة صارمة. غير أن هذا لم يصرف جريرا عنه، فقد كان يلمّ به فى دمشق، وكان يراه يقرّب عدىّ بن الرّقاع، فهجاه، وحاول أن يستثيره، ولكن عديا آثر العافية. واستطاع جرير أن ينفذ إلى الوليد وأن يقع منه بعد ذلك موقعا حسنا بما دبّجه فيه من مدائح رائعة على شاكلة قوله:

إنّ الوليد هو الإمام المصطفى

بالنّصر هزّ لواؤه والمغنم

ذو العرش قدّر أن تكون خليفة

ملّكت فاعل على المنابر واسلم

ونراه يلزم ابنه عبد العزيز، ويقدم له مدائح كثيرة، حتى إذا عزم الوليد على تنحية سليمان أخيه عن ولاية العهد وتوليتها عبد العزيز رأيناه يحطب فى حبله بمثل قوله:

إذا قيل أىّ الناس خير خليفة

أشارت إلى عبد العزيز الأصابع

وسرعان ما تتطور الظروف، ويتوفّى الوليد ويتولى سليمان، فيفد عليه مادحا، محاولا أن يستنزل عطفه عليه، بما يصوّر من تقواه ومن عدله وكيف أطلق من سجنهم الحجاج وكيف ردّ مظالمه عن أهل العراق وأحسن

(1) الهيابة: الجبان وكذلك الورع بفتح الراء.

ص: 283

إلى الناس، وهو فى تضاعيف ذلك ينوّه بأن الله اختاره للأمة ناعتا له بأنه المهدى المنتظر، يقول (1):

سليمان المبارك قد علمتم

هو المهدىّ قد وضح السبيل

أجرت من المظالم كلّ نفس

وأدّيت الذى عهد الرسول

صفت لك بيعة بثبات عهد

فوزن العدل أصبح لا يميل

وتدعوك الأرامل واليتامى

ومن أمسى وليس به حويل (2)

ويدعوك المكلّف بعد جهد

وعان قد أضرّ به الكبول (3)

ونراه يمدح ابنه أبوب، ويرشحه لولاية العهد. غير أن سليمان رأى أن يصرفها إلى عمر بن عبد العزيز، وكان يتأله فى دينه ويزهد فى الدنيا، فأوصد أبوابه من دون الشعراء سوى جرير، وكأنه قرّبه لما عرف فيه من عفته وحسن دينه، ومعرفته به ترجع إلى أيام ولايته على المدينة، وله فيه مدائح مختلفة، يصوّر فيها تقواه وأن الله اصطفاه للناس من مثل قوله:

أنت المبارك والمهدىّ سيرته

تعصى الهوى وتقوم الليل بالسّور

نال الخلافة إذ كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

ويشير إلى سياسة عمر فى طرح العشور عن الرعية وكل ما كان يجبى منها غير الخراج (4)، فيقول فى مدحة أخرى:

إن الذى بعث النبىّ محمّدا

جعل الخلافة فى الإمام العادل

ولقد نفعت بما منعت تحرّجا

مكس العشور على جسور الساحل (5)

(1) جرير هنا يرسم فعلا سياسة سليمان فإنه لما ولى الخلافة أطلق الأسارى وأهل السجون وأولى الناس بإحسانه. انظر الطبرى 5/ 304 وراجع ميمية الفرزدق التى نظمها فى قتل قتيبة بن مسلم، وقد تحدثنا عنها فى الكلام. على النقائض.

(2)

حويل: حيلة وقوة.

(3)

المكلف بعد جهد: الذى كلف فوق طاقته. والعانى هنا: السجين. والكبول: القيود. وهو يشير هنا فى وضوح إلى عسف الحجاج وظلمه؛ غير أنه لم يتناوله بالهجاء على نحو ما صنع الفرزدق فى ميميته.

(4)

انظر الطبرى 5/ 321.

(5)

موضع المكس حيث طريق المارة فى قنطرة أو جسر.

ص: 284

وسرعان ما توفّى عمر، فندبه ندبا حارّا، يصور فجيعة الأمة فيه حتى ليقول إن الشمس تبكيه مدى الدهر:

تنعى النّعاة أمير المؤمنين لنا

يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا

حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له

وقمت فيه بأمر الله يا عمرا

فالشمس كاسفة ليست بطالعة

تبكى عليك نجوم الليل والقمرا (1)

ويتولّى يزيد بن عبد الملك، ويثور عليه فى العراق يزيد بن المهلب، ويقضى على ثورته مسلمة، ويصيح به جرير مرارا فى قصائد مدح بها يزيد ابن عبد الملك، بنفس الصورة المثالية التى صور بها سابقيه من الخلفاء، من مثل قوله:

زان المنابر واختالت بمنتجب

مثبّت بكتاب الله منصور

ويصفه بالعدل وأنه ورث الملك عن آبائه بعهد منهم. ودائما ينوّه فى مديحه لهم بهذا العهد، فليست الخلافة عامة فى الأمة ولا فى قريش، بل هى وراثية فى بنى أمية تتوالى فيهم بعهود موثقة. وآخر من مدحهم منهم هشام بن عبد الملك، وفيه يقول فى آخر قصيدة مدحه بها، وقد أرسلها إليه مع ابنه عكرمة:

إلى المهدىّ نفزع إن فزعنا

ونستسقى بغرّته الغماما

وحبل الله يعصمكم قواه

فلا نخشى لعروته انفصاما (2)

ومدح جرير بجانب الخلفاء كثيرا من أبنائهم، فهو يمدح مسلمة بن عبد الملك وعبد العزيز بن الوليد وأخاه العباس وأيوب بن سليمان ومعاوية بن هشام، ودائما ينوّه بالأسرة وأن الله اختارها للأمة، فإذا قلنا بعد ذلك إنه عاش منذ عرف عبد الملك داعية للأمويين لم نكن مبالغين. وليس له فى سواهم إلا مدائح قليلة فقد مدح الحجاج وصهره الحكم بن أيوب كما قدمنا، ومدح خالدا القسرى مستشفعا للفرزدق كى يطلقه، ومدح بعض أشراف قيس وتميم مثل المهاجر بن

(1) يريد بقوله نجوم الليل والقمر أبد الآبدين.

(2)

قوى الحبل: طاقاته.

ص: 285

عبد الله الكلابى والجنيد بن عبد الرحمن المرّى وهلال بن أحوز المازنى الذى نكّل بآل المهلب فى ثورتهم. ويظل أضخم صوت فى ديوانه تغنّى به مادحا صوته فى الأمويين. ولعل فيما قدمنا ما يدل على أنه لم يكد يلم بهذا الفن من فنون الشعر حتى برّز فيه على أقرانه، وبدون شك كان يسبق فيه الفرزدق، وفى رأينا كما قدمنا أنه كان فيه مع الأخطل فرسى رهان، بل لقد كان يتقدمه فى كثير من الأحيان بعذوبة لفظه، وأيضا بما كان يضع حول ممدوحيه من إطار الإسلام ومثاليته الكريمة.

ودائما يتقدم جرير الأخطل والفرزدق جميعا فى الموضوعات التى تتطلب دقة فى الإحساس ورقة فى الشعور، إذ كان الأخطل متكلفا يصطنع الوقار، وكان الفرزدق-كما أسلفنا-صاحب نفس خشنة صلبة، ولذلك تفوق فى الفخر وساعده أن وجد مادة غزيرة من مناقب عشيرته وآبائه هيأته ليرسل كلماته كأنها العواصف القاصفة والصواعق المدمّرة. أما جرير فلم يكن لعشيرته ولا لآبائه شئ من المآثر الحميدة، فانطوت نفسه على حزن عميق صفىّ جوهرها، وزاد فى هذا الصفاء تأثره بالإسلام إذ كان ديّنا عفيفا طاهر النفس.

واقرأ رثاءه لزوجته أم حزرة، إذ يقول:

لولا الحياء لعادنى استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يزار

ولّهت قلبى إذ علتنى كبرة

وذوو التمائم من بنيك صغار

ولقد أراك كسيت أجمل منظر

ومع الجمال سكينة ووقار

صلّى الملائكة الذين تخيّروا

والصالحون عليك والأبرار

فإنك تحس تفجعه المرير، لقيام سور الموت الصفيق بينها وبينه هو وأولادها، وهو يدعو لها دعاء المسلم المؤمن قلبه، محيّيا فيها جمالها وخلقها الرفيع. وتدل دلائل كثيرة على أن علاقاته بزوجاته: أم حزرة هذه وأمامة التى أهداها إليه الحجاج وأم حكيم الديلمية أم ابنيه بلال ونوح، كانت علاقات ودّ ومحبة.

ولم تنشز عليه سوى جارية اشتراها بأخرة، وقد عابت عليه عيشه وكبرة سنه، ففارقها راضيا. أما زوجاته المذكورات فكن يبادلنه ودّا بود، وقد اتخذهن

ص: 286

موضوعا لغزله الرقيق الذى كان يقدّم به بين يدى قصائده ونقائضه. وأتاح له صفاء نفسه وانطواؤها على الحزن أن يبلغ من هذا الغزل كل ما يريد من تصوير الحب الخالص الطاهر، إذ ما يزال فيه يتلطف ويستعطف ويشكو ويتضرّع على شاكلة قوله:

بنفسى من تجنّبه عزيز

علىّ ومن زيارته لمام (1)

ومن أمسى وأصبح لا أراه

ويطرقنى إذا هجع النّيام

وقوله:

لقد كتمت الهوى حتى تهيّمنى

لا أستطيع لهذا الحب كتمانا

إن العيون التى فى طرفها مرض

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله أركانا

أتبعتهم مقلة إنسانها غرق

هل ما ترى تارك للعين إنسانا (2)

وكان إذا هجا نساء من يهجونه أصبح سما ذعافا لا يطاق، فإذا أشاد بنساء عشيرته أو بنساء عشيرة النّوار زوجة الفرزدق إغاظة له وكيدا نثر فوقهن زهور شعره، واصفا خلقهن الكريم وجمالهن الباهر الذى يشغف القلوب، ومن بارع قوله فى نساء عشيرة النّوار:

وهنّ كماء المزن يشفى به الصّدى

وكانت ملاحا غيرهن المشارب (3)

ولعل شاعرا قديما لم يستطع أن يصف عواطف الأبوة وحنانها تلقاء الولد على نحو ما صوّر ذلك فى هذه المقطوعة التى يصوّر فيها حبه لابنه بلال:

إن بلالا لم تشنه أمّه

يشفى الصّداع ريحه وشمّه (4)

ويذهب الهموم عنى ضمّه

ينفح ريح المسك مستحمّه

يمضى الأمور وهو سام همّه

بحر البحور واسع مجمّه (5)

يفرّج الأمر ولا يغمّه

فنفسه نفسى وسمّى سمّه (6)

(1) يريد أن طيفها يزوره وهو نائم فى الحين بعد الحين.

(2)

إنسان العين. سواد حدقتها.

(3)

المزن: السحاب. الصدى: العطش.

(4)

يشير إلى أن أمه أعجمية، ولم تشنه عجمتها.

(5)

المجم: الصدر.

(6)

يغمه: يبهمه ويستره.

ص: 287

وواضح أن جريرا كان لا يبارى فى جميع الموضوعات التى تتصل بدقة الأحاسيس ورقة المشاعر، وهو لذلك يسبق الأخطل والفرزدق فى الرثاء والغزل وعواطف الزوجية والأبوة، وهو كذلك يسبقهما فى الهجاء الخالص إذ كان يعرف كيف يريش سهامه ويسدّدها إلى نحور خصومه، محمّلا لها كل ما يمكن من سموم. وليس لأحدهما موضوع يتقدم به عليه سوى ما كان من فخر الفرزدق إذ لم يكن لجرير مادة يبنى منها فخره، إلا أن يرتفع عن عشيرته إلى يربوع أو إلى تميم عامة، حينئذ تندّ عنه أبيات رائعة كقوله:

إذا غضبت عليك بنو تميم

حسبت الناس كلّهم غضابا

ولكنه على كل حال يقصر عن الفرزدق فى هذا المجال. ومن الحق أن الفرزدق كان نبعا ثرّا من ينابيع الشعر، ولذلك استطاع الصمود لجرير، والأخطل-مع أنه استطاع أن يثبت له-يأتى دون الشاعرين جميعا، إلا ما يسوقه فى النّدرة من قطع مديح متوهجة. وساق نفس هذا الحكم عليهم قديما بشار، فقال حين سأله سائل عنهم:«لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصّبت له وأفرطت فيه» ومضى بفضل جريرا على الفرزدق فقال: «كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النّوار (زوجه) فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير؛ إذ لم يجدوا للفرزدق شعرا يصلح. فقال له السائل: وأى شئ لجرير من المراثى إلا التى رثى بها امرأته: أم حزرة، فأورد عليه بشار مرثيته فى ابنه سوادة التى يقول فيها:

فارقتنى حين كفّ الدّهر من بصرى

وحين صرت كعظم الرّمّة البالى

فاقتنع سائله (1).

وإذا رجعنا إلى أساليب الثلاثة وجدنا الأخطل يعنى أشد العناية بصقل ألفاظه وتنقيحها، وكأنه من ذوق مدرسة زهير الجاهلية، ولم يكن الفرزدق يعنى بصقل ألفاظه كل هذه العناية، ومن ثم ظهر فيها كثير من صور الانحراف والشذوذ على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وقد أتاه ذلك-كما أسلفنا-من

(1) ابن سلام ص 391.

ص: 288

خشونة نفسه وصلابتها ومن تمرده الطاغى. ومما لا شك فيه أنه كان قوى البصيرة فى نقد الشعر وتمييز جيده من رديئه، حتى قالوا إنه كان يسطو على بعض أبيات معاصريه، حين يبهره حسنها ويفرط بها إعجابه. وهو بعامة يمتاز فى شعره بجزالة لفظه وشدة أسره. أما جرير فإنه لا يبارى فى عذوبة كلمه وحلاوة نغمه، فإذا قرأته أحسست الذوق المهذب الصافى، وقد جاءه ذلك من تأثره بالقرآن الكريم وأساليبه، وكانت نفسه لينة رقيقة لا تشوبها شوائب من تمرد، فجرت أشعاره صافية، كأنها الجدول الرقراق، أشعار تلذّ الأذن بكمال جرسها وتلذ النفوس والأفئدة.

ص: 289