الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذه الشاكلة كان الإسلام يؤثر فى نفسية الشعراء، وانعكس هذا التأثير على الموضوعات المختلفة التى نظموا فيها حتى وصف الصحراء، فإننا إذا قرأنا هذا الوصف عند ذى الرمة أحسسنا أن قلبه يمتلئ بالرحمة والشفقة والعطف البالغ على الحيوانات.
وليس هذا كله جميع ما أثّر به الإسلام فى الشعر الأموى، فإنه فجّر ينبوعا، كان قد أخذ يسيل منذ ظهور الإسلام على ألسنة بعض الشعراء، ولكن سيله لم يبلغ ما بلغه فى هذا العصر، ونقصد ينبوع الزهد وما يطوى فيه من الدعوة للعمل الصالح. وسنرى فى غير هذا الموضع كثرة الشعراء الذين تدفق على لسانهم هذا الينبوع الغزير، بحيث أصبح موضوعا قائما بنفسه، وبحيث أخذ فريق من الشعراء الذين لم يعرفوا بزهد يستظهرون صورا إسلامية كثيرة فى شعرهم، بل حتى نجد الفرزدق المستهتر ينظم قصيدة فى إبليس الرجيم (1). ولم يصطبغ الشعر وحده بالمثالية الدينية وما يرتبط بها من معان، فقد جاراه الرجز فى هذا الاصطباغ حتى لنجد رجازا كثيرين يبدءون أراجيزهم بحمد الله، وقد يمضون فيتحدثون عن خلق السموات والأرض، وكثيرا ما يضيفون أدعية وابتهالات لربهم.
والحق أن الإسلام أثّر أثرا واسعا فى نفوس الشعراء، وهو أثر ما زال يتعمق نفرا منهم حتى انقلبوا وعاظا يعظون الناس ويذكّرونهم باليوم الآخر وما ينتظرهم من الثواب والعقاب، وهم فى أثناء ذلك يتحدثون عن الموت وما تخرّم من قرون بعد قرون، كما يتحدثون عن الدنيا ومتاعها الزائل مصوّرين طريق النجاة وأنه يقوم على التقوى والعمل الصالح ومجانبة كل خلق ردئ من مثل الكبر والبخل والخيانة، والتحلى بكل خلق كريم من مثل التواضع والجود والأمانة.
3 - السياسة
قام الإسلام على تقرير السيادة الإلهية وسيطرتها على أمور المسلمين الدينية والدنيوية سيطرة تنهض على مبادئ الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهى عن
(1) الديوان 2/ 769.
المنكر. وبذلك فرض الإسلام على كل مسلم أن يشترك فى الحياة العامة للجماعة ونشاطها السياسى، وهو نشاط ينبغى أن يقوم على مبادئ الدين ومقاصده السامية.
وقد رأينا-فى غير هذا الموضع-كيف أن الحوادث تطورت بعد مقتل عثمان، فولى علىّ، ونشبت بينه وبين السيدة عائشة وطلحة والزبير موقعة الجمل، ثم نشبت معركة صفّين بينه وبين معاوية. وكان التحكيم، فخرج جمع كبير من جيشه ثائرين ضده، ولم يلبث أن قتل، فتحولت الخلافة إلى معاوية وبيته الأموى وأصبحت وراثية فى هذا البيت. وكان الأمويون فى نظر كثيرين لا يمثّلون الحكام الجديرين بالدولة الإسلامية، لأنهم عادوا الإسلام فى أول ظهوره، وبذلك كانوا يعدّون مغتصبين للخلافة. وزاد فى الحنق عليهم أن سيرة يزيد بن معاوية وابن أخته يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد لم تكن سيرة مرضية. وأيضا فإن عمّالهم ظلموا الناس. ومن أجل ذلك سخط عليهم جمهور من القرّاء أهل التقوى والورع، غير أن هذا الجمهور لم يكوّن حزبا لمعارضتهم معارضة إيجابية، فقد اكتفى بإشاعة السخط فى الناس، واشترك منه نفر فى بعض الثورات عليهم، لكنه على كل حال لم يقم بثورة منظمة. على أنه ينبغى أن نشير إلى ثورة المرجئة فى خراسان بقيادة الحارث بن سريج، وسنعرض لها فى حديثنا عن الثقافة وأصحاب المقالات الكلامية.
والحجاز والعراق هما أهم المراكز التى نشأت فيها المعارضة لبنى أمية، وقد بدأت معارضة الحجاز لهم منذ حاول معاوية إسناد ولاية العهد لابنه يزيد وأخذه البيعة على ذلك من أهل الأمصار، فإن فريقا من أبناء كبار الصحابة مثل الحسين بن على وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر أبوا أن يبايعوا ليزيد. فلما ولى الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة أن يشدّد على هؤلاء الثلاثة فى أخذ البيعة تشديدا ليس فيه رخصة، فبايع عبد الله بن عمر، وفرّ الحسين وعبد الله بن الزبير إلى مكة. ولم يلبث أهل الكوفة أن استدعوا الحسين لبيعته، فخرج وقتل بكربلاء على حدود العراق. أما ابن الزبير فعاذ بالبلد الحرام الذى لا يحلّ فيه القتل وسفك الدم، ولما يئس يزيد من بيعته له أرسل إلى عامل المدينة أن يأخذها منه كرها، فبعث
إليه بأخيه عمرو بن الزبير على رأس جيش، وكان بينهما مغاضبة، ولم يفلح هذا الجيش فى مهمته، وقبض عبد الله على أخيه وقتله تحت السياط.
وفى هذه الأثناء رأى عامل المدينة أن يبعث إلى يزيد بطائفة من أشرافها، ولما مثلوا بين يديه أكرمهم وأعظم جوائزهم، غير أنهم رجعوا يثيرون عليه الناس ويقولون:
«إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين ويشرب الخمر ويعزف بالطنابير وتضرب عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسامر الخرّاب والفتيان (1)» . وثار أهل المدينة وبايعوا عبد الله بن حنظلة، فأرسل إليهم يزيد جيشا بقيادة مسلم بن عقبة المرّى ونشبت بين الفريقين معركة الحرّة المشهورة التى استبيحت فيها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقد بكاها من الشعراء كثيرون (2). وولّى بعد ذلك جيش مسلم وجهه نحو مكة، وسمع بذلك بعض الخوارج فنفروا لمساعدة ابن الزبير، وحدث أن توفّى مسلم فى طريقه، فخلفه الحصين بن نمير السّكونى، ومضى حتى حاصر مكة وابن الزبير، غير أن الأنباء جاءته بوفاة يزيد سنة 64 للهجرة، ففكّ الحصار وعاد إلى الشام.
وهيّأ ذلك لأن تتسع دعوة ابن الزبير، فإن الأمصار اضطربت على ولاة بنى أمية حتى الشام، إذ بايع بعض ولاتها ابن الزبير ودعمته هناك قبائل قيس.
ولم تلبث مصر أن دخلت فى طاعته كما دخلت الكوفة والبصرة وخراسان، غير أن المختار الثقفى دعا لابن الحنفية (أحد أبناء على من سيدة من بنى حنيفة) فى الكوفة وأخرج منها عبد الله بن مطيع عامل ابن الزبير، الذى انتقم منه بحبس ابن الحنفية فى سجن عارم بمكة، وولّى على البصرة بدلا من عبد الله بن الحارث الملقب بالقباع أخاه مصعبا، فنازل المختار الثقفى وقضى عليه، وبذلك عادت الكوفة إلى الدخول فى طاعة ابن الزبير. وتلقانا فى هذه الأحداث أشعار كثيرة مبثوثة فى الطبرى.
ومنذ أول الأمر تدور الدوائر على قيس فى موقعة مرج راهط بالشام، ويخلص هذا الإقليم لمروان بن الحكم، وتتبعه مصر، وسرعان ما يخلفه ابنه
(1) طبرى 4/ 368.
(2)
طبرى 4/ 370 وراجع كلمة حرة فى معجم البلدان لياقوت.
عبد الملك. فيتريث فى القدوم على مصعب بجيوشه، حتى يرى ما يكون من أمره مع المختار الثقفى. ويشغل مصعب بعد المختار بالخوارج، ويقدم عبد الملك فيقضى عليه، ويرسل الحجاج إلى ابن الزبير بمكة، فيهزمه ويقتله فى سنة 73. وكان ابن الزبير شحيحا، ومن ثم هجاه فضالة بن شريك هجاء مرّا (1). أما مصعب فكان جوادا ممدّحا، ولذلك مدحه ورثاه غير شاعر (2):
وبمجرد القضاء على ابن الزبير فى مكة دخل الحجاز فى طاعة بنى أمية، ولم يعد للثورة عليهم طوال العصر. أما العراق فكان موطن الخصومة الحقيقية لهم، إذ كان فيه الخوارج وخاصة فى البصرة لأول هذا العصر، وكان فيه الشيعة وخاصة فى الكوفة، وكان فيه كثير من أشراف العرب الذين كانوا يعدّون بنى أمية غاصبين للخلافة. ومرّ بنا فى غير هذا الموضع انتقاض عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عليهم وكذلك انتقاض يزيد بن المهلب.
وكان هناك كثير من الرقيق الذين كانت تعاملهم الدولة فيما يظهر معاملة قاسية، مما جعلهم يثورون مرارا، مرة فى عهد المغيرة بن شعبة والى الكوفة (3)، ومرة ثانية فى عهد مصعب، ومرة ثالثة فى عهد الحجاج، وكان الزنج هم الذين أشعلوا الثورتين الأخيرتين، وسجّل ذلك بعض الشعراء فى أشعارهم (4).
على أن هذه الثورات الجانبية لا تقاس فى شئ إلى ثورات الخوارج التى امتدّ لهبها إلى أركان كثيرة فى العراق والموصل وإيران واليمامة وحضرموت وعمان. وكان أول ظهورهم عقب التحكيم بين على ومعاوية وما كان من رضا على به، فقد تنادى فريق من جيشه: لا حكم إلا لله، وبذلك شقّوا عصا الطاعة عليه، ولم يلبثوا أن عدّوه ومن معه ضالين وتجب الهجرة عنهم كما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، وفعلا هاجروا إلى حروراء بالقرب من الكوفة، ولذلك سموا الحرورية. وسمّوا أيضا الخوارج، لأنهم خرجوا على الجماعة، أو لعلهم هم الذين سمّوا أنفسهم بذلك أخذا من قوله تبارك وتعالى:
(1) أغانى 1/ 15 وانظر 12/ 71 وما بعدها.
(2)
انظر الأغانى 6/ 33 وابن سلام 530 والطبرى 4/ 592، 5/ 9 وما بعدها.
(3)
اليعقوبى 2/ 262.
(4)
طبرى 5/ 338 وما بعدها.
{(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ).} وسمّوا أنفسهم الشّراة أخذا من قوله جلّ وعز: {(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).} وكان الذى أثارهم أنهم رأوا عليّا ومعاوية يقتتلان على الخلافة، كأن الأمر ليس أمر الله إنما هو أمر أشخاص، فثاروا على ذلك ثورة عنيفة اعتبروها جهادا فى سبيل الله وسبيل دينه الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وجاهدوا عليّا، ولكنه نكّل بهم فى موقعة النهروان. ولم يلبث ابن ملجم المرادى أن قتله لينال رضا امرأة منهم (1). وتحولت مقاليد الخلافة إلى معاوية فرأوا فيه إماما زائفا، وأخذت تتكوّن عقيدتهم بسرعة حول محور ثابت هو أن الخلافة ينبغى أن لا تحتجزها قريش لنفسها من دون المسلمين، فهى ليست حقّا لقريش، إنما هى حق لله وينبغى أن يتولاها أكفأ المسلمين لها وخيرهم تقوى وورعا ولو كان عبدا حبشيّا. ومضوا يعتقدون أنهم وحدهم الجديرون بوصف الإسلام، مؤمنين بأنه لا يتجاوز حدود معسكراتهم، ومؤمنين أيضا بأن من واجبهم أن يجاهدوا الجماعة التى ارتضت الأمويين وما ثبّتوه من نظام الوراثة للخلافة فى بيتهم. وكانت آراؤهم تعمل عمل السّحر فى كثير من النفوس، فانضم إليهم كثير من العرب والموالى والأتقياء. ونراهم يغمدون سيوفهم لأول عهد معاوية، ولكن لا تلبث طائفة منهم أن تخرج فى الكوفة بقيادة المستورد بن علّفة سنة 43 وسرعان ما يقضى عليهم. وتهدأ الكوفة حتى سنة 58 فتثور منهم جماعة بقيادة حيان بن ظبيان وينتظرهم نفس المصير، ولا يعودون بعد ذلك إلى الظهور فى الكوفة، إذ لم يكن بها جمهورهم الكبير.
بل كان فى البصرة، وهى لذلك تعدّ مهد نشاطهم الأول. وقد تولّى أمرها زياد ابن أبيه، فأخذهم أخذا عنيفا اضطرّوا معه إلى الاستتار. وخلفه ابنه عبيد الله فمضى فى سياسته، وعنف بهم، فأكثر من حبسهم وقتلهم، وكان ممن قتله من رجالهم عروة بن أديّة ومن نسائهم البلجاء، ولم يلبث أبو بلال مرداس أخو عروة أن خرج فى أربعين رجلا إلى الأهواز سنة 58 فبعث إليه ابن زياد جيشا عليه ابن حصن التميمى عداده ألفان، غير أن الجيش هزم هزيمة نكراء عند «آسك» فقال رجل من بنى تيم الله بن ثعلبة (2):
(1) الكامل للمبرد (طبعة رايت) ص 549.
(2)
طبرى 4/ 222 وانظر الكامل ص 588.
أألفا مؤمن منكم زعمتم
…
ويقتلهم بآسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
…
ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم
…
على الفئة الكثيرة ينصرونا
وأرسل إليه ابن زياد جيشا آخر بقيادة زرعة بن أسلم العامرى، فلم يكن حظه خيرا من حظ سابقه، حتى إذا كانت سنة 61 بعث إليه عباد بن علقمة فهزمه وقضى عليه. وقد تطايرت مع معاركه أشعار كثيرة.
وعاد الجيش المنتصر إلى البصرة، فتصدى عبيدة بن هلال الخارجى ونفر معه لقائده فقتلوه غيلة، وأخذ كثير من الخوارج يدعو للاقتداء بأبى بلال فى خروجه شعرا (1) وغير شعر. وسمع فريق منهم بأن جيشا سيسيّر لابن الزبير فى مكة، فخرجوا إليه ليعينوه ضدّ من سيهاجمونه هو والبلد الحرام.
وتوفّى يزيد فرجع أهل الشام إلى ديارهم، وانفضّ الخوارج من حول ابن الزبير، إذ رأوه لا يرى رأيهم، وفى مقدمتهم نجدة بن عامر الحنفى ونافع بن الأزرق وعبد الله بن الصفّار وعبد الله بن إباض. وذهبوا إلى البصرة، وأخذوا يدعون لمحاربة السلطان، وساعدهم فى شغبهم فرار عبيد الله بن زياد عقب وفاة يزيد إلى الشام وانتقاض تميم وحلفائها على الأزد ومن آزرها. وانتهز نافع بن الأزرق الفرصة فخرج بجمع كبير من الخوارج إلى الأهواز، وطرد منها عمّال ابن زياد، وتخلّف عنه نجدة بن عامر وابن الصفار وابن إباض، إذ رأوه يغلو فى آرائه، وذلك أنه كان يرى دار المسلمين دار كفر يجب الخروج عنها كما يجب تحريم ذبائحهم وميراثهم والتزوج منهم، وأيضا يجب قتلهم وقتل نسائهم وأطفالهم، وسلك ابن الأزرق معهم القعدة من الخوارج. وخالفه فى كل ذلك الثلاثة الذين سميناهم فقد ذهبوا إلى أن المسلمين ليسوا كفار دين لتمسكهم بالتوحيد والقرآن السنة، إنما هم كفار نعمة، ومن ثمّ بحل التزوج منهم كما يحل التوارث بينهم وبين الخوارج، وحقّا يجب جهادهم ولكن لا يصحّ قتل أطفالهم، وأجمعوا
(1) الكامل ص 590، 595.
على أن القعدة منهم ليسوا كفارا (1). ومضى نجدة بأصحابه الذين يسمون بالنّجدات نسبة إليه فنزل اليمامة، وأعلن هناك الجهاد، أما عبد الله بن الصفّار الذى تنسب إليه الصّفرية، لصفرة وجوههم من أثر العبادة (2) فإنه لم يعلن الخروج، ومن أجل ذلك شاع القعود عن الجهاد بين أنصاره (3).
وقد انضمّ إلى نافع بن الأزرق كثير من جموع الخوارج الذين دانوا برأيه، وهم يسمون الأزارقة نسبة إليه، وكان من بنى حنيفة، إلا أن أكثر أنصاره كانوا من بنى تميم، ولم يلبث أن جهّز جيشا كبيرا اتجه به إلى البصرة فخرج إليه مسلم بن عبيس فى جيش ضخم، وما زال يدافعه حتى كانت وقعة دولاب على نهر دجيل فى الأهواز وفيها قتل نافع ومسلم معا، وتوالت وقائع أخرى قتل فيها عبد الله بن الماحوز خليفة نافع. وتصدّى لهم المهلب فى سولاف ثم فى سلّى وسلّبرى، وانسحب الخوارج إلى الجبال بقيادة الزبير بن الماحوز، وهزمهم عمر بن عبيد الله بن معمر عند سابور، فانسحبوا إلى أصفهان وكرمان وتعقبهم هناك عتّاب بن ورقاء وقتل أميرهم الزّبير فولّوا عليهم قطرىّ بن الفجاءة وتقدّم بهم إلى العراق، فوجّه إليهم مصعب المهلب، فصدهم وما زال يناوشهم حتى قتل مصعب، وتحوّل الأمر إلى بنى أمية، فأرسلوا إليهم قوادا حالفتهم الهزائهم، حينئذ وجّه إليهم بشر بن مروان المهلب عدوّهم اللدود، وما زال يخضد من شوكتهم فى رامهرمز وسابور وكرمان، وتعقبهم إلى جيرفت، ولم يلبث أن دبّ الخلاف بينهم، وتحاربوا، إذ خرج على قطرىّ جماعة كبيرة من صفوفه بزعامة ابن عبد ربّ، وكان أكثرهم من الموالى. ورأى قطرى أن ينسحب بجموعه إلى طبرستان، وبذلك قضى المهلب سنة 78 على عبد رب وأصحابه قضاء مبرما، وتعقبت جيوش أخرى قطريّا وصاحبه عبيدة بن هلال، وكللت جهودها بالنجاح،
(1) الكامل ص 610 - 615 وانظر الفرق بين الفرق للبغدادى 62 وما بعدها والشهرستانى (طبعة لندن) ص 90، 93، 100 - 102 وما بعدها حيث تجد تفصيلا لآراء هذه الفرق.
(2)
الكامل ص 615.
(3)
نفس المصدر ص 615 والشهرستانى ص 102.
وبذلك انتهت حروب الأزارقة التى استمرت نحو أربعة عشر عاما، وقد تطاير فيها شعر كثير (1).
وقد قلنا إن نجدة خرج بمن معه إلى اليمامة، فأخضعها، كما أخضع البحرين وعمان، وساعده اضطراب شئون الدولة فى عهد ابن الزبير على أن يتسع نفوذه فى اليمن وجزيرة العرب. غير أن خلافا نشب بينه وبين بعض أنصاره، فولّوا عليهم أبا فديك سنة 72 وقد هاجم البصرة مرارا، غير أنه هزم فى سنة 73 هزيمة ساحقة قضت على دولة النجدات قضاء مبرما.
وشاع مذهب الصّفرية فى الموصل، وشاع معه القعود عن الخروج إلى أن ظهر فيهم صالح بن مسرّح، وكان من وعّاظهم، فما زال يدبر للأمر حتى اجتمع حوله كثيرون، فخرج بهم فى سنة 76 وأنزل بجيوش الحجاج هزائم متوالية، غير أنه لم يلبث أن قتل فى إحدى الوقائع، فنهض خليفته شبيب بن يزيد ومعه زوجته غزالة وأمه جهيزة بمقارعة الحجاج مقارعة عنيفة حتى لقد قتل خمسة قواد أرسلهم إليه واحدا بعد واحد. ودخل فى بعض غاراته مع زوجته غزالة على الحجاج فى الكوفة، فهرع إلى قصره، وتحصّن به منه، وبذلك جلّله بالعار. وفى إحدى حروبه نفر به فرسه فغرق فى نهر دجيل سنة 77 غير أن ذكراه بقيت خالدة فى ذاكرة الخوارج. وظل صفرية الموصل بعده لا يهدءون فقد تجدد خروجهم فى عهد يزيد بن عبد الملك بقيادة شوذب، وقضت عليه جيوش الشام، وخرج بعده فى عهد هشام بهلول بن بشر، وقضت عليه جيوش خالد القسرى، وكان آخر ثوّارهم الضحاك بن قيس الذى استولى على العراق فى سنة 127 وبايعه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز واليها وسليمان بن هشام وصلّيا خلفه فقال شبيل بن عزرة الضّبعى (2):
ألم تر أن الله أظهر دينه
…
وصلّت قريش خلف بكر بن وائل
وأرسل إليه مروان بن محمد ابنه عبد الله ثم نازله بنفسه فقضى على ثورته.
(1) انظر الكامل للمبرد ص 617 - 703.
(2)
البيان والتبيين 1/ 343 وانظر فى الأحداث الطبرى فى مواضع متفرقة من الجزء الخامس وكذلك الكامل للمبرد.
وظل أنصار عبد الله بن إباض المسمون بالإباضية نسبة إليه لا يتحركون، حتى ظهر من أتباعه فى سنة 129 عبيد الله بن يحيى الملقب بطالب الحق فى حضرموت فاستولى عليها وعلى اليمن، وجهّز جيشا بقيادة أبى حمزة للاستيلاء على مكة والمدينة، واستولى عليهما غير أن جيشا أمويّا لقيه فى وادى القرى وهزمه هزيمة ماحقة فرّ على إثرها إلى مكة، وهناك لحقه الجيش وقتله، وتقدم هذا الجيش فقضى على عبيد الله بن يحيى وعاد الأمر إلى نصابه.
وكان الشيعة طوال العصر يعارضون بنى أمية جهرا وسرّا، وكان مركزهم الكوفة كما قدمنا، ويضطرّ زياد بن أبيه إلى العنف بهم كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع حتى إذا وجد أهلها الفرصة بعد وفاة معاوية كاتبوا الحسين ليذهب إليهم لأخذ البيعة، ويقبل الحسين فلا يخفّوا إلى نجدته، ويقتل فى كربلاء، ويتحوّل قتله فى نفوس الشيعة نارا حامية لا تزال تسيل عويلا وحرقا لاذعة (1). ثم تكون حركة التوّابين بزعامة سليمان بن صرد، ويقضى عليها، ويبكيهم أعشى همدان فى قصيدة طويلة كانت من المكتّمات فى أيام بنى أمية (2).
ويتولى المختار بعد سليمان بن صرد قيادة الشيعة فى الكوفة، فيخرج عنها والى ابن الزبير، ويدعو دعوة صريحة لابن الحنفية، وهو-كما أسلفنا-ابن لعلى بن أبى طالب من امرأة من بنى حنيفة. وسرعان ما أخذت تتكون حول دعوته نظرية شيعية تسمى الكيسانية نسبة لمولى يسمى كيسان، وقيل بل كيسان هو المختار نفسه.
وتشترك هذه النظرية فى الأسس التى قام عليها التشيع، وهى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة من بعده لعلى، فهى ليست مفوّضة للأمة، بل هى تنتقل بالوصية فى على وأبنائه المعصومين من الأئمة انتقالا طريقه النص. وزادت الكيسانية أفكارا غالية استمدتها من السبئية المنسوبين إلى عبد الله بن سبأ، وكان
(1) انظر الطبرى فى حوادث سنة 61 ومقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصبهانى (طبع الحلبى) ص 106 وما بعدها ومعجم الشعراء للمرزبانى ص 126.
(2)
طبرى 4/ 472.
يغلو فى تصور علىّ، حتى لقد زعم أن به قبسا إلهيّا ورثه عن الرسول، وهو ينتقل من بعده فى الأئمة واحدا تلو الآخر، وبذلك أشاع فكرتى الحلول والتناسخ، وأيضا فقد زعم أن عليّا سيعود فيملأ الأرض عدلا وعلما ونورا، وبذلك وضع أسس فكرة الرّجعة. ومضى يزعم أن الإمام لا يعلم علم الظاهر فحسب، بل هو يعلم أيضا علم الباطن لاطلاعه على أسرار الكون وخفايا المغيبات.
وكل هذه الأفكار انزلقت إلى الكيسانية (1) وزاد المختار عليها شعوذات (2) كثيرة، من ذلك أنه كان يقول بالبداء على الله أى أن له أن يعدّل فى الأحكام كلما بدا له التعديل، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وإنما اعتنق هذا القول لأنه كان يدّعى علم ما يحدث من الأحوال بوحى يوحى إليه، فكان إذا وعد أصحابه بحدوث شئ، فإن حدث جعله دليلا على صدق دعواه، وإن لم يحدث يقول:
قد بدا لربكم. وكان يزعم أن محمد بن الحنفية هو المهدى المنتظر الذى يخلّص العالم من شروره، وكان يتكهن بالأسجاع، واتخذ لأشياعه كرسيّا غشّاه بالديباج وقال لهم: إنه من ذخائر أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وهو منكم بمنزلة التابوت فى بنى إسرائيل. وكان يكثر من إرسال حمامات بيضاء على جيوشه زاعما أنها ملائكة تنزل عليهم من السماء، وفى ذلك يقول سراقة (3) البارقى وقد فرّ عنه (4):
ألا أبلغ أبا إسحاق أنى
…
رأيت البلق دهما مصمتات (5)
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا
…
علىّ قتالكم حتى الممات
(1) انظر الفرق بين الفرق للبغدادى ص 34 والملل والنحل للشهرستانى ص 109.
(2)
الملل والنحل ص 109 - 111.
(3)
انظر فى ترجمة سراقة الطبرى 4/ 526 وما بعدها والأغانى (طبع دار الكتب) 8/ 13، 68، 9/ 13 وابن عساكر 6/ 69 والأخبار الطوال للدينورى ص 300 وقد نشر ديوانه فى القاهرة بتحقيق حسين نصار.
(4)
طبرى 4/ 527 وأغانى 9/ 13.
(5)
البلق: الحمامات. مصمتات: لا يخالط دهمتها لون آخر.
ويقول أعشى همدان (1).
شهدت عليكم أنكم سبئيّة
…
وأنى بكم يا شرطة الكفر عارف
وأقسم ما كرسيّكم بسكينة
…
وإن كان قد لفّت عليه اللفائف (2)
وإن لبّس التابوت فتنا وإن سمت
…
حمام حواليه وفيكم زخارف (3)
ولعل أهم فرقة شيعية بعد فرقة الكيسانية لهذا العصر هى فرقة الزيدية أتباع زيد بن على الذى ثار فى الكوفة سنة 121 لعهد هشام بن عبد الملك، وقتل كما مرّ فى غير هذا الموضع، وكان يؤمن بحقوق بيته فى الخلافة غير أنه لم يكن يؤمن بالنص فى الإمامة ولا ببقية الآراء الغالية عن الكيسانية وأشباههم، وكان يجوّز إمامة المفضول مع وجود الأفضل وبذلك جوّز إمامة أبى بكر وعمر مع وجود على، وذهب إلى أن كل فاطمى عالم زاهد سخى شجاع قادر على القتال فى سبيل الحق يخرج للمطالبة به يصح أن يكون إماما. وبكل ذلك كانت فرقة الزيدية-فى نشأتها-من أكثر فرق الشيعة اعتدالا (4)، وشاعرها الأول الذى عاش يردّد نظريتها الكميت، وهاشمياته مطبوعة ومشهوره. وخرج بعد زيد ابنه يحيى ولكنه قتل سنة 125 دون غايته. وخرج من بعده عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر سنة 127 وانضم إليه كثيرون من أهل الكوفة، وانتهى أمره بخروجه إلى بلاد الجبل ثم فراره وقتله. غير أن رايات الشيعة لا تلبث أن تقدم من خراسان، وتكون نهاية بنى أمية.
ومن المحقق أن هذه الإنقسامات العنيفة فى صفوف الأمة العربية لعصر بنى أمية وما جرّت إليه بين أبنائها من تطاحن ومعارك دامية جعلها تنتكس صورتين من الانتكاس: صورة سياسية إذ ظلت طوال هذا العصر مشغولة بفتن وحروب داخلية لو لم تشغل بها لفتحت أكثر العالم ولتغيّر وجه التاريخ.
وصورة اجتماعية إذ انقسم الشعب أحزابا وصفوفا تتحارب وتتناحر فى سبيل
(1) الحيوان 2/ 271.
(2)
يشير إلى الآية الكريمة التى كان يقصدها المختار فى اتخاذ كرسيه: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
(3)
فتن: جمع فتان وهو الغشاء.
(4)
أنظر فى الزيدية وعقيدتهم الملل والنحل ص 115.