الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
1 - خلاصة
انقسم العصر الإسلامى فى هذا الجزء إلى كتابين، اختص أولهما بعصر صدر الإسلام وثانيهما بعصر بنى أمية، وقد بدأت الكتاب الأول بالحديث عن الإسلام وقيمه الروحية والعقلية والاجتماعية والإنسانية، مبيّنا كيف أخرج العرب من الظلمات إلى النور وبعثهم بعثا جديدا استضاءوا فيه بهدى القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضى من أسلموا يجاهدون معه قريشا والعرب، حتى دخلوا فى دين الله أفواجا. وألمّت بالإسلام بعد وفاة الرسول أحداث خطيرة، فحروب الردة تتبعها الفتوح وفتنة عثمان تتبعها حروب على. وتأثّر الشعراء بذلك كله مستلهمين مثالية الإسلام الرفيعة، وهم حقا اختلفوا فى مدى تأثّرهم واستلهامهم لتلك المثالية، إذ كان منهم من مسّ الدين روحه مسّا عنيفا، ومنهم من مس روحه مسّا خفيفا. ولكن حتى هؤلاء الأخيرين وجدتهم يتأثرون بالدين الحنيف، على نحو ما يصور لنا ذلك الحطيئة، فقد قال القدماء عنه إنه كان رقيق الدين، ومع ذلك نراه يدعو إلى التقوى والعمل الصالح، معلنا أنه مسلم، وأنه من أجل ذلك لا يعمد إلى الإقذاع فى الهجاء فحسبه التهكم والسخرية. وكان بجانبه كثيرون يتعمقهم الإسلام من مثل حسان وكعب بن زهير، بل كان هناك من أثّر فى نفوسهم تأثيرا عنيفا مثل لبيد والنابغة الجعدىّ فإن بعض قصائدهما تتحول إلى مواعظ خالصة.
وكان تأثر النثر بالإسلام أقوى قوة، فقد نزل فيه الذكر الحكيم المعجز ببلاغته، وألقى به الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديثه وخطبه الرائعة. وبذلك
تحولت العربية من لغة وثنية ساذجة إلى لغة ذات دين سماوى باهر، تخوض فى معان جديدة من عبادة الله الواحد الأحد ووصف الكون فى طرفيه من النشأة والدّثور ورسم الكمالات الروحية ووضع التشريعات المحكمة التى تحقّق للناس السعادة فى الدارين. وكانت خطابة الرسول تارة وعظا وتارة تشريعا، وقد تجمع بين الطرفين. ومضى الخلفاء الراشدون على هدى الرسول يعظون الناس، وأخذت تدفع أبا بكر وعمر مواقف جديدة للكلام، إذ أخذوا يخطبون فى الجيوش الفاتحة محمّسين وموصين باتباع تعاليم الإسلام السمحة فى معاملة الأمم المغلوبة.
وسار فى نفس الدرب عثمان، ثم على بن أبى طالب، وكان خطيبا مفوّها، وقد اندلعت الحروب الداخلية طوال عهده واندلعت معها خطابة كثيرة فى صفوفه وفى الصفوف المعارضة كما اندلعت مناظرات مختلفة فى الآراء المتقابلة، وكل ذلك فسح طاقة النثر العربى فى صدر الإسلام، ومدّ أطنابها مدّا واسعا.
وجدّت بجانب ذلك حاجة شديدة إلى الكتابة، لا كتابة الذّكر الحكيم فحسب بل أيضا كتابة معاملات المسلمين وعقودهم وكتابة مواثيق الرسول صلى الله عليه وسلم وعهوده، وأخذ يفرغ لذلك كتّاب مختلفون ذكرهم الجهشيارى وغيره. وتحدث الفتوح، وتكثر الرسائل بين الخلفاء وقوّادهم وولاتهم، كما تكثر المعاهدات، وفى أثناء ذلك ينشأ النثر الكتابى عند العرب ويرقى، كما رقى النثر الخطابى، بما أخذ يحمل من تعاليم الإسلام وتشريعاته.
وانتقلت إلى الكتاب الثانى الخاص بعصر بنى أمية، فتحدثت عن مراكز الشعر فى هذا العصر، ووقفت أولا عند المدينة ومكة وما غرقتا فيه من الحضارة والترف واللهو والغناء، مما كان له أثر واسع فى نمو الغزل بهما وذيوعه على كل لسان. وكان سكان نجد وبوادى الحجاز يعيشون فى شظف من العيش هيأ بتأثير الإسلام ومثاليته الروحية لظهور ضرب من الغزل العذرى العفيف وشيوعه.
وحدث أن عشائر قيسية كثيرة رحلت مع الفتوح إلى الشام والجزيرة فاصطدمت هناك بالقبائل اليمنية وبقبيلة تغلب المضرية. ونشبت بين الطرفين سلسلة حروب دامية عادت فيها العصبية القبلية والحمية الجاهلية، فاشتعل الفحر والهجاء.
وكانت الكوفة مستقرّا للشيعة وثوراتهم ضد بنى أمية فطبع شعرها فى جمهوره
بطابع شيعى حزين. وأخذت العصبيات تحتدم فى البصرة احتداما، وحملها منها الجنود المحاربون فى خراسان، فكثر الشعر الذى ينطق عنها فى البيئتين.
وكثرت سيول المديح فيهما وفى الكوفة، ومضت أسراب تتغنّى بالزهد أو بالمجون، وأسراب أخرى تتغنى بنظرية الخوارج السياسية وخاصة فى البصرة وبين جيوش الأزارقة فى فارس. ولم ينشط الشعر فى الشام إلا قليلا، فإن أكثر ما أنشد فيها وفد عليها إما مع مدّاح الأمويين وإما مع العشائر القيسية التى هاجرت إلى الشمال وإما مع بنى أمية أنفسهم، فقد ظهر بينهم غير شاعر. وكان الشعر فى المراكز الأخرى خامدا، ومصر تتقدّمها لا بشعرائها الذين نبتوا فيها، ولكن بمن وفدوا على ولاتها مادحين.
وكانت تؤثّر فى الشعر الأموى مؤثرات عامة مختلفة، فقد امتزج العرب فى البلدان المفتوحة بالموالى، وسرعان ما هجروا لغاتهم إلى العربية وعبّروا بها عن عقولهم وقلوبهم وأعماق وجدانهم، مما أحدث فيها صورا مختلفة من التطور، إذ دخلت فيها بعض الألفاظ الأعجمية وظهرت على ألسنة الموالى لكنات مختلفة وانتشر اللحن، وأخذت سلائق بعض العرب أنفسهم فى الضعف.
وقد مضى الشعراء جميعا يستلهمون الإسلام فى أشعارهم سواء حين يتغزلون أو يمدحون أو يهجون أو يحمّسون للجهاد فى سبيل الله أو حتى حين يصفون الصحراء. وتوزعتهم الفرق السياسية من زبيرية وخوارج وشيعة وغيرهم. ونعموا بالحضارات الأجنبية، وساقهم ذلك إلى ضروب من المتاع الحسى واللهو والترف.
ودعمت عقولهم بعناصر ثقافية مختلفة: جاهلية وإسلامية وأجنبية، وانبعثت بينهم فرق الجبرية والمرجئة والقدرية والمعتزلة، وخضعوا لمؤثرات اقتصادية مختلفة. وكل ذلك نرى أصداءه فى الشعر كما نرى فيه تعاونا وثيقا بين العرب والموالى، فقد عاشوا بنعمة الإسلام إخوانا، وكأنما محيت بينهم الفوارق الجنسية، حتى ليفتخر الأعاجم بمواليهم من العرب، إذ يشعرون فى قرارة أنفسهم بأنهم من أبناء هذه القبيلة أو تلك، ويتبادل العرب معهم نفس الشعور.
وكثر شعراء المديح والهجاء كثرة مفرطة، فقد كان المدّاحون يغدون ويروحون على أبواب الولاة والقواد والأجواد ناثرين ورود الثناء محمّلين بنفائس
الأموال، وخير من يمثلهم نصيب والقطامى وكعب بن معدان الأشقرى وزياد الأعجم. وسعرت العصبيات القبلية شعراء الهجاء وخير من يمثلهم ابن مفرّغ والحكم بن عبدل وثابت قطنة. ومما لا ريب فيه أن أبرع شعراء الهجاء والمديح جميعا شعراء النقائض النابهون: الأخطل والفرزدق وجرير، فقد أتاحوا للنقيضة كل ما كان ينتظرها من رقى ونهوض، كما أتاحوا للمدحة كل ما كان ينتظرها من براعة وازدهار.
ووقف كثير من الشعراء فى صفوف الفرق السياسية يحامون عنها ويناضلون وكانت لكل فرقة نظرية فى الخلافة تدافع عنها وتذود. أما الزبيريون فكانوا يرون من الواجب أن تعود حاضرة الخلافة إلى الحجاز وأن يستند الخليفة فى حكمه إلى قريش لا إلى كلب وغيرها من القبائل اليمنية التى يستند إليها الأمويون، وابن قيس الرّقيّات أهم من صدر فى شعره عن هذه النظرية. وكان الخوارج يرون أن الخلافة حقّ للمسلمين جميعا لا لقريش وحدها، وأنه ينبغى أن يتولاّها خير المسلمين تقوى وزهدا، ولو كان عبدا حبشيّا، وقد وهبوا أنفسهم للنضال عن نظريتهم مذيعين فى أشعارهم حماسة دينية ملتهبة ورغبة عنيفة فى الاستشهاد وزهدا قويّا فى الحياة ومتاعها الزائل، ويمثّلهم عمران بن حطّان والطّرمّاح. وكان الشيعة يرون أن الخلافة حقّ شرعى لأبناء على اغتصبه منهم الأمويون وينبغى أن يردّ عليهم، وكان استشهاد أئمتهم لا يبرح ذاكرتهم، فمضوا يبكونهم بدموع غزار، محفظين الناس على أن يثأروا لهم من الأمويين ويذيقوهم حتفهم، كما مضوا يصوّرون عقيدتهم فيهم وما يكنّون لهم ولأهل البيت من عواطف حارة متبتّلين بذلك إلى الله ورسوله الكريم، ويمثّلهم كثيّر والكميت. وكان كثير من أشراف العرب وخاصة فى الكوفة مغيظين محنقين على الأمويين لجعل الخلافة وراثية فيهم من دون العرب جميعا، وعبّر عن ذلك ابن الأشعث فى ثورته وشاعره أعشى همدان فى شعره واصطفّ مع الأمويين شعراء كثيرون يدعون لهم ويناضلون ضد كل هؤلاء الخصوم، على شاكلة ما نرى عند عبد الله بن الزّبير الأسدى الكوفى وعدىّ بن الرّقاع الدمشقى.
وتلقانا طوائف من الشعراء عاشت حياتها فى اتجاه واحد أو على الأقل
فى اتجاه غلب على حياتها وساد، فمن ذلك أصحاب الغزل الصريح من أمثال ابن أبى ربيعة والأحوص والعرجى، وأصحاب الغزل العفيف من أمثال قيس ابن ذريح وجميل بثينة، وأصحاب الزهد من أمثال أبى الأسود الدّؤلى وسابق البربرى، وأصحاب اللهو والمجون من أمثال الوليد بن يزيد وأبى الهندى، وأصحاب شعر الطبيعة من أمثال ذى الرّمّة. ومن ذلك الرجّاز، وقد نهضوا بالأرجوزة من وجوه، إذ جعلوها تتسع لكل أغراض القصيدة، وأضافوا لذلك موضوعا جديدا هو الطّرديات، كما أضاف نفر منهم إلى غاياتها الوجدانية غاية تعليمية جديدة إذ تحرّوا أن يودعوا أراجيزهم كل ما استطاعوا من شواذ اللغة وشواردها الآبدة.
وازدهرت الخطابة فى العصر الأموى ازدهارا، لعل العرب لم يعرفوه فى أى عصر من عصورهم القديمة، فقد كانوا أصحاب مواهب بيانية، وعملت بواعث كثيرة على أن تتوهج هذه المواهب فى الخطابة حينئذ، بسبب ما نشأ من خصومات سياسية عنيفة، فكان هناك خطباء الخوارج وخطباء الشيعة وخطباء الزبيريين والثوار المختلفين وخطباء الأمويين، وكلّ منهم يحاول استمالة القلوب إليه بالتفنن فى بيانه، وخير من يمثلهم زياد بن أبيه. ونمت بجانب هذه الخطابة خطابة المحافل بين أيدى الخلفاء والولاة، إذ أخذ أصحابها يعنون بتحبير كلامهم، وخير من يمثّلهم الأحنف بن قيس. واحتدمت خطابة الوعظ والقصص الدينى احتداما، وما فتئ أصحابها يطلبون كل وسيلة بيانية كى يؤثروا فى الناس حتى انتظم لهم أسلوب بديع ثبّتوه تثبيتا قويّا، وهو أسلوب نهض على حلى من الازدواج والخيالات والمقابلات ودقائق المعانى. وقد مضوا يعلّمون الشباب فى البصرة والكوفة كيف يبرعون فى الخطابة والمناظرة، وبذلك أعدّوا لنشأة علم البلاغة العربية، وخير من يمثّلهم الحسن البصرى.
ونمى التدوين فى هذا العصر نموّا واسعا، إذ دوّنوا معارفهم التى تتصل بالجاهلية وأخبارها وأنسابها وأشعارها كما دونوا معارفهم التى تتصل بالإسلام وما يرتبط به من تفسير الذكر الحكيم والحديث النبوى والفقه والمغازى وقصص الأنبياء، ومضوا يدونون أخبار الأمم الماضية وأخبار الدولة الإسلامية وما صادفها