الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
الشعراء المخضرمون
ومدى تأثرهم بالإسلام
1 - كثرة المخضرمين المتأثرين بالإسلام
من يقرأ فى شعر المخضرمين متصفّحا ما نثر فى كتب التاريخ والأدب يجد جمهور الشعراء يصدرون فى جوانب من أشعارهم عن قيم الإسلام الروحية التى آمنوا بها وخالطت شغاف قلوبهم. ولشعراء المدينة القدح المعلّى فى هذا الميدان، فهم الذين وقفوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم منذ نزوله بين ظهرانيهم ينافحون عنه ويدافعون عن دعوته مصوّرين لهديه الكريم، يتقدمهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وكان عبد الله خاصة دائم الاستمداد من القرآن يستلهمه فى هجائه للمشركين وفى كل ما ينظم من أشعار، على شاكلة قوله (1):
شهدت بأن وعد الله حقّ
…
وأن النار مثوى الكافرينا
وكان بجانب هؤلاء الثلاثة شعراء آخرون لم يبلغوا مبلغهم فى الشهرة الشعرية، وقد رويت لهم أشعار تنمّ عن مدى إيمانهم العميق كقول أبى قيس صرمة بن أبى أنس الأنصارى فى قصيدة بديعة (2):
ونعلم أن الله لا شئ غيره
…
وأن كتاب الله أصبح هاديا
وقول أبى الدّرداء (3):
يريد المرء أن يؤتى مناه
…
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتى ومالى
…
وتقوى الله أفضل ما استفادا
(1) الاستيعاب ص 362.
(2)
الاستيعاب ص 14، 334.
(3)
الاستيعاب ص 663.
وتحوّل شعراء قريش منذ فتحت مكة ودخلوا فى دين الله يكفّرون عما قدّمت ألسنتهم بأشعار، يعتذرون فيها للرسول صلى الله عليه وسلم كقول ابن الزّبعرى (1):
يا رسول المليك إنّ لسانى
…
راتق ما فتقت إذ أنابور (2)
إذ أجارى الشيطان فى سنن الغ
…
ىّ ومن مال ميله مثبور (3)
آمن اللحم والعظام بما قل
…
ت فنفسى الفدا وأنت النّذير
وقد حسن إسلامهم، ومضوا يصدرون عنه فى أشعارهم، حتى إذا انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى أخذوا يرثونه ويتفجّعون عليه، على شاكلة قول أبى سفيان بن الحارث (4):
لقد عظمت مصيبتنا وجلّت
…
عشيّة قيل: قد قبض الرسول
نبىّ كان يجلو الشكّ عنا
…
بما يوحى إليه وما يقول
وإذا تركنا شعراء المدينتين الكبيرتين إلى شعراء نجد والبوادى وجدنا بينهم كثيرين يقبسون من أضواء الإسلام، ولا نقصد من خرجوا إلى الجهاد فى سبيل الله فحسب، فقد عمّ ذلك من ظلوا فى الجزيرة ولم يتح لهم تقدم سنهم شرف الاشتراك فى هذا الجهاد.
ونحن نقف عند مشهوريهم، ثم نعطف على من لم يبلغوا مبلغهم من الشهرة، ولعل أول من ينبغى الوقوف عنده عبدة بن الطبيب الذى تحدثنا عنه فى شعر الفتوح، فقد روى له صاحب المفضليات عينية بديعة، ونراه فى شطر كبير منها يوصى أبناءه بتقوى الله وبرّ الوالد والحذر من النمّام الذى يزرع الضغائن بين الناس، مستلهما فى ذلك كله آى الذكر الحكيم، يقول (5):
أوصيكم بتقى الإله فإنه
…
يعطى الرغائب من يشاء ويمنع
وببرّ والدكم وطاعة أمره
…
إن الأبرّ من البنين الأطوع
(1) ابن سلام ص 202.
(2)
رتق الفتق: خاطه. بور: ضال هالك.
(3)
سنن: طريق. مثبور: هالك ضائع.
(4)
الاستيعاب ص 708.
(5)
المفضليات ص 146.
واعصوا الذى يزجى النّمائم بينكم
…
متنصّحا ذاك السّمام المنقع (1)
يزجى عقاربه ليبعث بينكم
…
حربا كما بعث العروق الأخدع (2)
وهو القائل فى رثاء قيس بن عاصم (3):
عليك سلام الله قيس بن عاصم
…
ورحمته ما شاء أن يترحّما
فلم يك قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنه بنيان قوم تهدّما
وواضح ما فى البيت الأول من روح إسلامية. وارجع إلى سويد (4) بن أبى كاهل اليشكرى فسترى المفضل الضبى يروى له قصيدة (5) يفخر فيها فخرا جديدا، لا عهد لنا به من قبل، فخرا إسلاميّا يذكر فيه ربّه وما أنعم به عليهم من نعم، يقول:
كتب الرحمن والحمد له
…
سعة الأخلاق فينا والضّلع (6)
وإباء للدنيّات إذا
…
أعطى المكثور ضيما فكنع (7)
وبناء للمعالى إنما
…
يرفع الله ومن شاء وضع
نعم لله فينا ربّها
…
وصنيع الله، والله صنع (8)
ويمضى فيعرض لخصم دنئ النفس كان يغتابه، ونراه يصفه وصفا يستلهم فيه الآية الكريمة {(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)} يقول:
(1) يزجى: يدفع ويسوق. السمام: السم. المنقع: القاتل.
(2)
الأخدع: عرق فى العنق إذا ضرب أجابته العروق.
(3)
الشعر والشعراء 2/ 705.
(4)
انظر ترجمته فى الشعر والشعراء 1/ 384 والأغانى (طبعة دار الكتب) 13/ 102 وابن سلام ص 28 والإصابة 3/ 172 والخزانة 2/ 546 وحديث الأربعاء لطه حسين (طبعة الحلبى) 1/ 190.
(5)
المفضليات ص 190.
(6)
الضلع: الاضطلاع بالأمر.
(7)
المكثور: المغلوب. كنع: خضع.
(8)
ربها: أتمها. صنع: صفة، لا فعل، أى قادر على أن يصنع.
بئس ما يجمع أن يغتابنى
…
مطعم وخم وداء يدّرع (1)
ويحيّينى إذا لاقيته
…
وإذا يخلو له لحمى رتع (2)
وممن أسلم وهو فى سنّ كبيرة الحصين (3) بن الحمام سيد بنى مرّة الذبيانيين، وله أبيات تطرد على هذا النحو (4):
ويوم تسعّر فيه الحروب
…
لبست إلى الرّوع سربالها (5)
فلم يبق من ذاك إلا التّقى
…
ونفس تعالج آجالها
أمور من الله فوق السماء
…
مقادير تنزل أنزالها (6)
أعوذ بربى من المخزيا
…
ت يوم ترى النفس أعمالها
وخفّ الموازين بالكافرين
…
وزلزلت الأرض زلزالها
والصلة واضحة بين هذه الأبيات وآى الذكر الحكيم من مثل قوله تعالى:
{(وَاِتَّقُوا اللهَ)} {(فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)} {(فَمَنِ اِتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)} {(إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)} {(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)} {(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)} وقوله عزّ شأنه: {(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)} {(فَأَمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ)} {(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).}
واقرأ فى النّمر (7) بن تولب، وهو ممن أدركوا الإسلام وقد علت سنّهم،
(1) وخم: غير مرئ. يدرع: يلبس.
(2)
رتع: أكل بنهم.
(3)
انظر ترجمته فى الشعر والشعراء 2/ 630 وابن سلام ص 131 والأغانى (طبعة دار الكتب) 14/ 1 وما بعدها والاستيعاب ص 127 وأسد الغابة 2/ 24 والإصابة 2/ 18 والخزانة 2/ 7
(4)
أغانى 14/ 14.
(5)
تسعر: تتقد. السربال: الدرع.
(6)
أنزالها: منازلها. تنزل أنزالها: تقع مواقعها.
(7)
انظر ترجمته فى طبقات ابن سعد ج 7 ق 1 ص 26 والشعر والشعراء 1/ 268 وابن سلام ص 133 والأغانى 19/ 157 والموشح 78 والخزانة 1/ 152 والاستيعاب ص 320 والإصابة 6/ 253.
فسترى فى شعره آثارا من تلاوته للقرآن الكريم، على شاكلة قوله (1):
ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى
…
وإلى الذى يعطى الرّغائب فارغب
وهو القائل (2):
أعذنى ربّ من حصر وعىّ
…
ومن نفس أعالجها علاجا
ومن حاجات نفسى فاعصمنّى
…
فإنّ لمضمرات النفس حاجا (3)
وأنت وليّها فبرئت منها
…
إليك وما قضيت فلا خلاجا (4)
ويروى أنه أنشد الرسول صلى الله عليه وسلم قصيدة قال فيها (5):
لله من آياته هذا القمر
…
الشمس والشّعرى وآيات أخر
ومرت بنا استجارة المخبّل (6) السّعدى بعمر بن الخطاب حين هاجر ابنه للغزو وكيف ردّه عليه، ومن قوله فى تهاية قصيدة له رواها المفضل الضبى (7):
إنى وجدت الأمر أرشده
…
تقوى الإله وشره الإثم
وكان فى الشّماخ (8) شر كثير، وهو ممن شاركوا فى معركة القادسية ومعارك أذربيجان، ومع ذلك لا نجد فى ديوانه شيئا واضحا عن جهاده فى سبيل الله، وكأنما عنى الرواة بشعره البدوى وإحسانه فيه لوصف القوس وحمار الوحش (9)، ومما يتمثّل به من شعره (10):
ليس بما ليس به بأس باس
…
ولا يضرّ البرّ ما قال الناس
(1) الشعر والشعراء 1/ 269 والأغانى 19/ 161.
(2)
الأغانى 19/ 162 والحيوان 2/ 305.
(3)
حاج: جمع حاجة.
(4)
خلاج: اعتراض.
(5)
أغانى 19/ 159.
(6)
انظر فى ترجمته الشعر والشعراء 1/ 383 والأغانى (طبعة دار الكتب) 13/ 189 والإصابة 2/ 218 والخزانة 2/ 536 والموشح ص 75.
(7)
المفضليات ص 118.
(8)
راجع فى ترجمته ابن سلام ص 110 والشعر والشعراء 1/ 274 والأغانى (طبع دار الكتب) 9/ 158 والخزانة 1/ 526 والإصابة 3/ 210 والموشح ص 67.
(9)
انظر ترجمته فى المراجع السابقة وراجع الحيوان 5/ 79.
(10)
الشعر والشعراء 1/ 277 وبأس الأولى: شجاعة.
وقد أنشدنا فى الفصل السابق أبياتا من مرثية أخيه جزء لعمر بن الخطاب، واشتهر أخوهما مزرّد (1) بهجائه وخاصة للأضياف، ويظهر أنه ارعوى وتاب عن الهجاء. كما يدل على ذلك قوله (2):
تنزّلت من شتم الرجال بتوبة
…
إلى الله منى لا ينادى وليدها
ومن شعراء هذيل البارعين فى هذا العصر أبو ذؤيب (3) الهذلى، وقد قدم المدينة عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف يبكيه مع الباكين قائلا من أبيات (4):
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها
…
وتزعزعت آطام بطن الأبطح
وتزعزعت أجبال يثرب كلّها
…
ونخيلها لحلول خطب مفدح
وهو فى ديوانه يعنى بوصف النّحل، مثله فى ذلك مثل شعراء هذيل، وقد خرج يغزو فى سبيل الله، ونراه فى جنود عبد الله بن سعد بن أبى سرح الذين فتحوا قرطاجنة، وقد أرسل به مع عبد الله بن الزبير إلى عثمان مبشرين له بفتحها. وعاد إلى مصر، ولكن حدث أن توفّى له-قبل وفاته بعام- خمس بنين فى وباء، فرثاهم بعينيته المشهورة وفيها نحسّ رضاه بقضاء الله مع التحسر اللاذع على نحو ما نجد فى قوله (5):
أودى بنىّ وأعقبونى غصّة
…
بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
…
وإخال أنى لاحق مستتبع (6)
(1) راجع فى ترجمة مزرد الشعر والشعراء 1/ 274 والخزانة 2/ 117 والإصابة 6/ 85 ومعجم الشعراء ص 483 ومعاهد التنصيص 1/ 202.
(2)
الإصابة 6/ 85.
(3)
انظر فى ترجمته ابن سلام ص 110 والشعر والشعراء 2/ 635 والأغانى 6/ 264 والاستيعاب ص 665 والإصابة 7/ 63 والخزانة 1/ 203 وأسد الغابة 5/ 188 ومعاهد التنصيص 1/ 195 ومعجم الأدباء لياقوت (طبع مصر) 11/ 83 وشرح شواهد المغنى 10 والاشتقاق (نشرة الخانجى) ص 178
(4)
الاستيعاب ص 666.
(5)
انظر ديوان الهذليين (طبعة دار الكتب المصرية) 1/ 1 وما بعدها.
(6)
غبرت: بقيت. ناصب: متعب. مستتبع: تابع.
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغّبتها
…
وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وروى الرواة أنه قال حين حضره الموت يخاطب ابن أخ له يسمى أبا عبيد (1):
أبا عبيد وقع الكتاب
…
واقترب الوعيد والحساب
وأشاع الإسلام فى نفوس كثير من الشعراء برّا ورحمة بأهليهم وأقربائهم، ويشتهر فى هذا الصدد عمرو بن شأس الذى سبق أن عرضنا له فى شعر الفتوح، فقد كان له ابن من أمة سوداء، وكانت امرأته تؤذيه وتستخف به فعاتبها بقطعته المعروفة (2):
أردت عرارا بالهوان ومن يرد
…
عرارا لعمرى بالهوان فقد ظلم
وكان ينحو هذا المنحى معن (3) بن أوس المزنى فى عتابه لابن عمه الذى أساء إليه إساءة كبيرة. وظل يسئ إليه وهو يوالى أشعاره فى صفحه عن زلاته برّا به وبقرابته مع تجنّيه عليه وتجرّمه، يقول (4):
وذى رحم قلّمت أظفار ضغنه
…
بحلمى عنه وهو ليس له حلم
فما زلت فى لين له وتعطّف
…
عليه كما تحنو على الولد الأمّ
ومن غير شك كان يستهدى فى ذلك آى الذكر الحكيم التى تدعو إلى البر بالأقرباء والصفح الجميل. ويمرض عمرو (5) بن أحمر الباهلى فيتوجه إلى ربه داعيا (6):
(1) أغانى 6/ 279 ومعجم الأدباء 11/ 89.
(2)
ابن سلام ص 166. والشعر والشعراء 1/ 389.
(3)
انظر ترجمته فى الأغانى (طبعة دار الكتب) 12/ 54 والإصابة 6/ 179 والخزانة 3/ 258 وانظر فهرس البيان والتبيين والحماسة للمرزوقى ومعجم الشعراء ص 322 ومعاهد التنصيص. وقد نشرت أشعاره فى ليبزج.
(4)
أغانى 12/ 60 وديوانه (طبعة ليبزج) ص 5، 36.
(5)
راجع ترجمته فى ابن سلام ص 492 والشعر والشعراء 1/ 315 والإصابة 5/ 114 والخزانة 3/ 38 ومعجم الشعراء ص 24 والموشح ص 80.
(6)
الشعر والشعراء 1/ 316 وقد روى له ابن سلام قطعة حكمية يقول فيها: والحى كالميت ويبقى التقى والعيش فنان فحلو وبر
إليك إله الحق أرفع رغبى
…
عياذا وخوفا أن تطيل ضمانيا (1)
فإن كان برءا فاجعل البرء نعمة
…
وإن كان فيضا فاقض ما أنت قاضيا (2)
وممن نحس عندهم أثر الإسلام واضحا نهشل (3) بن حرّى فى مراثيه لأخيه مالك، وكان قد قتل بصفّين، ومن قوله فى إحداها (4):
أناس صالحون نشأت فيهم
…
فأودوا بعد إلف واتساق
أرى الدنيا ونحن نعيث فيها
…
مولّية تهيّا لانطلاق
أعاذل قد بقيت بقاء قيس
…
وما حىّ على الدنيا بباق
وكان بجانب من قدّمنا شعراء عرفوا برقة دينهم، ومع ذلك فحين نتعقب شعرهم نجد فيه خيوطا إسلامية تظهر فى نسجه من حين إلى حين، منهم عبد (5) بنى الحسحاس، وكان يتغزل غزلا مفحشا جعل قومه يقتلونه لعهد عثمان ونراه يقول:
عميرة ودّع إن تجهّزت غازيا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ويروى أنه أنشد هذا البيت عمر بن الخطاب فقال له: لو قلت شعرك مثل هذا لأعطيتك عليه. ومثله النجاشى (6) قيس بن عمرو، الذى حدّه على بن أبى طالب فى شرب الخمر برمضان، وقد تهاجى مع كثير من الشعراء وعلى رأسهم تميم بن أبىّ بن مقبل العجلانى، وفيه وفى قبيلته يقول:
إذا الله عادى أهل لؤم ودقّة
…
فعادى بنى العجلان رهط ابن مقبل (7)
قبيّلة لا يغدرون بذمّة
…
ولا يظلمون الناس حبّة خردل
(1) الضمان: ما يصيب الإنسان فى جسده من مرض أو زمانة.
(2)
فيضا: موتا.
(3)
انظر فى ترجمته ابن سلام ص 495 والشعر والشعراء 2/ 619 والأغانى 9/ 270 والإصابة 6/ 268 والخزانة 1/ 147.
(4)
أمالى المرتضى 2/ 226.
(5)
انظر ترجمة عبد بنى الحسحاس فى أغانى (ساسى) 20/ 2 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 369 وابن سلام ص 156 والإصابة 3/ 163 والخزانة 1/ 271 وشرح شواهد المغنى 112. وقد نشرت دار الكتب المصرية ديوانه.
(6)
راجع فى ترجمة النجاشى الاشتقاق لابن دريد (نشرة الخانجى) ص 400 والشعر والشعراء 1/ 288 والإصابة 6/ 263 والخزانة 4/ 368.
(7)
البيت دعاء على بنى العجلان، وواضح أن النجاشى يرميهم بأن أحسابهم لئيمة خسيسة.
ولو أنه كان صحيح الإسلام ما هجاهم بالبيت الثانى، فإن الإسلام يجلّ الوفاء بالذمم والعهود وينهى عن الظلم وكل ما يتصل به ولكن روحه كانت جاهلية. وكان ابن (1) مقبل على شاكلته، يقول ابن سلام:«إنه كان جافيا فى الدين وكان فى الإسلام يبكى؟ ؟ ؟ الجاهلية» (2) ومع ذلك ندّت على لسانه أبيات فيها ما يدل فى وضوح على تأثره بالدين الحنيف من مثل قوله (3):
هل الدّهر إلا تارتان فمنهما
…
أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
وكلتاهما قد خطّ لى فى صحيفة
…
فلا الموت أهوى لى ولا العيش أروح
وهو يصدر فى البيتين عن الآية الكريمة: {(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)} ومما يروى له قوله (4):
الناس همّهم الحياة ولا أرى
…
طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
…
ذخرا يكون كصالح الأعمال
وممن يسلك فى هؤلاء الشعراء الذى عرفوا برقة دينهم الحطيئة، وسنرى عما قليل أثر الإسلام فى شعره.
ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل على فساد الفكرة التى شاعت بين الباحثين عربا ومستشرقين من أن الإسلام لم يترك آثارا عميقة فى نفوس المخضرمين، وخاصة أهل البادية (5)، فقد نفذت أشعته النيرة إلى قلوبهم جميعا. ونحن نقف عند خمسة منهم يعدّون فى طليعتهم هم حسان بن ثابت وكعب بن زهير ولبيد والحطيئة والنابغة الجعدى، لنرى فيهم مدى تأثر المخضرمين بالإسلام، ولندل فى وضوح على أن هذا التأثر لم يقف عند شعراء المدينة من مثل حسان، فقد نفذ إلى شعراء البادية وتعّمقهم على نحو ما سنرى عند لبيد والنابغة الجعدى.
(1) راجع فى ترجمة ابن مقبل الشعر والشعراء 1/ 424 وابن سلام ص 125 والإصابة 1/ 195 والخزانة 1/ 113 وزهر الآداب 2/ 19.
(2)
ابن سلام ص 125.
(3)
الحيوان للجاحظ 3/ 48.
(4)
طبرى 5/ 29.
(5)
راجع مثلا تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بنى أمية لنالينو (طبع دار المعارف) ص 95.
2 -
حسان (1) بن ثابت
كان أبوه ثابت بن المنذر بن حرام الخزرجى «من سادة قومه وأشرافهم» ، وكانت أمه «الفريعة» خزرجية مثل أبيه، وقد أدركت الإسلام ودخلت فى دين الله (2) وهو يسلك فى المعمرّين إذ يقال إنه عاش فى الجاهلية ستين سنة وفى الإسلام ستين أخرى، وهى سنّ تقريبية، فقد قيل إنه توفّى قبل الأربعين، وقيل بل سنة خمسين وقيل بل سنة أربع وخمسين. وهو ليس خزرجيّا فحسب، بل هو أيضا من بنى النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فله به صلة قرابة ورحم.
ونراه قبيل الإسلام يتردد على بلاط الغساسنة، ويقال إنه مدّ رحلاته إلى بلاط النعمان بن المنذر؛ وكان لسان قومه فى الحروب التى نشبت بينهم وبين الأوس فى الجاهلية، ومن ثمّ اصطدم بالشاعرين الأوسيين: قيس بن الخطيم وأبى قيس بن الأسلت (3). ويقال إنه عرض شعره على النابغة بسوق عكاظ، وقدّم عليه الأعشى، فأثار موجدته (4).
ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيدخل حسان فى الإسلام، حتى إذا أخذ شعراء قريش فى هجاء الرسول وصحبه من المسلمين انبرى لهم بلاذع هجائه، وكان رسول الله يحثّه على ذلك ويدعو له بمثل:«اللهم أيّده بروح القدس» واستمع إلى بعض هجائه لهم فقال: «لهذا أشدّ عليهم من
(1) انظر فى ترجمة حسان ابن سلام ص 179 وفى مواضع متفرقة وأغانى (دار الكتب) 4/ 134 وما بعدها و 11/ 27 و 14/ 157 و (طبعة الساسى) 16/ 12 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 264 والموشح ص 60 وتاريخ دمشق لابن عساكر 4/ 125 والاستيعاب ص 128 والإصابة 2/ 8 وسير أعلام النبلاء الذهبى (طبع دار المعارف) 2/ 115 وص 366 وما بعدها وشرح شواهد المغنى ص 114 والخزانة 1/ 108. وقد طبع ديوانه طبعات مختلفة فى ليدن بتحقيق هرشفيلد وفى مصر بتحقيق البرقوقى وفى تونس والهند وبيروت، وسنعتمد فى المراجعة على طبعة ليدن.
(2)
انظرها فى ابن سعد 8/ 271.
(3)
انظر أغانى (دار الكتب) 3/ 12 والديوان ص 52 وفى مواضع متفرقة.
(4)
أغانى (دار الكتب) 9/ 340.
وقع النّبل»، وفى حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أمرت عبد الله ابن رواحة (بهجاء قريش)، فقال وأحسن، وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى» . ومرّ بنا فى الفصل السابق أنه لم يكن يهجو قريشا بالكفر وعبادة الأوثان، إنما كان يهجوهم بالأيام التى هزموا فيها ويعيّرهم بالمثالب والأنساب. وهذا طبيعى لأنهم كانوا مشركين فعلا، فلو هجاهم بالكفر والشرك ما بلغ منهم مبلغا، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:«اذهب إلى أبى بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم، ثم اهجهم وجبريل معك» (1).
ويذهب بعض الرواة إلى أنه كان ممن خاض فى حديث الإفك الكاذب على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، ونراه يعلن براءته من هذا القول الآثم بأشعار يمدحها بها مدحا رائعا، من مثل قوله:
حصان رزان ما تزنّ بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (2)
فإن كان ما قد قيل عنّى قلته
…
فلا رفعت سوطى إلىّ أناملى
ويظهر أن بعض المهاجرين وعلى رأسهم صفوان بن المعطّل أثاروه فى هذا الحادث، حتى وجد وجدا شديدا، فقال:
أمسى الجلابيب قد عزّوا وقد كثروا
…
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد (3)
على أنه مضى فى نفس القصيدة يعلن إخلاصه للإسلام وأنه سيستمر فى ذبّه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقال إنه كان ينشد الرسول شعره فى المسجد، والذى لا شك فيه أنه كان يحظى منه بمنزلة رفيعة، حتى ليروى أنه كان يرفع أزواجه إلى أطمه حين يخرج لحرب أعدائه، وكان حين يعود يقسم له فى الغنائم، وقد أهداه بستانا، كما أهداه سيرين أخت زوجه مارية القبطية، وهى أم ابنه عبد الرحمن. وكان
(1) انظر فى هذا الحديث وما قبله ترجمته فى كتب الصحابة والأغانى 4/ 137 وما بعدها.
(2)
حصان: عفيفة. رزان: ذات وقار. تزن: تتهم. غرثى: جائعة. يريد أنها لا تغتاب النساء.
(3)
سمى بعض المهاجرين الجلابيب استصغارا لشأنهم. البلد هنا: النعام. وفى المثل هو أذل من بيضة البلد لأن النعام يترك بيضه فيحضنه غيره.
الخلفاء الراشدون يجلّونه ويفرضون له فى العطاء. ويقال إنه وفد على معاوية وأنه عمى بأخرة.
وبحقّ سمّى حسان شاعر الإسلام ورسوله الكريم، فقد عاش يناضل عنه أعداءه من قريش واليهود ومشركى العرب راميا لهم جميعا بسهام مصمية. وقصته مع الحارث بن عوف المرّى حين قتل فى جواره داع من دعاة الرسول مشهورة، فقد قال فيه وفى عشيرته:
إن تغدروا فالغدر منكم شيمة
…
والغدر ينبت فى أصول السّخبر (1)
وبكى الحارث من هجائه له بدموع غزار، واستجار بالرسول متوسلا إليه أن يكفّه عنه. وقد مضى حين قدم على الرسول وفد بنى تميم يردّ على شاعر هذا الوفد الزّبرقان بن بدر مادحا للمهاجرين مدحا رائعا. يقول فى تضاعيفه:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
…
قد بيّنوا سنّة للناس تتّبع (2)
يرضى بها كل من كانت سريرته
…
تقوى الإله وبالأمر الذى شرعوا
إن كان فى الناس سبّاقون بعدهم
…
فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع
أهدى لهم مدحى قلب يؤازره
…
فيما أراد لسان حائك صنع
ومن المحقق أنه كان شاعرا بارعا، وقد اتفق الرواة والنقاد على أنه أشعر أهل المدر فى عصره وأنه أشعر اليمن قاطبة. وقد خلّف ديوانا ضخما رواه ابن حبيب، غير أن كثيرا من الشعر المصنوع دخله، يقول الأصمعى:«تنسب إليه أشياء لا تصحّ عنه» (3) ويقول ابن سلام: «قد حمل عليه ما لم يحمل على أحد، ولما تعاضهت (تشاتمت) قريش واستبّت وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تنقىّ» (4). وكان ممن حمل عليه غثاء كثيرا ابن إسحق فى المغازى، ولاحظ ذلك ابن هشام وهو يروى عنه السيرة النبوية، فكان يرجع إلى العلماء بالشعر وعلى رأسهم أبو زيد الأنصارى راوية البصرة المشهور يسألهم عن صحة أشعار حسان
(1) السخبر: شجر، ومن أمثالهم: ركب فلان السخبر إذا غدر.
(2)
الذوائب: الأعالى فى الشرف. فهو: قريش، يريد المهاجرين.
(3)
الاستيعاب ص 130.
(4)
ابن سلام ص 179.
المروية عند ابن إسحق فكانوا يثبتون بعضها وينكرون بعضا آخر وقد يردّونها إلى غيره من معاصريه ومن جاءوا بعدهم. ومع ذلك نرى كثيرا مما أنكروه مثبتا فى رواية ابن حبيب. ونحن نعرض صنيع ابن هشام ليعلم مدى ما وضع على حسان، فمن ذلك أن نراه كثيرا يقول بعد إنشاده لبعض القصائد:«وأهل العلم ينكرون هذه القصيدة لحسان» (1) ومن ذلك أنه نسب قصيدتين أضيفتا إليه إلى كعب بن مالك (2) ونسب ثالثة إلى عبد الله (3) بن الحارث السّهمى ورابعة إلى معقل (4) بن خويلد الهذلى وخامسة إلى ربيعة بن أمية الدّيلى وقيل بل هى لأبى أسامة الجشمى (5). ونسب سادسة إلى ابنه عبد الرحمن (6). وإذا مضينا نبحث فى مراجع أخرى وجدنا قطعة لعبد الله بن رواحة تضاف إليه، وهى فى رثاء نافع بن بديل (7)، وكذلك أضيفت إليه قطعة ثانية لعبد الله بن رواحة وهى فى رثاء عثمان (8)، وأيضا أضيفت إليه مقطوعة يائية فى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرة الأوس والخزرج له، ونصّ الرواة على أنها لصرمة (9) بن أبى أنس الأنصارى، ونسب له بيتان فى الفخر بالأزد وهما لسعد (10) بن الحصين الأنصارى، ونسبت له مقطوعة رائية، وهى لبشير (11) بن سعد بن الحصين.
ونظن ظنّا أن شعره اختلط بأشعار الأنصار، وخاصة كعب بن مالك وعبد الله ابن رواحة وابنه عبد الرحمن، أما الأولان فقد اشتركا معه فى هجاء قريش،
(1) انظر ابن هشام فى مقطوعة عينية 3/ 56 وفى قصيدة عينية 3/ 149 وما بعدها وقابل بالديوان ص 76 وهى فى رثاء حمزة، وانظر حائية فى رثاء حمزة 3/ 159 ومقطوعتين فى رثاء خبيب 3/ 186 وقابل بالديوان ص 46، 84 وكذلك مقطوعة بائية فى 3/ 192 وقابل بالديوان ص 39 ومقطوعتين: لامية ورائية فى عمرو بن ود فى 3/ 281 وقابل بالديوان ص 46.
(2)
انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/ 137 وقابل بالديوان ص 36 وانظر السيرة 3/ 362 وقابل بالديوان ص 63.
(3)
السيرة النبوية 3/ 20 والديوان ص 29.
(4)
السيرة النبوية 3/ 81 والديوان ص 84.
(5)
السيرة النبوية 3/ 282 والديوان 51.
(6)
السيرة النبوية 4/ 199 والديوان 51 وراجع الحيوان 3/ 108 حيث تشكك الجاحظ فى مقطوعة تنسب إليه وقال إنها تنسب أيضا إلى ابنه عبد الرحمن.
(7)
انظر الديوان ص 31 وقابل بالاستيعاب ص 305 وابن هشام 3/ 198.
(8)
انظر الديوان ص 71 وقارن بالاستيعاب ص 492.
(9)
راجع الديوان ص 21 - 22 والاستيعاب ص 14، 334.
(10)
انظر الديوان ص 40 وقارن بالأغانى (طبع الساسى) 14/ 120.
(11)
راجع الديوان ص 42 - 43 وقارن بالأغانى 14/ 120.
وأما عبد الرحمن فمعروف أنه كان يهاجى النجاشى الحارثى ويذم قومه بنى الحارث بن كعب وعشيرته بنى الحماس ذمّا قبيحا (1)، ومن هنا كنا نشك فيما يضاف إلى حسان من هجائهم ونظن أنه من أشعار ابنه، حمل عليه (2).
ومن هذا الباب أشعاره المملوءة غيظا على قتلة عثمان، فإن كثيرا منها وضعه الأمويون (3) ليظهروا للناس أن شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم كان فى صفّهم وليغسلوا عنهم عار الأشعار التى نظمها حسان فى هجاء أسرتهم حين كان أبو سفيان وغيره من رءوسها يقودون الجيوش ضد الرسول ويحادّونه. ومثلها ما يضاف إليه من أشعار فى مديح الزبير (4) بن العوام وعبد الله (5) بن العباس، وكأن الأحزاب السياسية لعبت دورا فى وضع الشعر على لسانه.
والحق أن شعر حسان الإسلامى كثر الوضع فيه، وهذا هو السبب فيما يشيع فى بعض الأشعار المنسوبة إليه من ركاكة وهلهلة، لا لأن شعره لان وضعف فى الإسلام كما زعم الأصمعى، ولكن لأنه دخله كثير من الوضع والانتحال. ونحن نوثّق شعره فى الجاهلية إلا ما اتهمه الرواة (6)، ومن رائع هذا الشعر ميميته التى يملؤها ضجيجا وعجيجا بمفاخر قومه والتى يقول فيها:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولاميته التى يمدح بها الغساسنة بمثل قوله:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
…
شمّ الأنوف من الطراز الأوّل
أما هجاؤه لقريش فينبغى أن نبعد منه ما اتهمه الرواة وأن لا نقبل منه إلا ما يغلب عليه الإقذاع بالأيام والأنساب، ومن ثمّ كنا نرتضى ميميته (تبلت فؤادك فى المنام خريدة) التى يعيّر فيها الحارث بن هشام المخزومى بفراره فى يوم
(1) ابن سلام ص 125.
(2)
انظر الديوان فى هجاء بنى الحماس الحارثيين قوم النجاشى ص 47، 81 وكذلك انظر مقطوعة رائية ص 48 ونونية ص 82.
(3)
راجع ابن عبد البر فى الاستيعاب ص 492 حيث يذكر أن أهل الشام زادوا عليه فى رثاء عثمان أبياتا، وقد رد بيتا له فيه إلى عمران بن حطان.
(4)
الاستيعاب ص 208 وقد نسبت إليه أشعار فى هجاء آل العوام والوضع فيها ظاهر. انظر الديوان ص 85.
(5)
الديوان ص 74 والبيان والتبيين 1/ 30.
(6)
انظر الأغانى (ساسى) 14/ 125 - 127.
بدر، ومثلها قصيدته الميمية (منع النوم بالعشاء الهموم) التى يهجو فيها ابن الزّبعرى ويفتخر بقومه فخرا عنيفا، ومن نمطهما لاميته (أهاجك بالبيداء رسم المنازل). وبهذا القياس نضيف إليه مقطوعته الكافية التى وجهها إلى أبى سفيان ابن الحارث، وقد رواها ابن سلام (1)، ومثلها مقطوعته الدالية التى يستهلها بقوله:
وإن سنام المجد من آل هاشم
…
بنو بنت مخزوم ووالدك العبد (2)
ومقطوعته الميمية التى يقول فيها:
لعمرك إن إلّك من قريش
…
كإل السّقب من رأل النّعام (3)
وأيضا نحن نثبت له قصيدته الهمزية التى يقول فيها لأبى سفيان بن الحارث:
هجوت محمدا فأجبت عنه
…
وعند الله فى ذاك الجزاء
وهو يستهلها بذكر منازل صاحبته مشبّبا بها ومستطردا إلى ذكر الخمر على طريقة الجاهليين، مما جعل القدماء يقولون إن القصيدة تتكون من جزءين:
جزء نظم فى الجاهلية، وجزء نظم فى الإسلام (4)، وهو يمضى فى الجزء الثانى متحدثا عن فروسية قومه ومتوعدا قريشا بحروب مبيرة، وتختلط فى هذا الجزء المعانى الجاهلية بالمعانى الإسلامية إذ يعرض لرسالة النبى صلى الله عليه وسلم ومتابعة قومه له ونصرتهم لدينه، من مثل قوله:
وجبريل أمين الله فينا
…
وروح القدس ليس له كفاء (5)
وقد تبرز المعانى الإسلامية فى بعض أهاجيه لقريش كقوله من مقطوعة يعيّرها فيها بهزيمتها يوم بدر:
فينا الرسول وفينا الحقّ نتبعه
…
حتى الممات ونصر غير محدود
مستعصمين بحبل غير منجذم
…
مستحكم من حبال الله ممدود (6)
(1) ابن سلام ص 208 والديوان ص 19.
(2)
بنت مخزوم: فاطمة بنت عمرو المخزومى وهى أم عبد الله وأبى طالب والزبير بنى عبد المطلب.
(3)
السقب: ولد الناقة. الرأل: ذكر النعام. الإل: القرابة.
(4)
انظر الاستيعاب ص 129
(5)
كفاء: كفء ونظير.
(6)
منجذم: منقطع.
وهو يشير فى البيت الثانى إلى قوله تعالى: {(وَاِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً).}
وله مراث فى الرسول الكريم تتضح فيها المعانى الإسلامية اتضاحا على نحو ما يلقانا فى مرثيته التى رواها أبو زيد الأنصارى والتى يقول فيها:
وما فقد الماضون مثل محمّد
…
ولا مثله حتى القيامة يفقد
وقد مرّت بنا فى الفصل السابق مرثيته البديعة لأبى بكر الصديق، ومن قوله فى عمر حين توفّى على إثر طعنة فيروز المجوسى:
وفجّعنا فيروز لا درّ درّه
…
بأبيض يتلو المحكمات منيب (1)
وعلى هذا النحو اتشحت بعض أشعار حسان الإسلامية بأضواء الدين الحنيف وهديه الكريم.
3 -
كعب (2) بن زهير
أبوه زهير بن أبى سلمى من فحول الشعر فى الجاهلية، وهما من قبيلة مزينة، ولكنهما يوضعان فى عداد غطفان حيث عاش زهير مع بنيه بين أخواله بنى مرّة الذّبيانيين. وقد تلقن كعب الشعر عن أبيه، مثله فى ذلك مثل أخيه بجير ومثل الحطيئة، ويذكر لنا الرواة الطريقة التى كان يخرّج بها زهير تلاميذه من أهل بيته وغيرهم إذ يقولون إنه كان يحفّظهم شعره وشعر غيره من الجاهليين حتى تتضح موهبة الشعر فيهم. ويقولون عن كعب إنه كان يخرج به إلى الصحراء، فيلقى عليه بيتا أو شطرا ويطلب إليه أن يجيزه (3) تمرينا له وتدريبا. على صوغ
(1) لا در دره: الدر: اللبن وكثرته، يدعو عليه بأن لا يزكو عمله. المحكمات: آيات الذكر الحكيم. وكنى ببياض عمر عن نقاء صحيفته.
(2)
راجع فى ترجمة كعب طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص 83 وما بعدها والشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 86 وأغانى (طبعة الساسى) 15/ 140 وابن هشام 4/ 144 وما بعدها والاستيعاب ص 226 وأسد الغابة 4/ 240 والإصابة 5/ 302 ومعجم الشعراء للمرزبانى ص 230 والخزانة 1/ 375، 4/ 11. وقد طبعت دار الكتب المصرية ديوانه برواية ثعلب.
(3)
أغانى (طبع الساسى) 15/ 141 وأمالى المرتضى (طبع الحلبى) 1/ 97.
الشعر ونظمه. ويبدو أن كعبا اشتهر فى الجاهلية بأكثر مما اشتهر الحطيئة.
يدلّ على ذلك ما يرويه ابن سلام من أن الحطيئة قال له: «قد علمت روايتى لكم أهل البيت وانقطاعى إليكم، وقد ذهبت الفحول غيرى وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعنى موضعا بعدك فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع» (1)، فقال كعب قطعته التى يقول فيها:
فمن للقوافى شانها من يحوكها
…
إذا ما ثوى كعب وفوّز جرول (2)
ومعروف أن كعبا وبجيرا أخاه والحطيئة أدركوا الإسلام، وكان أسبقهم إلى الدخول فيه بجير، وقد هجاه كعب حينئذ هجاء آذى رسول الله بمثل قوله (3):
ألا أبلغا عنى بجيرا رسالة
…
فهل لك فيما قلت-ويحك-هل لكا
شربت مع المأمون كأسا رويّة
…
فأنهلك المأمون منها وعلّكا (4)
وخالفت أسباب الهدى وتبعته
…
على أى شئ-ويب غيرك-دلّكا (5)
على خلق لم تلف أمّا ولا أبا
…
عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
ويقال إن الرسول سمع بهذا الشعر فتوعده، وأجابه بجير فيما أجابه به بقوله (6):
من مبلغ كعبا فهل لك فى التى
…
تلوم عليها باطلا وهى أحزم
إلى الله لا العزّى ولا اللات وحده
…
فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت
…
من النار إلا طاهر القلب مسلم
وما زال كعب على وثنيته حتى فتحت مكة وانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف، فكتب إليه بجير أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل كل من
(1) ابن سلام ص 87 وانظر الأغانى (طبع دار الكتب) 2/ 165.
(2)
ثوى وفوز: مات وهلك. جرول: الحطيئة.
(3)
مقدمة الديوان ص 3 وأغانى (ساسى) 15/ 142 والسيرة 4/ 144 والاستيعاب ص 226.
(4)
المأمون: الرسول وقيل بل أراد به أبا بكر. النهل: الشرب الأول. العلل: الشرب الثانى.
(5)
ويب غيرك: هلكت هلاك غيرك، وويب بالنصب على إضمار فعل.
(6)
الديوان ص 4 والسيرة 4/ 145.
آذاه من شعراء المشركين إلا من أعلنوا إسلامهم، ودعاه أن يقدم على رسول الله تائبا. وشرح الله صدره للإسلام، فقدم المدينة وبدأ بأبى بكر، فوقع من نفسه «فلما سلّم النبى صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح جاء به وهو متلثم بعمامته، فقال: يا رسول الله! هذا رجل جاء يبايعك على الإسلام، فبسط النبىّ، صلى الله عليه وسلم، يده، فحسر كعب عن وجهه، وقال:
هذا مقام العائذ بك يا رسول الله! أنا كعب بن زهير. فتجهّمته الأنصار وغلّظت له، لذكره قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبّت المهاجرة أن يسلم ويؤمّنه النبى صلى الله عليه وسلم، فأمّنه رسول الله» (1)، وأنشده مدحته الخالدة:
بانت سعاد فقلبى اليوم منبول
…
متيّم إثرها لم يفد مكبول (2)
فكساه النبى صلى الله عليه وسلم بردة اشتراها معاوية من أبنائه بعشرين ألف درهم، وكان يلبسها الخلفاء بعد معاوية فى العيدين (3). وقد اكتسى بها كعب حلّة مجد لا تبلى، ولقّبت قصيدته من أجلها بالبردة. ونراه يستهلها بالغزل، إذ يذكر سعاد وفراقها وأن قلبه مرتهن عندها فليس له فكاك، وكأنه يتأثر أباه فى بعض غزله إذ يقول فى إحدى قصائده (4):
وفارقتك برهن لا فكاك له
…
يوم الوداع فأمسى الرّهن قد غلقا (5)
ويلحّ فى وصف سعاد ويشبهها بالظبى ويشبه ريقها بالخمر، متأثرا فى ذلك أباه فى نفس القصيدة، كما تأثره فى الحديث عن إخلاف صاحبته لوعدها.
ويخرج من ذلك إلى وصف ناقته مستلهما ما نظمه أبوه فى هذا الموضوع من قبل. وما زال ينعت ناقته حتى قال يصوّر خوفه وفزعه من رسول الله:
(1) ابن سلام ص 83 والشعر والشعراء 1/ 104 وانظر الأغانى 14/ 142.
(2)
انظر القصيدة فى ديوان كعب (طبعة دار الكتب المصرية) ص 6. ومتبول: مغرم. وبانت: فارقت. ومكبول: مقيد.
(3)
ابن سلام ص 87 والشعر والشعراء 1/ 106 والإصابة 5/ 302.
(4)
ديوان زهير (طبعة دار الكتب) ص 33.
(5)
غلق الرهن: لم ينفك أبدا.
وقلت خلّوا طريقى-لا أبا لكم-
…
فكلّ ما قدّر الرحمن مفعول
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته
…
يوما على آلة حدباء محمول
أنبئت أنّ رسول الله أوعدنى
…
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال
…
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنّى بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب ولو كثرت عنى الأقاويل
إن الرسول لنور يستضاء به
…
مهنّد من سيوف الله مسلول (1)
فى عصبة من قريش قال قائلهم
…
ببطن مكة لما أسلموا زولوا (2)
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
…
عند الّلقاء ولا ميل معازيل (3)
ومضى يمدح المهاجرين حتى قال:
يمشون مشى الجمال الزّهر يعصمهم
…
ضرب إذا عرّد السّود التنابيل (4)
يعرّض بالأنصار لغلظتهم-كانت عليه-فأنكرت قريش ما قال، وقالوا لم تمدحنا إذ هجوتهم. ولم يقبلوا منه ذلك حتى قال يذكر الأنصار:
من سرّه كرم الحياة فلا يزل
…
فى مقنب من صالحى الأنصار (5)
الباذلين نفوسهم لنبيّهم
…
يوم الهياج وسطوة الجبّار
يتطهّرون-كأنه نسك لهم-
…
بدماء من علقوا من الكفّار (6)
صدموا عليّا يوم بدر صدمة
…
دانت لوقعتها جميع نزار (7)
(1) المهند: السيف المطبوع من حديد الهند وهو خير السيوف.
(2)
زولوا: هاجروا.
(3)
أنكاس: جمع نكس وهو الضعيف. الذليل. كشف: جمع أكشف وهو الذى ينكشف فى القتال وينهزم. ميل: جمع أميل وهو الجبان. معازيل: جمع معزال: وهو الذى ينعزل فى الحرب عن صحبه ومن يستغيث به.
(4)
الزهر: البيض. عرد: نكل وجبن. التنابيل: القصار.
(5)
المقنب: جماعة الخيل والفرسان.
(6)
علقوا: قتلوا.
(7)
يريد بعلى بنى على بن مسعود وهم بنو كنانة.
ورثوا السيادة كابرا عن كابر
…
إن الكرام هم بنو الأخيار
وحسن إسلام كعب، وأخذ يصدر فى شعره عن مواعظ وحكم يستهدى فيها الذكر الحكيم، من مثل قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبنى
…
سعى الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها
…
والنفس واحدة والهمّ منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل
…
لا تنتهى العين حتى ينتهى الأثر
ونراه يردد كثيرا أن الله يرزق عباده، وأنه لا يتركهم بدون رزق فهو راعيهم الذى يفضل عليهم. وهو الغنى الحميد، يقول:
أعلم أنى متى ما يأتنى قدرى
…
فليس يحبسه شحّ ولا شفق (1)
والمرء والمال ينمى ثم يذهبه
…
مرّ الدهور ويفنيه فينسحق
فلا تخافى علينا الفقر وانتظرى
…
فضل الذى بالغنى من عنده نثق
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا
…
ومن سوانا ولسنا نحن نرتزق
وهو فى ذلك يقرب من زهاد المسلمين الذين كانوا يكرهون أن يفكر الشخص منهم فى رزق غد، بل كان منهم من يرى أن ذلك خطيئة لا تغتفر.
وله قصيدة لامية يظهر أنه نظمها فى الجاهلية لما يذكر فيها من شربه الخمر مع من يصطفيه. ويظهر أنه عاد فأدخل فيها بعد إسلامه هذه الأبيات:
فأقسمت بالرحمن لا شئ غيره
…
يمين امرئ برّ ولا أتحلّل (2)
لأستشعرن أعلى دريسىّ مسلما
…
لوجه الذى يحيى الأنام ويقتل (3)
هو الحافظ الوسنان بالليل ميّتا
…
على أنه حىّ من النوم مثقل (4)
من الأسود السارى وإن كان ثائرا
…
على حدّ نابيه السّمام المثمّل (5)
(1) شفق: خوف.
(2)
لا أتحلل: لا أستثنى.
(3)
الدريس: الثوب البالى. كنى بذلك عن حسن إسلامه وتوكله على الله الذى يحيى ويميت.
(4)
الوسنان: النائم.
(5)
الأسود: الأفعى. السارى: الذى يسير ليلا. الثائر: الطالب بثأر. المثمل: المجمّع
وهى تنمّ عن ولائه لدينه الحنيف وأنه أسلم وجهه لربه، جل جلاله، الحافظ الذى يكلأ عباده ويقيهم الأذى، ولعلّ فى ذلك ما يدل دلالة واضحة على مدى تأثير الإسلام فى نفسه وفى شعره. وديوانه يدل-كما يدل تأخره فى إسلامه-على أنه كان فيه شر كثير، إذ نراه دائما فى شعره الجاهلى مفاخرا متوعدا مهددا، حتى إذا أسلم أخذت نفسه تصفو، وأخذ يستشعر معانى الإسلام الروحية، وما دعا إليه من الخلق الفاضل، حتى لنراه فى الهجاء نفسه يعلن لهاجيه أنه يصفح الصفح الجميل، سائقا له، لا من الشتم والسباب، بل من الحكم، ما يحاول به أن يكفّ أذاه عنه، يقول (1):
إن كنت لا ترهب ذمّى لما
…
تعرف من صفحى عن الجاهل
فاخش سكوتى إذ أنا منصت
…
فيك لمسموع خنا القائل
فالسامع الذامّ شريك له
…
ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السّوء إلى أهلها
…
أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه
…
ذموه بالحق وبالباطل
ولا تهج إن كنت ذا إربة
…
حرب أخى التجربة العاقل (2)
فإنّ ذا العقل إذا هجته
…
هجت به ذا خبل خابل
فهو ينهاه أن لا يجعل الصفح عنه سببا إلى سوء القول، حتى لا يجنى على نفسه ما هو أقبح أثرا وأبقى وسما، ويقول إن الذين يبسطون ألسنتهم بالهجاء سرعان ما يرتد عليهم هجاء أقذع وأمرّ، هجاء بالحق وبالباطل. وهو فى ذلك كله يأخذ بأدب القرآن ورسوله عليه الصلاة والسلام من العفو والصفح ومن التقريع لمن يهجوه بدلا من الطعن فى الأعراض سنّتهم القديمة.
(1) الخزانة 4/ 12 والاستيعاب ص 227 والحيوان 1/ 15.
(2)
الإربة: الدهاء.