الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الحلفين اللذين تحدثنا عنهما حلف تميم وقيس وحلف الأزد وربيعة ومن انضم إليهما من القبائل اليمنية، فقد أثاروا ما بين العشائر والبطون من حزازات قديمة وأضافوها إلى ما تكوّن من حزازات حديثة، بحيث لم تبق عشيرة إلا ولها شاعرها أو شعراؤها الذين يذودون عنها مفاخرين هاجين، واتخذ ذلك شكل معارك عنيفة، على نحو ما نعرف عن معركة الهجاء التى نشبت بين جرير والفرزدق.
ولم تنمّ البصرة شعر الفخر والهجاء وحده، بل نمّت أيضا شعر المديح، فقد تحول شعراؤها إلى الخلفاء والولاة والقواد والأجواد يمدحونهم ويأخذون جوائزهم. وقلنا آنفا إن الخوارج فى البصرة كانوا كثيرين، وقد هيأت هذه الكثرة لأن يظهر من بينهم غير شاعر مثل عمران بن حطّان، أما الشيعة فكانوا قليلين، ومن ثم لم ينشط الشعر الشيعى بالبصرة، وكأنها تركته للكوفة كى تبلغ منه كل ما كانت تريد من معارضة الدولة والتشيع للبيت العلوى وبيان حقّه فى الخلافة. وإذا كنا لاحظنا فى الكوفة أن شعراء كثيرين كانوا يقفون فى صفوف بنى أمية ضد معارضيهم من الشيعة فإن البصرة هى الأخرى كان بها كثير من الشعراء الذين نافحوا عن الحكم الأموى وعلى رأسهم جرير.
ويلقانا بين أعاجم البصرة غير شاعر، وطبيعى أن ينتظموا فى صورة الشعر البصرى العامة من الفخر والهجاء والمديح، وممن اشتهروا منهم يزيد بن مفرّغ الحميرى. ويلقانا أيضا شعراء يتغنون بالخمر مثل حارثة بن بدر الغدانى التميمى، وإن كان من الحق أن موجتها لم تتسع فى البصرة اتساعها فى الكوفة، فقد كانت أكثر وقارا، ومن ثمّ فسحت للزهد وشعرائه من أمثال أبى الأسود الدؤلى.
4 - خراسان
مرّ بنا أن جند البصرة هم الذين مضوا شرقا فى عهد عمر بن الخطاب حتى فتحوا خراسان، وقد توغلوا فيها لعهد عثمان، فكان طبيعيّا أن يحملوا معهم ما أخذت تستشعره القبائل البصرية من العصبيات القديمة. وكان مما زادها
ضراوة فى نفوسهم أن قوّاد الجيوش المحاربة كانوا يكافأون على انتصاراتهم بإسناد إدارة الجهات التى يفتحونها إليهم، وكان القائد حين تسند إليه ولاية يخصّ قبيلته بالغنم الأكبر. وكذلك كان يصنع الولاة من قبل الخليفة أو والى العراق، فانطوت النفوس على موجدة شديدة، وهى موجدة أدّت هناك دائما إلى حروب عنيفة واشتباكات دامية، كانت تعلو فيها القبيلة كما كان يعلو الثأر على كل شئ.
وبذلك أصبح العرب بخراسان فى نفس الموقف الذى كان عليه أسلافهم فى الجاهلية، فهم يعيشون للمنازعات القبلية والثارات، وحقّا كانوا يشغلون أحيانا بحروب الترك، ولكنهم كانوا لا يهدءون وينصرفون قليلا عن حربهم حتى يتحاربوا فيما بينهم حربا مريرة، وهى حرب عادت فيها العصبيات جذعة.
وقد بدأت هذه العصبيات تستعر هناك فى نفس الوقت الذى بدأ استعارها فيه بالبصرة، أى بعد وفاة يزيد بن معاوية فقد أخذت الأزد وأحلافها تحاول أن تستولى على السلطان هناك، وتصدت لهم قيس وتميم بزعامة عبد الله ابن خازم السّلمى القيسى. واستطاع أن يجمع السلطان فى يده هناك معلنا ولاءه لابن الزبير، حتى إذا غلب عبد الملك بن مروان على صاحبه أرسل إليه أن يدخل فى طاعته على أن يطعمه خراسان سبع سنين، وأبى ابن خازم، غير أن نائبه فى مرو: بكير بن وشاح التميمى ثار عليه، ولم يلبث ابن خازم أن قتل. ودخلت خراسان ثانية فى طاعة بنى أمية، وولّى عليها عبد الملك بكيرا، ثم ولى أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد الأموى. وضمّها إلى الحجاج، فولّى عليها فى سنة 78 المهلّب الأزدى بعد قضائه على الأزارقة، فقدمها يصحبه شاعره كعب الأشقرى الذى طالما أشاد بانتصاراته على الأزارقة. ويلزمه شعراء خراسان يمدحونه ويصفون حروبه مع الترك من أمثال المغيرة بن حبناء التميمى ونهار بن توسعة اليشكرى البكرى وزياد الأعجم مولى عبد القيس. ويتوفّى المهلب سنة 82، فيولّى الحجاج بعده ابنه يزيد، وكان شجاعا مقداما كما كان بحرا فياضا، وقد أشاد الشعراء هناك بحروبه فى فرغانة حوارزم وماوراء النهر إشادة رائعة. ويعزله الحجاج لعصبيته الشديدة للأزد
وأحلافها من اليمن وربيعة ويولّى أخاه المفضل، وسرعان ما يرى أن يتخلص من المهالبة جميعا، فيعزل المفضل ويولى قتيبة بن مسلم الباهلى فى سنة 86 فتعلو كفة قيس ويعظم سلطانها. وكان قتيبة قائدا محنكا وفارسا مغوارا، فمضى يفتح فى طخارستان وأرض السّغد وخوارزم وسمرقند، والشعراء من حوله يتغنون بانتصاراته. ولم يلبث قتيبة أن سقط وهو فى أوج مجده، وذلك أن سليمان ابن عبد الملك ولى الخلافة بعد أخيه الوليد، وكان حانقا على الحجاج وعمّاله، وخشى قتيبة على مصيره، فثار عليه، وسرعان ما انفضّت عنه الأزد وأحلافها ثم تبعتهم تميم، لأنه كان قتل منها نفرا من آل الأهتم، وأساء معاملة بطلها وكيع بن أبى سود. وتزعّم وكيع حربه، وانضمت إليه الأزد، وكانت مغيظة منذ عزل المهالبة وانضمّت معها قبائل ربيعة كما انضم الموالى بقيادة حيّان النبطى، وأخيرا خذلته قيس إلا نفرا من عشيرته باهلة، فلقى حتفه سنة 96 للهجرة.
وولّى سليمان مكانه وكيع بن أبى سود، فأخذ الناس بالعنف، فعزله، وولّى يزيد بن المهلب، جامعا له بين خراسان والعراق، وقد مضى يتّبع سياسة قبلية جامحة، إذ رفع من شأن الأزد، وملأ بها الوظائف، وجعل لها القسطى الأكبر فى الغنائم. وتوفّى سليمان وخلفه عمر بن عبد العزيز فعزل يزيد وحبسه لتأخره فى أداء الفئ، وكان قد بالغ لسليمان فى بعض كتبه، فقال إن الفئ فى بعض حروبه كان قناطير من الذهب، وزعم أن خمسه بعد أن أخذ كل محارب حقّه منه بلغ أربعة آلاف ألف وفى رواية ستة آلاف ألف، فلما طلب منه عمر ذلك، ولم يستطع أداءه حبسه حتى يؤدى ما عليه للدولة، ولم يكتف بعزله وحده، فقد عزل كل ولاته الأزديين، وبذلك سقط أو هوى نجم الأزد، وقد ولى عمر على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمى. ودخلت فى عصر يزيد بن عبد الملك، وتولاها غير قيسى، ولا يلبث أن يظلّها عهد هشام بن عبد الملك، وفيه تصبح تابعة لخالد القسرى والى العراق، وكانت فيه عصبية شديدة لليمن، فارتفع شأن الأزد. ونراه ينيب عليها أخاه أسدا سنة 105 وكان يحاكيه فى سياسته، فالتهبت العصبيات القبلية التهابا، وامتشقت الحسام الكتلتان الكبيرتان تميم وقيس من جهة والأزد وأحلافوا
من جهة أخرى ووقعت بينهما وقعة معروفة باسم وقعة البروقان ببلخ سنة 106 وتوالت بينهما الوقائع، وعزل أسد سنة 109 ووليها الحكم بن عوانة الكلبى ولم يلبث أن عزل ووليها أشرس بن عبد الله السّلمى القيسى، وخلفه عليها الجنيد بن عبد الرحمن المرّى سنة 112 وعزل عنها فى سنة 116 وخلفه عاصم بن عبد الله الهلالى، وفى عهده نشبت ثورة الحارث بن سريج وكان يرى رأى المرجئة، كما كان يرى إسقاط الجزية عن الموالى، واتخذ جهم بن صفوان كاتبا له، وهو أشهر متكلمى هذه الفرقة. واستفحلت الثورة إذ انضم إليها كثيرون من تميم والأزد والموالى. وما زال عاصم يجاهدهم، حتى عزل فى سنة 117 وولى مكانه أسد القسرى للمرة الثانية فضيّق الخناق على الحارث حتى فر هاربا. غير أن أسدا مات، وسقط أخوه خالد فى العراق، إذ صرفه هشام عن ولايتها وولّى عليها يوسف بن عمر الثقفى، جامعا له معها خراسان، فولّى عليها نصر بن سيار، وفى عهده اشتدت العصبيات اشتدادا مروّعا واشتد معها الشجار والقتال فى كل مكان، وظهر الحارث بن سريج على مسرح الحوادث ثانية وقتل. وأخيرا يظهر أبو مسلم الخراسانى. وعبثا يصيح نصر بن سيار بجنوده أن يتداركوا الأمر (1) وتكون نهاية بنى أمية.
ويفيض تاريخ الطبرى بأشعار الشعراء فى هذه العصبيات التى احتدمت هناك وفى وصف حروب العرب والترك. ولعل من الطريف أن نعرف أن الشعر نشط فى خراسان نشاطا عظيما، إذ كانت الكثرة من العرب هناك مضرية، وحيثما وجدت المضريين وجدت الشعر، وكانت الأحداث كثيرة، فألهمت غير شاعر بالشعر الرائع. ومن أهم شعرائهم زياد الأعجم وكعب ابن معدان الأشقرى ونهار بن توسعة وثابت قطنة والمغيرة بن حبناء. ولعل من الطريف أن نعرف أنّ من هؤلاء الشعراء من كان فارسا مقداما مثلى ثابت قطنة وكعب بن معدان، وكان من هولاء الشعراء الفرسان من يقع فى حب بعض نساء الترك والديلم وفتياتهم، فيتغزل بهن، على نحو ما نرى عند أبى جلدة اليشكرى (2)، وأعشى همدان (3). وكان بين المحاربين كثيرون يحنّون إلى ديار
(1) طبرى 6/ 36 وما بعدها والأخبار الطوال للدينورى ص 360.
(2)
أغانى (دار الكتب) 11/ 319، 325.
(3)
أغانى 6/ 34 وما بعدها.