المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٢

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر الإسلامى

- ‌الكتاب الأولفى عصر صدر الإسلام

- ‌الفصل الأولالإسلام

- ‌1 - قيم روحية

- ‌2 - قيم عقلية

- ‌3 - قيم اجتماعية

- ‌4 - قيم إنسانية

- ‌الفصل الثانىالقرآن والحديث

- ‌1 - نزول القرآن وحفظه وقراءاته

- ‌2 - سور القرآن وتفسيره فى العهد الأول

- ‌3 - اثر القرآن فى اللغة والأدب

- ‌4 - الحديث النبوى

- ‌الفصل الثالثالشعر

- ‌1 - كثرة الشعر والشعراء المخضرمين

- ‌2 - الشعر فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - الشعر فى عصر الخلفاء الراشدين

- ‌4 - شعر الفتوح

- ‌الفصل الرابعالشعراء المخضرمونومدى تأثرهم بالإسلام

- ‌1 - كثرة المخضرمين المتأثرين بالإسلام

- ‌4 - لبيد

- ‌5 - الحطيئة

- ‌الفصل الخامسالنثر وتطوره

- ‌1 - تطور الخطابة

- ‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - خطابة الخلفاء الراشدين

- ‌4 - الكتابة

- ‌الكتاب الثانىفى عصر بنى أمية

- ‌الفصل الأولمراكز الشعر الأموى

- ‌1 - المدينة ومكة

- ‌2 - نجد وبوادى الحجاز ونزوح قيس إلى الشمال

- ‌3 - الكوفة والبصرة

- ‌4 - خراسان

- ‌5 - الشام

- ‌6 - مصر والمراكز الأخرى

- ‌الفصل الثانىمؤثرات عامة فى الشعر والشعراء

- ‌1 - الامتزاج بالأمم الأجنبية وتعرّبها وأثر ذلك فى اللغة

- ‌2 - الإسلام وأثره فى موضوعات الشعر

- ‌3 - السياسة

- ‌4 - الحضارة

- ‌5 - الثقافة

- ‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

- ‌الفصل الثالثشعراء المديح والهجاء

- ‌1 - شعراء المديح

- ‌ نصيب

- ‌القطامى

- ‌2 - شعراء الهجاء

- ‌ ابن مفرّغ

- ‌ الحكم بن عبدل

- ‌3 - شعراء النقائض

- ‌4 - الأخطل

- ‌5 - الفرزدق

- ‌6 - جرير

- ‌الفصل الرابعشعراء السياسة

- ‌1 - شعراء الزبيريين

- ‌ ابن قيس الرقيات

- ‌2 - شعراء الخوارج

- ‌ عمران بن حطّان

- ‌الطّرمّاح

- ‌3 - شعراء الشيعة

- ‌ كثيّر

- ‌الكميت

- ‌4 - شعراء ثورة ابن الأشعث

- ‌ أعشى همدان

- ‌5 - شعراء بنى أمية

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل الصريح

- ‌ عمر بن أبى ربيعة

- ‌الأحوص

- ‌العرجى

- ‌2 - شعراء الغزل العذرى

- ‌ قيس بن ذريح

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌أبو الأسود الدّؤلى

- ‌4 - شعراء اللهو والمجون

- ‌أبو الهندى

- ‌5 - شعراء الطبيعة

- ‌ذو الرّمّة

- ‌6 - الرّجّاز

- ‌العجّاج

- ‌رؤبة

- ‌الفصل السادسالخطابة والخطباء

- ‌1 - ازدهار الخطابة

- ‌2 - خطباء السياسة

- ‌ زياد بن أبيه

- ‌3 - خطباء المحافل

- ‌ الأحنف بن قيس

- ‌4 - خطباء الوعظ والقصص

- ‌ الحسن البصرى

- ‌الفصل السابعالكتابة والكتّاب

- ‌1 - التدوين

- ‌2 - كثرة الرسائل المدوّنة

- ‌3 - كتّاب الدواوين

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

وثمرها دقل (1)، وعدوها بطل، وخيرها قليل وشرها طويل، والكثير بها قليل.

إن كثر الجند بها جاعوا، وإن قلّوا بها ضاعوا». وقد أنكر عمر عليه هذا السجع فقال له: أسجّاع أنت أم مخبر (2). وكان الخلفاء بعد عمر ينكرون السجع على محدّيثهم. وأمامنا خطب القوم، وهى تخلو خلوّا تامّا من السجع إلا ما جاء عفوا فى الحين البعيد بعد الحين. ولكنهم إذا كانوا قد أهملوا السجع فإنهم لم يهملوا جزالة اللفظ ورصانته، بل لقد كان همّ كل خطيب أن يحسن قوله وأن يصوغه صياغة رائعة.

وأخرى تلاحظ على الخطابة فى هذا العصر بالقياس إلى الخطابة الجاهلية، فإن الخطابة الأخيرة لم تكن ذات موضوع محدد، ومن ثم كانت تأخذ شكل أقوال متناثرة لا رابط بينها، أما فى هذا العصر فقد أصبح للخطابة موضوع واضح يجول فيه الخطيب ويصول، إذ يحدّث الناس واعظا، أو يعرض عليهم حدثا محددا من أحداث الإسلام، بحيث نستطيع أن نقول إن الخطبة أصبحت ذات موضوع، تلمّ بأطرافه وتفاصيله. وبذلك كله نهضت الخطابة ونهض معها النثر نهضة واسعة، فقد أخذ الخطباء يوسّعون طاقته بما يحمّلونه من معانى الإسلام وما يبسطون فى هذه المعانى ويولّدون ويفرّعون. ونحن نقف قليلا عند خطابة الرسول وخطابة خلفائه الراشدين لتتضح صور التطور التى وسّعت جنبات النثر وزادت فى معانيه ومادته بأداة البيان الكاملة وأسباب البلاغة الوافرة.

‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

على هدى القرآن الكريم كان محمد صلوات الله عليه يخطب فى العرب ليخرجهم من ظلمات الوثنية إلى نور الهداية السماوية، وقد أوتى من الّلسن

(1) دقل: ردئ. والبيان والتبيين 1/ 285.

(2)

انظر فى هذا الخبر الطبرى 3/ 257

ص: 114

والفصاحة ما ملك به أزمّة القلوب، وكأنما كانت المعانى والأساليب موقوفة بشخوصها بين يديه، ليختار منها ما تهش له الأسماع وتصغى له الأفئدة.

وقد ظل طوال مكثه بمكة يتلو على قريش ومن يلقاه فى الأسواق كتاب الله حينا، وحينا آخر كان يخطب فى نفس معانى القرآن المكية متحدثا عن رسالته، وداعيا إلى وحدانية الله مبينا أنه يهيمن على الناس فى أعمالهم وأنه سيبعثهم يوم القيامة، ليجزى بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، حتى إذا انتقل إلى المدينة فرضت الخطابة-كما قدمنا-فى صلاة الجمع والأعياد ثم فى مواسم الحج. وكان ما يزال يخطب فى الأحداث التى تلمّ. وفى أخباره أنه كان يطيل الخطبة أحيانا إلى ساعات (1) غير أن كتب الأدب والتاريخ لم تحتفظ من هذا التراث القيم إلا بأطراف قليلة، ولعل مرجع ذلك إلى طول المسافة بين خطبه وعصر التدوين فضاعت أو سقطت من يد الزمن إلا بقايا قليلة.

وأكثر هذه البقايا مما خطب به عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة، وهو فيها يتطابق مع آى القرآن التى كانت تنزل عليه، إذ نراه تارة واعظا، وتارة مشرّعا، وقد يجمع بين الطرفين من الوعظ والتشريع فى نسيج بلاغى رائع. ونحن نسوق أول خطبة خطبها بالمدينة حين صلى بالناس فى دخوله إليها صلاة الجمعة، وهى تمضى على هذه الشاكلة (2):

«الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأو من به ولا أكفره وأعادى من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلّة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنوّ من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرّط وضل ضلالا بعيدا. وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرا. وإن تقوى الله، لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذى بينه وبين الله من

(1) إعجاز القرآن للباقلانى ص 63.

(2)

الطبرى 2/ 115.

ص: 115

أمره فى السر والعلانية لا ينوى بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا فى عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدّم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. ويحذّركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد.

والذى صدق قوله، وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل:

{(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ).} فاتقوا الله فى عاجل آمركم وآجله، فى السر والعلانية {(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).} ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما. وإن تقوى الله يوقّى مقته ويوقّى عقوبته ويوقّى سخطه، وإن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضى الرب، ويرفع الدرجة، خذوا بحظكم، ولا تفرّطوا فى جنب الله. قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، {(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ)} (1) وسماكم المسلمين {(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)} ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم. فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم».

والخطبة موعظة رائعة، يستهلها الرسول الكريم بتقرير وحدانية الله وأنه أتمّ نعمته على الناس بإرساله إليهم كى يخرجهم مما هم فيه من غواية وضلالة ويدخلوا فى رعايته الإلهية، فلا يعملوا عملا بدونه. ليتركوا إذن الوراثة الضالة والوسط المشفى على الهلاك ويجتمعوا على هدى الله وتقواه، وليستشعروه فى السر والعلانية فإنه يعلم خائنة الأعين وما يستكنّ فى الصدور، وليقدّموا من خشيته وطاعته ما يكفّرون به عن سيئاتهم وتبيضّ به وجوههم يوم الحساب حتى يدخلوا فى جنّاته. إنه يوم ما بعده مستعتب، فإما الجنة وشفيعها العمل الصالح، وإما النار وبئس القرار. ويدفعهم دفعا إلى الجهاد فى سبيل الله ونشر دعوة الحق والخير، فقد اجتباهم واختارهم ليضطلعوا بأمانة الرسالة المحمدية، ولينشروها فى أطراف الأرض. والرسول فى كل ذلك يستوحى القرآن وآياته، وهى تقف

(1) اجتباكم: اختاركم.

ص: 116

منارات فى موعظته، يستمد من إشعاعاتها ما يضئ به كلامه. بل إن وراء هذه المنارات منارات أخرى من هدى القرآن، بحيث نستطيع أن نرد كل موعظته إلى ينابيع الضوء التى تفجرت منها، إذ كانت تسيل فى نفسه، بل كانت تشع بمعانى نورها، كما يشع نور الشمس فى السماء. وكان أحيانا ينتقل فى سرعة من مثل هذا الوعظ ومعانيه الروحية إلى تشريعات يتمّ بها قيام هذا المجتمع الإسلامى ويسود على كل ما حوله، تشريعات قوامها مصلحة الجماعة وأن يعيش المسلم متعاونا متضامنا فى سبيل الخير، وهو خير تطبع عليه الجنة بنعيمها الخالد، خير يكفل سعادة البشرية، ومن أروع ما يصور ذلك خطبته عليه السلام فى حجّة الوداع، وهى تجرى على هذا النمط (1):

«الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له. ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

أوصيكم-عباد الله-بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته، وأستفتح بالذى هو خير. أما بعد أيها الناس! اسمعوا منى أبيّن لكم، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا فى موقفى هذا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى الذى ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع (2)، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمى العباس ابن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السّدانة (3) والسّقاية (4). والعمد قود (5)، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد فى أرضكم هذه، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون

(1) البيان والتبيين 2/ 31 وانظر السيرة النبوية لابن هشام (طبعة الحلبى) 4/ 250 والعقد الفريد 4/ 57.

(2)

موضوع: ساقط ومحرم.

(3)

السدانة: خدمة الكعبة.

(4)

السقاية: سقاية الحجاج.

(5)

العمد: القتل المتعمد. القود: قتل القاتل بمن قتل.

ص: 117

من أعمالكم. أيها الناس! {(إِنَّمَا النَّسِيءُ (1)} زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ).

إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، {(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اِثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ): } ثلاثة متواليات وواحد فرد. ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذى بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس! إن لنسائكم عليكم حقّا، ولكم عليهن حق، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن (2) وتهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح (3). فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.

وإنما النساء عندكم عوان (4)، لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله فى النساء، واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، أيها الناس! إنما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لامرئ مسلم مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

فلا ترجعنّ بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب.

أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير. ليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلّغ الشاهد الغائب. أيها الناس! إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز وصية لوارث فى أكثر من الثلث. والولد للفراش وللعاهر الحجر (5)، من ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين،

(1) النسيئ: شهر المحرم كانوا يحرمونه عاما، ويحلونه عاما آخر إن أرادوا الإغارة، فيقولون إنه بعد شهر صفر ويؤجلونه.

(2)

تعضلوهن: تضيقوا عليهن.

(3)

الضرب غير المبرح: الضرب الخفيف.

(4)

عوان: جمع عانية وهى الأسيرة، أى هن عندكم بمنزلة الأسيرات.

(5)

للفراش: أى لصاحبه، وللعاهر الحجر: أى أن هذا مقضى به رغم أنفها أو لعله يشير إلى رجمها.

ص: 118

لا يقبل منه صرف (1) ولا عدل (2). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

وواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكد يلمّ بالحمد لله والشهادة والوصية بالتقوى حتى انتقل يبيّن طائفة من التشريعات الإسلامية التى أقامها الدين الحنيف حدودا بين حياة العرب فى الجاهلية وحياتهم فى الإسلام، فقد كانوا مفككين متنافرين يتحاربون دائما طلبا للأخذ بالثأر ونهبا للأموال.

وجمعهم الإسلام تحت لوائه فى جماعة كبرى متآخية متناصرة لا يبغى بعضها على بعض. ولكى يقضى على كل سبب للحرب بينهم ردّ دم القتيل إلى الدولة فهى التى تعاقب عليه، ولكى يستأصل هذا الداء دعا إلى التنازل عن حق الأخذ بالثأر القديم، وحرّم النهب والسلب تحريما قاطعا مشددا فيه العقوبة.

والرسول يفتتح فى الخطبة أوامر الإسلام ونواهيه بإعلان أن دماء المسلمين وأموالهم حرام، وأن على كل من كانت عنده أمانة أن يردّها على صاحبها، وأن على كل مسلم أن يرعى أخاه فى ماله. فلا يأخذ منه شيئا إلا بالحق، ومن ثم حرّم الرّبا، وبدأ بعشيرته وتاجرها الموسر العباس بن عبد المطلب فأسقط عن رقاب المدينين له رباه. وعلى نحو ما أسقط الربا أسقط دماء الجاهلية، فليس لمسلم أن يثأر لقتيل له، وبدأ بعشيرته فأسقط دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. ولم يبق من مآثر الجاهلية شيئا سوى خدمة الكعبة وسقاية الحجيج، وأوجب فى قتل العمد القود، ولكن الدولة هى التى تقوم به، وبذلك قضى الإسلام على حروبهم الداخلية. وقد جعل فى القتل شبه العمد مائة بعير.

كل ذلك ليحفظ للجماعة وحدتها ويسود بين أفرادها السلام والوئام.

ويحذّر الرسول من الشيطان وغواياته، محرما للتلاعب بالأشهر الحرم، واضعا تقويما قمريّا يتألف من اثنى عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. ويرفع من شأن المرأة ومعانى علاقاتها بزوجها، فيجعل لها حقوقا وعليها واجبات، وفى الطرفين جميعا يحفظ لها كرامتها كما يحفظ لزوجها نفس الكرامة، داعيا إلى التعاطف بينهما والتراحم والتعامل برفق وإحسان.

(1) صرف: توبة.

(2)

العدل: الفدية.

ص: 119

ويعود إلى العلاقة بين الفرد وجماعته الكبرى من الأمة، فيقرر أن المؤمنين إخوة، لكل منهم على صاحبه ما للأخ على أخيه من التآزر والتعاون والتحابّ، فلا بطش ولا ظلم ولا نهب، ولا حرب ولا سفك للدماء. وإنه لعهد من نقضه عاد كافرا آثما قلبه. لقد انتهى عهد الحياة القبلية وكل ما أتصل بها من تنابذ وتفاخر، فالناس جميعا لآدم، ولا عربى عدنانى ولا عربى قحطانى، بل لا عربى ولا أعجمى، فقد وضعت موازين جديدة لحياة العرب، فلم يعد التفاضل بالنسب والحسب، إنما أصبح بالتقوى فهى معيار التفاضل. ويلفت الرسول سامعيه إلى ما قرّره القرآن فى الميراث وأنصبته. وأن للمورّث أن يوصى بالثلث من ماله. ويرسى قاعدة مهمة فى شرعية الأبناء، وخاصة هؤلاء الذين تلدهم العواهر، فينسبهم إلى أصحاب الفراش، وكانوا ينسبونهم إلى غير آبائهم، وقد لا ينسبونهم أبدا، فحرّم ذلك تحريما باتّا. وبذلك قضى على نبالة النسب من جهة الخئولة قضاء مبرما.

وعلى هذا النحو كان الرسول صلوات الله عليه يبيّن فى خطابته حدود الحياة الإسلامية وما ينبغى أن يأخذ به المسلم نفسه فى علاقاته الكبرى مع أفراد أمته وعلاقاته الصغرى مع أسرته. فإن ترك ذلك فإلى وعظ المسلمين وما ينبغى أن يأخذوا أنفسهم به، فى سلوكهم حتى تزكو نفوسهم، وفى عبادتهم لربهم وتقواه حق التقوى حتى لا يزيغوا ولا ينحرفوا عن المحجة، بل يتدرجوا فى مراقى الكمال الإنسانى.

وهذه الخطبة وسابقتها تصوران فى دقة حسن منطق الرسول فى خطابته، وأنه لم يكن يستعين فيها بسجع ولا بلفظ غريب، فقد كان يكره اللونين جميعا من الكلام لما يدلاّن عليه من التكلف، وقد برّأه الله منه إذ يقول فى كتابه العزيز:

قل يا محمد: {(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).} والذى لا شك فيه أنه كان يبلغ بعفوه وقوى فطرته ما تنقطع دونه رقاب البلغاء، وقد وصف الجاحظ بلاغته فى خطابته أدق وصف، فقال إنه: «جانب أصحاب التقعيب (1)، واستعمل المبسوط فى موضع البسط والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشىّ،

(1) التقعيب: التقعير وهو التكلم بأقصى قعر الفم.

ص: 120