الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
الكتابة والكتّاب
1 - التدوين
كان العرب فى الجاهلية أميين، لا يعرف القراءة والكتابة إلا قليل منهم، فلما جاء الإسلام أخذ يحضّهم-كما مرّ بنا-على تعلم الكتابة وعلى العلم والتعلم. وكان اختلاطهم بعد الفتوح بالأعاجم مهيّئا لهم أن يقفوا منهم على فكرة الكتاب وأنه صحف يجمع بعضها إلى بعض فى موضوع معين. وقد أخذوا يتحولون سريعا من أمة أمّية لا تعرف من المعارف إلا ما حواه الصدر ووعته الآذان إلى أمة كاتبة، تدوّن معارفها العربية والإسلامية واضعة بعض المصنّفات ومضيفة إلى ذلك بعض المعارف الأجنبية.
وكان من أوائل ما عنوا به من معارفهم العربية الخالصة أخبار آبائهم فى الجاهلية وأنسابهم وأشعارهم، ومن ثمّ كثير بينهم علماء النسب وأصحاب الأخبار (1) ومن أشهرهم دغفل (2) بن حنظلة السّدوسى المتوفّى سنة 70 للهجرة، وله مجالس عند معاوية دوّنت فى كتاب له اسمه «التضافر والتناصر» (3) وهى تدور بينهما فى أسلوب حوارى، إذ يسأل معاوية عن قبائل العرب ويجيبه دغفل بعبارات بليغة، وقد احتفظ الجاحظ منها فى بيانه ببعض إجابات طريفة. (4)
(1) انظر المعارف لابن قتيبة (طبعة جوتنجن) ص 265 والبيان والتبيين 1/ 318 وما بعدها
(2)
راجع فى ترجمة دغفل المعارف ص 265 والفهرست (طبع مصر) ص 131 وأمثال الميدانى 2/ 273 والإصابة، وفى الاستيعاب لابن عبد البر ص 173 أن معاوية أمره أن يعلم يزيد ابنه العربية والأنساب.
(3)
انظر التحفة البهية (طبعة إستانبول) ص 38.
(4)
البيان والتبيين 1/ 121، 247، 2/ 80، 253.
وبجانب ذلك نجد القبائل تعنى بأخبارها فى الجاهلية وأشعارها فتدونها، وتكاثر هذا التدوين فى الكوفة حيث كانت تعيش الأرستقراطية العربية، مما أتاح الفرصة للرواة من أمثال حماد الراوية أن يحملوا مادة غزيرة من الشعر الجاهلى وكل ما يتصل به من أخبار وأيام (1). وبين أيدينا أخبار مختلفة تدل على أن الشعر الإسلامى كان يكتب ويدوّن، من ذلك ما يرويه الجاحظ عن ذى الرّمّة من أنه كان يقول لعيسى بن عمر:«اكتب شعرى فالكتاب أحبّ إلىّ من الحفظ، لأن الأعرابىّ ينسى الكلمة وقد سهر فى طلبها ليلته، فيضع فى موضعها كلمة فى وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام» (2)، وفى أخبار جرير أنه كان يأمر راويته حسينا بإعداد ألواح ودواة ليملى عليه بعض أشعاره (3) وأنه كان يقول لسامعيه بالمربد قيّدوا قيّدوا أى اكتبوا (4)، وفى الأغانى أن خالد بن كلثوم الكلبى كان يدوّن شعره وشعر الفرزدق (5). ونحن لا نصل إلى عصرهما حتى يتكون بالبصرة والكوفة جيل من الرواة، يعنى بتدوين أخبار العرب فى الجاهلية وأشعارهم، لعل خير من يمثّله أبو عمرو بن العلاء، وفيه يقول الجاحظ:«كانت كتبه التى كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له، إلى قريب من السّقف، ثم إنه تقرّأ (تنسّك) فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظ بقلبه، وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية» (6).
وعناية العرب فى هذا العصر بتدوين أخبارهم الجاهلية وأنسابهم وأشعارهم لا تقاس إلى عنايتهم بتدوين كل ما اتصل بدينهم الحنيف فقد تأسست فى كل بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير الذكر الحكيم ورواية الحديث النبوى وتلقين الناس الفقه وشئون التشريع. وكان كثيرون من المتعلمين فى هذه المدارس يحرصون على تدوين ما يسمعونه. وقد اشتهر ابن عباس فى مكة بما كان يحاضر فى تفسير القرآن الكريم، وحمل عنه تفسيره نفر من التابعين
(1) أغانى (دار الكتب) 6/ 94.
(2)
الحيوان 1/ 41.
(3)
نقائض جرير والفرزدق (طبعة بيقن) ص 430 وانظر أغانى (دار الكتب) 8/ 32.
(4)
ابن سلام ص 374.
(5)
أغانى (ساسى) 19/ 11 - 12.
(6)
البيان والتبيين 1/ 321.
أمثال مجاهد وعطاء، ويقول ابن حنبل «بمصر صحيفة فى التفسير عن ابن عباس رواها على بن أبى طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا (1)» .
ولا يحمل تفسير الطبرى تفسير ابن عباس وحده، بل يحمل أيضا كلّ ما رواه الرواة عن معاصريه أمثال عبد الله بن مسعود وأبىّ بن كعب. وقد أخذت تعظم هذه المادة بما أضاف إليها التابعون، وما نشكّ فى أن كثيرا منها دوّن فى هذا العصر، وإلا ما وصلت إلى الطبرى. وكان الصحابة والجيل الأول من التابعين كما مر بنا فى غير هذا الموضع يتردّدون فى تدوين الحديث، غير أن بينهم قوما كانوا لا يكتفون بالحفظ خشية النسيان، فعمدوا إلى كتابة ما سمعوه على نحو ما يصوّر لنا ذلك البغدادى فى كتابه «تقييد العلم» . ونحن لا نصل إلى عصر عمر بن عبد العزيز حتى نراه يأمر بتدوين الحديث، ويعنى بذلك كما مر بنا الزّهرى المتوفى سنة 124 للهجرة فيدونه، ويتتابع التدوين فيه. وعلى نحو ما أخذوا فى تدوين الحديث والتفسير أخذوا فى تدوين الفقه، وخاصة تلاميذ ابن مسعود كما يلاحظ ذلك ابن قيم الجوزية، فإنهم حرّروا فتياه ومذهبه فى التشريع (2). ويذكر جولد تسيهر أن عروة (3) بن الزبير كانت له كتب فقه احترقت يوم الحرة (4). ويظهر أن عناية الشيعة بكتابة الفقه كانت قوية لاعتقادهم فى أئمتهم أنهم الهادون المهديون الذين ينبغى أن يلتزموا بفتاواهم ومن ثم عنوا بفتاوى على وأقضيته، ويظهر أن أول من ألّف فيها سليم بن قيس الهلالى معاصر الحجاج (5)، وذكر جولد تسيهر أنه يوجد فى المكتبة الأمبروزية بميلانو مختصر فى الفقه اسمه «مجموعة زيد بن على» (6).
وأخذت تدوّن منذ القرن الأول مغازى الرسول صلى الله عليه وسلم وممن عنوا
(1) انظر النوع التاسع والسبعين فى كتاب الإتقان للسيوطى.
(2)
راجع تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية لمصطفى عبد الرازق ص 192 وانظر إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية.
(3)
انظر فى ترجمة عروة تهذيب التهذيب وصفة الصفوة 2/ 47 والمعارف لابن قتيبة ص 114
(4)
انظر مادة فقه فى دائرة المعارف الإسلامية.
(5)
الفهرست ص 307.
(6)
مادة فقه فى دائرة المعارف الإسلامية.
بها عروة بن الزبير وأبان (1) بن عثمان بن عفان المتوفى سنة 105 للهجرة ووهب (2) ابن منبّه المتوفى سنة 114. وأخذت تنضم إليها مادة تاريخية إسلامية عن الفتوح وأخبار الخلفاء الراشدين وخلفاء بنى أمية وخلافة ابن الزبير ومقتل الحسين، ومن كل ذلك ألف المؤرخون المخضرمون الذين عاشوا فى العصرين الأموى والعباسى كتبهم التاريخية التى يفيض الفهرست لابن النديم فى بيان أسمائها، وعلى رأسهم محمد بن السائب الكلبى المتوفّى سنة 146. وابن إسحق المتوفى سنة 150. ومنذ أوائل العصر نجد عناية بأخبار الأمم السالفة، وتمثلت هذه العناية فى معاوية، إذ استقدم عبيد (3) بن شريّة الجرهمى اليمنى ليحدثه فى مجالسه عن أخبار ملوك العرب الماضين، وأمر معاوية بعض غلمانه بكتابة ما كان يسرده من تاريخهم، فتألف من ذلك كتابه «أخبار الأمم الماضية» وكان متداولا فى عصر المسعودى (4). وقد طبع له فى «حيدرآباد» كتاب باسم «أخبار عبيد بن شرية الجرهمى فى أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» وهو يدور فى أسلوب حوارى، إذ يسأل معاوية ويجيب عبيد، ويستهلّ بأخبار عاد ولقمان وثمود ثم يتحدث عن هجرة جرهم من اليمن وأخبار تبّع إلى زمان مملكة طسم وجديس، وتتخلله أشعار كثيرة. ومن نمطه كتاب التيجان لوهب بن منبه، وهو مطبوع معه، وهو يتحدث عن ملوك حمير والقرون الغابرة.
ولوهب كتاب يسمى «المبتدأ فى الأمم الخالية» ذكره المقدسى (5) وقال السخاوى إنه كثير الخرافات (6). وله فى الإسرائيليات كتاب نقل عنه المفسرون كثيرا، وفى مكتبة بلدية الإسكندرية كتاب ينسب إليه باسم «قصص الأنبياء» . ويلمع فى هذا الاتجاه من أخبار أهل الكتب السماوية اسم كعب (7)
(1) انظر فى ترجمة أبان المعارف ص 101 وتهذيب التهذيب والفهرست ص 45 وابن سعد 5/ 112 والنووى (طبعة وستنفلد) ص 125.
(2)
انظر ترجمته فى كتاب المعارف ص 233، 301 وطبقات ابن سعد 5/ 395 وميزان الاعتدال 3/ 278 وتهذيب ابن حجر وطبقات الحفاظ للسيوطى 1/ 17 وشذرات ابن العماد 1/ 150.
(3)
راجع فى ترجمته الفهرست ص 132 والمعمرين لأبى حاتم حاتم السجستانى ومعجم الأدباء 12/ 72.
(4)
مروج الذهب (طبعة أوربا) 4/ 89.
(5)
أحسن التقاسيم للمقدسى ص 115.
(6)
الإعلام بالتوبيخ ص 48.
(7)
انظر فى ترجمة كعب الإصابة والمعارف ص 219 وابن سعد ج 7 ق 2 ص 156.
الأحبار المتوفى سنة 32 للهجرة وكان من يهود اليمن وأسلم وقد طبع له فى القرن الماضى كتاب بمطبعة بولاق «فى حديث ذى الكفل» .
وتلقانا بجانب ذلك إشارات إلى مصنفات تاريخية وأدبية وعقيدية، من ذلك وضع زياد بن أبيه لكتاب فى المثالب (1) ووضع ابن مفرّغ الشاعر قصة تبّع وأشعاره (2) وتأليف كل من علاقة الكلابى (3) معاصر يزيد بن معاوية وصحار (4) العبدى كتابا فى الأمثال. ومن ذلك كتاب (5) فى الوصايا والحكم للمستورد بن علّفة الخارجى. ومن ذلك أيضا تصنيف وهب بن منّبه لكتاب فى القدر (6)، ويقول صاحب الفهرست إن لغيلان (7) المرجئ رسائل فى ألفى ورقة (8)، ومع أنها كانت تدور فى المواعظ (9) نؤمن بأنها حملت آراءه فى الإرجاء.
ويقول الجاحظ إن رسائل واصل بن عطاء رأس المعتزلة وخطبه كانت مدونة. (10)
ومرّ بنا فى الفصل السابق ذكر رسالتين للحسن البصرى أرسل بهما إلى الحجاح وعبد الملك يحتج لرأيه فى القدر، وهو ممن أملوا تفسيرا حمل عنه (11). ونجد يونس الكاتب يضع أول كتاب فى الغناء (12)، وقد نسب له صاحب الفهرست فيه ثلاثة كتب (13).
وفى ذلك كله ما يدل على اتساع حركة التدوين فى عصر بنى أمية، ولا نشك فى أن القوم دوّنوا جملة رسائلهم السياسية، وإلا ما استطاع الطبرى وغيره أن يرووها وكذلك قل فى رسائلهم الوعظية والشخصية فإنهم دونوا منها كثيرا ويسوق لنا صاحب الفهرست أسماء طائفة من الكتّاب البلغاء لهذا العصر كانت رسائلهم مدونة. (14) وبالمثل كانوا يدوّنون كثيرا من خطبهم، وخاصة خطب
(1) انظر الفهرست ص 131.
(2)
أغانى (ساسى) 17/ 52.
(3)
الفهرست ص 132.
(4)
نفس المصدر ص 132.
(5)
المبرد ص 578.
(6)
انظر معجم الأدباء 19/ 259.
(7)
مضت مصادر ترجمته فى الفصل الثانى من هذا الكتاب.
(8)
الفهرست ص 171.
(9)
انظر عيون الأخبار 2/ 345.
(10)
البيان والتبيين 1/ 15.
(11)
مختصر جامع بيان العلم لابن عبد البر ص 37.
(12)
انظر الأغانى (طبع دار الكتب) 4/ 398.
(13)
الفهرست ص 207.
(14)
الفهرست ص 170 وما بعدها.