الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - لبيد
(1)
من عشيرة ذات سيادة وشرف فى بنى كلاب العامريين، هى عشيرة بنى جعفر، وقد اشتهر فيها أبوه ربيعة وأعمامه الطّفيل وأبو براء ومعاوية. أما ربيعة فكان بحرا فياضا، ومن ثمّ لقّب:«ربيع المقترين» وقد قتلته بنو أسد فى بعض حروبها مع قومه. وأما الطفيل فكان فارسا مغوارا وهو أبو عامر المشهور هو الآخر بفروسيته، وكذلك كان أبو براء شجاعا مقداما وكان يلقّب بملاعب الأسنة، أما معاوية فكان ذا رأى وحكمة، فلقّب بمعوّذ الحكماء. وأم لبيد تامرة بنت زنباع العبسية.
وقد نشأ لبيد يشعر شعورا عميقا بكرامة أسرته وأمجادها ومناقبها، وبمجرد أن شبّ أخذ يشترك فى حروبها وغاراتها ووفادتها على أمراء الحيرة ويقصّ الرواة من ذلك حديثا يتصل-إن صحّ-بأول ما كان من تيقظ موهبته الشعرية وهو لا يزال حدثا، فهم يروون أن وفدا من قومه على رأسه عمه أبو براء وفد على النعمان بن المنذر، فوجد هناك وفدا من بنى عبس على رأسه الربيع بن زياد، وكان بين العبسيين وبنى عامر قبيلة لبيد عداوة منشؤها أن العامريين قتلوا زهير بن جذيمة سيد بنى عبس فى بعض حروبهم. ولم يلبث الوفدان أن اصطدما، وأخذ الربيع يدسّ على العامريين عند النعمان. وعرفوا ذلك، فاستشاط لبيد غضبا، ووثب بين يدى النعمان يهجو الربيع برجز
(1) انظر فى ترجمة لبيد ابن سلام ص 113 والشعر والشعراء 1/ 231 والأغانى (طبعة دار الكتب) 15/ 361 وطبعة الساسى 15/ 130 وطبقات ابن سعد 6/ 20 وأسد الغابة 4/ 260 والموشح ص 71 وأمالى المرتضى (طبعة الحلبى) 1/ 189 والاستيعاب ص 235 والإصابة 6/ 4 والمعمرين ص 60 والخزانة 1/ 334 وقد طبع الخالدى جزءا من ديوانه سنة 1880 ونشر هوبر جزءا آخر سنة 1887 وأضاف بروكلمان بقية طبعت فى ليدن سنة 1891 وطبع الديوان أخيرا طبعة علمية محققة اضطلع بها إحسان عباس ونشرت فى الكويت سنة 1962.
مقذع، فانصرف النعمان عن الربيع وأجزل فى إكرامه للعامريين. وسواء أصحّ هذا الخبر أو لم يصح فإن لبيدا أخذ منذ سال الشعر على لسانه ينظمه فى الفخر بعشيرته والاعتداد بها اعتدادا بالغا. ويقال إنه كان يكتمه فى أول الأمر. حتى إذا نظم معلقته:«عفت الديار محلّها فمقامها» أخذ يظهره، وأخذ اسمه يطير فى القبائل. ولما سارت الركبان بأمر الرسول فى المدينة ورسالته النبوية أرسله عمه أبو براء برسالة إليه (1)، فوقع الإيمان فى قلبه، إلا أنه لم يعلن إسلامه حينئذ. وعاد إلى قبيلته، حتى إذا استدار العام خرج مع وفد منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا دخولهم فى دين الله. وكان ابن عمه عامر بن الطفيل وأخوه أربد وفدا على الرسول قبل ذلك يريدان به شرّا فعصمه الله. ودعا عليهما، فلم يلبث عامر أن أصابه طاعون فى عنقه فقتله، أما أربد فنزلت عليه صاعقة من السماء أهلكته، وظل لبيد بعد إسلامه يبكيه بكاء حارّا.
ورجع لبيد بعد إعلانه إسلامه إلى قبيلته يذكر لهم البعث والجنة والنار ويقرأ لهم القرآن، وما زال بينهم حتى خطّ عمر الكوفة فنزلها وأقام بها إلى أن توفّاه الله فى صدر خلافة معاوية سنة أربعين للهجرة. ويقول الرواة إنه شغل نفسه حينئذ بالقرآن وتلاوته ولم ينظم الشعر إلا قليلا، ويصوّرون ذلك فيقولون إن عمر أرسل إلى المغيرة بن شعبة واليه على الكوفة: أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا فى الإسلام، فلما سأل لبيدا عن شعره انطلق فكتب سورة البقرة فى صحيفة؛ ثم أتاه بها. وقال: أبدلنى الله هذه فى الإسلام مكان الشعر، فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فأمر أن يزيد عطاءه خمسمائة وكان ألفين.
ويمضى الرواة فيزعمون إنه لم يقل فى الإسلام إلا بيتا واحدا ويختلفون فيه (2)، فمن قائل هو قوله:
الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى
…
حتى كسانى من الإسلام سر بالا
(1) أغانى (طبعة الساسى) 15/ 131.
(2)
الشعر والشعراء 1/ 232 والأغانى (طبعة دار الكتب) 15/ 369 وانظر الاستيعاب ص 235 حيث يذكر بيتا ثالثا.
ومن قائل، بل هو قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح
والحق أن له أشعارا كثيرة تفيض بمعانى الإسلام ومثاليته الروحية، بحيث يمكن أن نقسم شعره قسمين: قسما جاهليّا وقسما إسلاميّا.
وهو فى القسم الجاهلى لا يخرج إلى مديح أو هجاء، بل يمضى مفاخرا فخرا عنيفا بآبائه وفتوته معتدّا اعتدادا لا حدّ له بالأقربين من أسرته، ومن ثمّ وقف مع ابن عمه عامر بن الطفيل ضد علقمة بن علاثة حين تفاخرا إلى هرم بن قطبة الفزارى (1) واقرأ فيه فستجده دائما فى هذا القسم مفاخرا بقومه وشجاعتهم وبلائهم فى الحروب وما لهم من مناقب جليلة حتى إذا أفضى إلى نفسه تحدث عن شمائله وتجشّمه لسرى الليل بأصحابه وفتوته وكيف يسقى الخمر لداته، وكيف يقامر ليطعم الجائع المحروم. وكثيرا ما يهجم فى قصائده على هذا الفخر، وقد يقدم لذلك بمقدمات، على نحو ما صنع فى معلقته، إذ بدأها بذكر الديار وذكر الأحبة الظاعنين، ثم مضى يصف اقتحامه للصحراء على ناقته، وسرعان ما شبهها بأتان وحشية، استرسل فى الحديث عنها وعن حمار كان يصاحبها ويلاعبها. وخرج من ذلك إلى تشبيهه لها ببقرة وحشية مذعورة لفقد طفلها، ويسترسل فى وصف تعقب الرماة لها وإرسالهم جوارح الكلاب عليها، ويخلص إلى الفخر بكرمه وبسالته ومنادمته لرفاقه. ويفخر بقومه وكثرة سادتهم وما سنّه لهم آباؤهم، يقول:
إنا إذا التقت المجامع لم يزل
…
منا لزاز عظيمة جشّامها (2)
ومقسّم يعطى العشيرة حقّها
…
ومغذمر لحقوقها هضّامها (3)
فضلا، وذو كرم يعين على النّدى
…
سمح كسوب رغائب غنّامها
(1) أغانى (ساسى) 15/ 52.
(2)
اللزاز: الملازم للشئ، جشامها: من التجشم وهو ركوب الخطر.
(3)
مغذمر لا يعطى. هضام هنا: يعطى قوما ويحرم آخرين.
من معشر سنّت لهم آباؤهم
…
ولكل قوم سنّة وإمامها
فبنوا لنا بيتا رفيعا سمكه
…
فسما إليه كهلها وغلامها
فاقنع بما قسم المليك فإنّما
…
قسم الخلائق بيننا علاّمها
وشعره الجاهلى دائما على هذه الوتيرة من الحديث عن مناقب آبائه ومفاخره ووصف راحلته وتشبيهها بالأتان المتوجسة والبقرة المسبوعة أو النعامة الخائفة، وقد يتحدث عن المطر. وهو فى ذلك كله يتميز بالإغراب الشديد فى لفظه، حتى ليمسّ قارئه شئ من الضجر لكثرة ما يورد من أوابد الألفاظ وحوشيّها.
واقرأ ما لم نروه من المعلقة قبل هذه الأبيات التى أنشدناها فإنك ستجده مفرغا فى ألفاظ متناهية فى الإغراب، ومن ثمّ وصف شعره أبو عمرو بن العلاء فقال:
إنه رحى بزر (1)، يريد أنه خشن لا يحسن فى السمع، وقال الأصمعى، شعر لبيد كأنه طيلسان طبرانىّ أى أنه محكم الصنعة ولا رونق له.
وإذا انتقلنا من هذا القسم إلى شعره الإسلامى وجدنا قراءته للقرآن الكريم تهذّب من لفظه وتدخل عليه غير قليل من الطّلاوة، ومن ثمّ يقول فيه ابن سلاّم:«كان عذب المنطق رقيق حواشى الكلام، وكان مسلما رجل صدق» ويتضح ذلك فى مراثيه المشهورة لأخيه أربد، فإن لألفاظها ماء ورونقا وفى معانيها من الإسلام أصداء وظلالا، وارجع إلى عينيته فستجد جمال السبك والصياغة، وستجد الروح الإسلامية ماثلة فى تضاعيف أبياتها على شاكلة قوله (2):
بلينا وما تبلى النّجوم الطّوالع
…
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع (3)
فلا جزع إن فرّق الدهر بيننا
…
وكل فتى يوما به الدهر فاجع
وما الناس إلا كالديار وأهلها
…
بها يوم حلّوها، وغدوا بلاقع (4)
(1) الموشح للمرزبانى ص 71.
(2)
الديوان بتحقيق إحسان عباس ص 168.
(3)
المصانع: الأبنية الضخمة.
(4)
بلاقع: جمع بلقع وهو الأرض القفر. وغدوا: غدا.
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
…
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (1)
وما البرّ إلا مضمرات من التّقى
…
وما المال إلا عاريات ودائع
وليس كل ما حدث من انقلاب فى شعره الإسلامى أنه انتقل من الألفاظ الحوشية إلى الديباجة الطلية، فقد تغلغل الإسلام فى ضميره، فاتجه فى أشعاره إلى ربه منيبا إليه، والوجل يملأ نفسه من يوم الحساب الذى ينتظره، يقول فى قصيدة له (2):
إنما يحفظ التّقى الأبرار
…
وإلى الله يستقرّ القرار
وإلى الله ترجعون وعند الل
…
هـ ورد الأمور والإصدار
كلّ شئ أحصى كتابا وعلما
…
ولديه تجلّت الأسرار
إن يكن فى الحياة خير فقد أن
…
ظرت لو كان ينفع الإنظار (3)
عشت دهرا ولا يدوم على الأيّ
…
ام إلا يرمرم وتعار (4)
فإنك تجده يتحدث عن التقوى والأبرار والعمل الصالح وأن الناس معروضون على الله يوم القيامة وقد أحصى كل شئ فى كتاب وأن الموت حق لا شك فيه وأن على كل إنسان أن يفكر فى مصيره. ويمضى فى طائفة غير قليلة من أشعاره يعظ من حوله بما أهلك الله من الأمم الخالية مخوّفا من الموت ويوم الحساب، وداعيا إلى التقوى والعمل الصالح، ومهونا من الدنيا ومتاعها الزائل ونعيمها الفانى، على نحو ما نرى فى لاميته التى نؤمن بأنه نظمها فى الإسلام، وفيها يقول (5):
ألا كلّ شئ ما خلا الله باطل
…
وكلّ نعيم لا محالة زائل
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم
…
دويهية تصفرّ منها الأنامل (6)
(1) يحور: يصير.
(2)
ديوان لبيد ص 41 والحيوان 7/ 163.
(3)
الإنظار: التأخير.
(4)
يرمرم وتعار: جبلان فى نجد.
(5)
الديوان ص 256 والشعر والشعراء 1/ 237 والطبرى 5/ 28.
(6)
يريد بالدويهية الموت.
وهو فى البيت الأول يستمد من مثل قوله تعالى: {(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)} ويستمد فى البيت الثانى من مثل قوله جلّ وعز:
{(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)} أما البيت الثالث فاستمدّه مباشرة من قوله تبارك وتعالى عن الإنسان وما ينتظره من البعث والحساب: {(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ).} واسترسل فى القصيدة يتحدث عن النعمان بن المنذر وملكه وأجناده وكيف بادوا جميعا مما جعل القدماء يظنون أنه نظمها فى رثائه (1) وفى الواقع كان يتحدث عن عظة الموت وكيف يأتى على الملوك والأمم، ومن ثمّ مضى يتحدث عن الغساسنة وأصحاب الرّسّ وكيف أمسى كل ما كانوا فيه أحلاما. وعلى هذا النمط نفسه لامية أخرى يستهلها بقوله (2):
لله نافلة الأجلّ الأفضل
…
وله العلا وأثيث كل مؤثّل (3)
لا يستطيع الناس محو كتابه
…
أنّى وليس قضاؤه بمبدّل
وهو فى هذا المطلع يستلهم الذكر الحكيم وما فيه من أوصاف الذات العلية، وأن كل ما يجرى فى الكون بقضائه وأن كل ما يأتى من عمل فى كتاب مبين، وأن كلا سيجزى بما سجّل عليه كتابه، يقول سبحانه:{(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً)} {(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)} {(وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).}
ويمضى لبيد فى القصيدة فيتحدث عن خلق السموات والأرض وما أصاب بعض العماليق ولقمان ونسره وأبرهة وأمراء المناذرة والغساسنة من ريب الزمان. ومن هذه الشاكلة نفسها موعظته (4):
من يبسط الله عليه إصبعا
…
بالخير والشر بأىّ أولعا (5)
يملأ له منه ذنوبا مترعا
…
وقد أباد إرما وتبّعا (6)
والحق أن تلاوته للقرآن التى اشتهر بها أثّرت فى نفسه آثارا عميقة. وقد يكون الرواة تزيدوا فى بعض هذه الأشعار ولكن كثرة ما ينسب إليه منها يدل على أن
(1) انظر الديوان ص 254.
(2)
الديوان ص 271.
(3)
أثيث: موطأ عظيم. مؤثل: مؤصل، ويوصف به الملك والمجد.
(4)
الديوان ص 337.
(5)
الإصبع: الأثر الحسن
(6)
ذنوبا مترعا: دلوا مملوعا.