الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمتى رأى شاعرا مدح النبى صلى الله عليه وسلم فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس، حتى يزعم هو أن ناسا يعيبونه ويثلبونه ويعنّفونه (1)».
ويقول المرتضى إن ظاهر الخطاب للنبى والمقصود أهل بيته (2). وقد مضى الكميت يناضل عن إمامه مؤيدا مقالته إلى أن رأى الخروج، فقعد عن نصرته، وفى هاشمياته ما يدل على أنه كان يكره الخروج ولا يراه، من مثل قوله:
تجود لهم نفسى بما دون وثبة
…
تظلّ لها الغربان حولى تحجل
وخرج زيد وقتل، فجزع الكميت، وذهب يبكيه معلنا سخطه على الأمويين وعاملهم يوسف الثقفى محمّسا الناس أن ينفضّوا عنه وعنهم. وضيّق عليه يوسف الخناق، وظلّ يتحين له الفرص، حتى إذا وفد عليه مادحا سنة 126 للهجرة يريد أن يستلّ ضغنه دسّ إليه من قتله.
4 - شعراء ثورة ابن الأشعث
مرّ بنا فى حديثنا عن الكوفة أن أشرافها كانوا يضطغنون على بنى أمية منذ قوّضوا دولتها، واتخذوا دمشق حاضرة للخلافة، بل لقد كان العراقيون جميعا يشعرون بهذا الضغن والحقد، سواء منهم الكوفيون وغير الكوفيين، فإنهم فقدوا السيادة، وأصبحوا خاضعين لعرب الشام، ولم يعد لهم من الأمر شئ.
وسلّط عليهم الأمويون ولاة يعنفون بهم عنفا شديدا، وكان ذلك يزيد فى حقدهم وألمهم، فتعلقوا بكل ثائر على الأمويين. وسرعان ما كانت جيوش أهل الشام تغلب عليهم، فيخضعون على مضض، ويمضون منتظرين للحوادث.
ويتولى؟ ؟ ؟ يأخذهم بسياسة قاسية لا رحمة فيها ولا شفقة، ويحسّ كثير منهم، وخاصة أشرافهم أنه يستذلهم، فيأنفون لأنفسهم أنفة شديدة،
(1) البيان والتبيين 2/ 239.
(2)
أمالى المرتضى 2/ 80.
ويودون لو استطاعوا نقض هذا الضيم والخلوص من هذا الذل. وكان ممن تجسّدت فيه هذه المشاعر من أشراف الكوفة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الذى يرجع فى نسبه إلى ملوك كندة الأقدمين، وكان من أشد العرب إحساسا بشرفه وإعجابا بنفسه وتيها وخيلاء. وواتته الفرصة كى يقود هذه الثورة التى كانت تغلوبها نفوس الأشراف فى الكوفة، ذلك أن عبيد الله بن أبى بكرة عامل سجستان أخفق فى حملة قادها إلى زنبيل ملك الترك، إذ استدرجه إلى داخل بلاده ثم أطبق عليه فنكل بجيشه حتى يقال إنه مات كمدا.
وفكر الحجاج فى قائد محنك يوليه سجستان، ويقود الحرب فيها، وهداه تفكيره إلى عبد الرحمن، وكان فى كرمان، فأمده بجيش عظيم كان يسمى «جيش الطواويس، لتمام أهبته وعدّته. والتقى بجيوش الترك وانتصر عليها انتصارات عظيمة ملأت يده بالغنائم، غير أنه رأى-خشية على جيشه-أن لا يتوغل وراء الترك، حتى لا يصنعوا به ما صنعوه بابن أبى بكرة. ولم يكد يعرف الحجاج ذلك حتى كتب إليه يتهمه بالخور والضعف، وهدّده إن لم يمض فى القتال بعزله. فثار عبد الرحمن لكرامته، وجمع قادة الجيش، وحدّثهم بكتب الحجاج وكانوا مثله ينطوون على بغضه، ويتمنون لو عادوا إلى أهليهم، فأظهروا الثورة عليه، وقالوا إنه لا يبالى بموتنا، ويريد أن يعرّضنا للخطر، حتى نسوق له ولخليفته الغنائم. ولم يلبثوا أن بايعوا عبد الرحمن، وصمموا على حرب الحجاج حتى يخرج من العراق.
ووادع عبد الرحمن ملك الترك وعاهده أنه إن ظفر بالحجاج لم يسأله خراجا أبدا، وإن هزمه الحجاج لجأ وأصحابه إليه، فمنعهم. واتجه بجيشه إلى العراق، وانضم إليه فى طريقه كثير من جند الكوفة والبصرة المقيمين بحاميات الأمصار، ولما صار فى فارس خلع عبد الملك بن مروان وخلعه جنده، وبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقبل الجيش «مثل السيل المنحطّ من عل، ليس يرده شئ حتى ينتهى إلى قراره» وأعشى همدان وأبو جلدة اليشكرى فى مقدمته يثيران الناس ويحمّسانهم للقاء الحجاج ومن يستعين بهم من عرب الشام، الذين نزلوا منازلهم وحلّوا دورهم بينما أخرجوا منها
للحرب والموت فى سجستان وخراسان على نحو ما نرى فى قول أبى جلدة (1):
أيا لهفى ويا حزنى جميعا
…
ويا غمّ الفؤاد لما لقينا
تركنا الدّين والدّنيا جميعا
…
وخلّينا الحلائل والبنينا (2)
فما كنا أناسا أهل دين
…
فنصبر للبلاء إذا بلينا
ولا كنا أناسا أهل دنيا
…
فنمنعها وإن لم نرج دينا
تركنا دورنا لطغام عكّ
…
وأنباط القرى والأشعرينا (3)
وتقدّم الحجاج بجيشه، فالتقى بجيش ابن الأشعث على نهر دجيل فى ذى الحجة سنة 81 وانتصر ابن الأشعث وتقدم بجنوده، فاستولى على البصرة، ومضى الحجاج فنزل بجيشه فى ضاحية من ضواحيها تسمى الزاوية، وحدثت فيها بين الطرفين معركة عنيفة كان فيها أبو جلدة يحرض على قتال الحجاج بمثل قوله (4):
نحن جلبنا الخيل من زرنجا
…
مالك يا حجّاج منا منجى (5)
لتبعجنّ بالسيوف بعجا
…
أو لتفرّنّ فذاك أحجى (6)
وما زال أبو جلدة يحمس الجنود ويبث الغيرة فيهم لنسائهم، حتى شدّوا على عسكر الحجاج شدة ضعضعته، وثبت الحجاج وصاح بأهل الشام، فتراجعوا وثبتوا، وكانت الدائرة له. وانسحب ابن الأشعث بمن معه إلى الكوفة وهناك حدثت بينه وبين الحجاج موقعة دير الجماجم، وفيها هزم هزيمة ساحقة.
ولم يلبث أن جمع للحجاج جموعا جديدة، والتقى به فى «مسكن» فحالفته الهزيمة، فولّى وجهه نحو المشرق إلى أن وصل إلى سجستان، فالتجأ إلى زنبيل، وبعد محاولات منه لرجع سلطانه أسلمه الزنبيل لجيوش الحجاج، وقطعت رأسه، وقيل بل مات انتحارا. ويلقانا بجانب أبى جلدة شعراء كثيرون لجّوا فى هذه الثورة لعل أهمهم أعشى همدان، وهو بحق يعد شاعر هذه الثورة.
(1) مرت فى الفصل السالف مصادر ترجمته وانظر فى الأبيات أغانى (دار الكتب) 11/ 312
(2)
الحلائل: الزوجات.
(3)
الطغام: الأوغاد. وعك: من قبائل الشام اليمنية. ومثلها الأشعر قبيلة يمنية. وسمأهم أنباطا يريد أنهم ليسوا بدوا، فهم فلاحون.
(4)
أغانى 11/ 312.
(5)
زرنج: قصبة سجستان.
(6)
البعج: الشق. أحجى: أخلق وأجدر