الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
النثر وتطوره
1 - تطور الخطابة
كان ظهور الإسلام إيذانا بتطور واسع فى الخطابة، إذ اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم أداة للدعوة إلى الدين الحنيف طوال مقامه بمكة قبل الهجرة حيث ظل ثلاثة عشر عاما يعرض على قومه من قريش وكلّ من يلقاه فى الأسواق آيات القرآن الكريم، وهو فى أثناء ذلك بخطب فى الناس داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، محاولا بكل طاقته أن يوقظ ضميرهم بما يصوّر لهم من قوة الكائن الأعلى مدبّر الكون ومنظمه، الذى لم يخلقهم عبثا، وإنما خلقهم ليعبدوه حق عبادته، وليستشعروا كل ما يمكن من الكمالات الروحية والاجتماعية والإنسانية، حتى تتم لهم السعادة فى الدنيا والآخرة.
وهاجر الرسول صلوات الله عليه إلى المدينة، فاتصلت خطابته، واتسعت جنباتها، بما أخذ يشرّع للمسلمين ويرسم لهم من حدود دولتهم ونظم حياتهم التى ينبغى أن تقوم على الإخاء والمساواة والتعاون فى سبيل الحق والخير، وهو فى تضاعيف ذلك يأخذهم بآداب رفيعة من السلوك السامى، مبينا لهم معانى الإسلام الروحية التى تقوم على معرفة الله الواحد الأحد والصلة به، كما تقوم على معرفة العمل الصالح وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى يحاسب فيها الإنسان على ما قدّمت يداه ولو كان مثقال ذرّة. وما يزال يعرض أوامر الدين ونواهيه، واضعا الحلول لكثير من المشاكل الدنيوية، كمشكلة الرقيق ومشكلة توزيع الثروة ومشكلة العلاقات بين الرجل والمرأة، وغير ذلك من مشاكل حلّت بما يحقق سعادة الجنس البشرى وهناءته.
وعلى هذا النحو كانت خطابة الرسول عليه السلام متممة للذكر الحكيم، ومن ثمّ كانت فرضا مكتوبا فى صلاة الجمع والأعياد ثم مواسم الحج، وتحتفظ كتب الحديث بما اتخذه فيها من سنن وتقاليد (1) ثبتت إلى اليوم. وبينما كانت تسبق الخطابة الصلاة فى الجمع كانت الصلاة تسبقها فى الأعياد، وهى تتوزع على خطبتين يقف فيهما الخطيب على منبر أو نثز من الأرض، وقد اعتمد على قوس أو سيف أو عصا، ويقبل على الناس مسلّما. وتبدأ الخطبة الأولى فى الجمع بحمد الله تعالى وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله، ويؤثر عن الرسول أنه كان يقول فى فاتحة هذه الخطبة:«الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل الله فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» (2). وعادة يتلو الخطيب فى الخطبة الأولى لصلاة الجمعة بعض آى القرآن الكريم، حتى يستلهمها فى موعظته. وإذا انتهى منها جلس، ثم يقوم للخطبة الثانية، وفيها يكثر من الدعاء، ويقال إنه كان آخر دعاء أبى بكر فى الخطبة الثانية:
«اللهم اجعل خير زمانى آخره، وخير عملى خواتمه، وخير أيامى يوم لقائك» وكان آخر دعاء عمر: «اللهم لا تدعنى فى غمرة، ولا تأخذنى فى غرّة، ولا تجعلنى مع الغافلين» (3). ولا تفتتح خطبتا العيدين بالحمد لله إنما تفتتح بالتكبير، فيكبّر الخطيب فى أولاهما سبع تكبيرات وفى ثانيتهما خمس تكبيرات.
وطبيعى أن تقضى هذه الخطابة على كل لون قديم من الخطابة الجاهلية لا يتفق وروح الإسلام، ولا نقصد سجع الكهّان الذى كان يرتبط بدينهم الوثنى فحسب، بل نقصد أيضا خطابة المنافرات، فقد نهى الإسلام عن التكاثر بالآباء والأنساب والأحساب، وإن ظلت لذلك بقية فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حين كانت تفد عليه وفود العرب، على نحو ما نعرف عن وفد تميم وقيام خطيبهم عطارد بن حاجب بن زرارة بين يديه مفاخرا بقومه،
(1) انظر فى صلاة الجمع والعيدين كتب الحديث مثل صحيح البخارى ومسلم.
(2)
عيون الأخبار 2/ 231.
(3)
انظر العقد الفريد 3/ 222.
وقد ندب له الرسول ثابت بن قيس بن الشماس، فرد عليه مستوحيا هدى الإسلام، ولم يلبثوا أن استجابوا لله ولرسوله (1).
ونمضى فى عصر الخلفاء الراشدين، فتكثر بجانب خطب الجمع والأعياد المواقف التى تجلت فيها براعة هؤلاء؟ ؟ ؟ ، كموقف أبى بكر حين انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وموقفه يوم السقيفة، فقد درأ فى الموقفين جميعا الشّعث الذى كاد يودى بالجماعة، وكذلك موقفه حين ارتدّ كثير من العرب وامتنعوا عن أداء الزكاة. وكم من خطيب وقف حينذاك يحضّ قومه على الثورة أو يحثهم على الطاعة. ولا بد أن نلاحظ أن انتشار الإسلام فى الجزيرة أعدّ منذ أول الأمر إلى أن تتكاثر خطب الجمع والأعياد، إذ كانت كما قدّمنا فرضا مكتوبا على المسلمين فى كل مكان يحلّونه من الجزيزة.
ثم تكون الفتوح، ويخطب أبو بكر فى الجيوش الغازية يحضّ على الجهاد ونشر الدين الحنيف فى أطباق الأرض. وترتفع أصوات القواد بالخطابة فى كل قطر حاثّين الجنود على الصبر فى القتال حتى الاستشهاد طلبا لما عند الله من الثواب. ويخيل إلى الإنسان كأنما ملك كل منهم من قلوب جنوده ببيانه وبلاغته مالا تملكه الدنيا بحذافيرها. ولا نغلو إذا قلنا إن بلدا من بلدان الفرس فى العراق وإيران وبلدان الروم فى الشام ومصر لم يفتح إلا بعد أن فتحته خطبة أحد هؤلاء القواد، كخطبة المغيرة بن شعبة فى القادسية (2) وخالد بن الوليد فى اليرموك (3)، وعتبة بن غزوان فى فتح الأبلّة، ونحن نكتفى بقطعة من خطبة عتبة إذ يقول (4):
ويتولى عمر، فيكثر من الخطابة لا فى الجمع والأعياد ومواسم الحج فحسب بل مع كل حادث، ومع كل خبر يأتيه بفتح. وقد سار على هدى أبى بكر
(1) تاريخ الطبرى 2/ 378.
(2)
الطبرى 3/ 37.
(3)
الطبرى 2/ 592.
(4)
البيان والتبيين 2/ 57.
(5)
حذاء: سريعة الإدبار.
(6)
يصطبها: يشربها. والصبابة. بقية الماء.
فى استشارة أصحابه فى كل مهمّ، وكل ما يجدّ من تشريع، وخاصة فى معاملة الأمم المفتوحة. وكان هذا بدوره عاملا من عوامل نمو الخطابة فى العصر.
إذ كان الحكم ديمقراطيّا، وكان من حق كل شخص أن يخطب مصوّرا وجهة نظره. وفسح عمر لخطابة الوفود فى مجالسه، تستميح لأقوامها وتذكر حاجتها، واشتهر الأحنف بن قيس سيد تميم وأحد قواد الفتوح بغير خطبة ألقاها بين يديه (1).
ولم تقف الخطابة الدينية فى هذا العصر عند الجزيرة. فقد أخذت تحلّ مع المسمين فى كل بلد فتحوها، وكان هذا بدون شك عاملا من عوامل نموها، إذ تكاثر من يردّدونها ومن يحسنون حوكها وصياغتها مستلهمين القرآن الكريم وخطابة الرسول فيما يعظون الناس به من مواعظ حسنة، على نحو ما أثر عن عبد الله بن مسعود فى إحدى مواعظه، وفيها يقول لأهل الكوفة (2):
«أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملّة إبراهيم، وأحسن السّنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وخير الأمور عزائمها، ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى. . . خير الغنى غنى النفس. الخمر جمّاع الآثام. . . أعظم الخطايا اللسان الكذوب.
سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية. . . مكتوب فى ديوان المحسنين من عفا عفى عنه. السعيد من وعظ بغيره. . . أحسن الهدى هدى الأنبياء».
وفى هذين الاتجاهين الكبيرين من المواعظ والحضّ على الجهاد مضت الخطابة طوال عصر عمر والسنوات الأولى من خلافة عثمان، حتى إذا أشعل الثوار عليه فى الكوفة ومصر نار الفتنة أخذت الخطابة فيها مكانها، إذ وقف أمثال الاشتر النخعى فى الكوفة ومحمد بن أبى بكر فى مصر يؤلبون الناس عليه. وتتوالى الحوادث، ويقتل عثمان، ويتولّى على بن أبى طالب مقاليد الخلافة، وتجتمع السيدة عائشة وطلحة والزبير، ويقررون الخروج عليه. ويقصدون البصرة، ويستجيب أهلها لهم. فيضطرّ على إلى أن يتبعهم، وينزل الكوفة، وتكون موقعة الجمل
(1) انظر البيان والتبيين 2/ 144.
(2)
البيان والتبيين 2/ 56.
المشهورة، وفيها ينتصر علىّ، وتتم له بيعة أهل العراق.
وقبيل هذه الموقعة وفى أثنائها تكثر الخطب بين أنصار على وخصومه، فهؤلاء يدعون إلى طاعته وأولئك يدعون إلى منابذته، وفى تاريخ الطبرى من هذه الخطب كثرة وافرة، وممن يذكرهم بين من ثبّطوا الناس عنه أبو موسى الأشعرى (1)، أما من استنفروا الناس له فكثيرون، وعلى رأسهم الأشعث ابن قيس والأشتر النخعى وزيد بن صوحان وأخوه سيحان.
وانتدب علىّ أهل العراق لقتال معاوية وأهل الشام، فخرجوا معه إلى صفّين على حدود الفرات حيث التقوا بمعاوية وجنوده، وفى هذه الأثناء تتكاثر الخطب كثرة مفرطة وخاصة فى صفوف على وأصحابه، وكان هو نفسه خطيبا مفوّها. وكان بجيشه غير خطيب من أمثال من ذكرناهم آنفا وأمثال عمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة وعدى بن حاتم الطائى وعمرو بن الحمق وشبث بن ربعىّ. وقبل اندلاع الحرب كان يتبادل على ومعاوية الوفود، وكان يخطب غير واحد بين أيديهما، وعبثا تحاول الوفود لمّ الشعث، ويقضى الأمر، وتنشب الحرب ويخطب معاوية محرضا أصحابه. ومن رءوس خطبائه حينئذ عمرو بن العاص.
وتستعر المعركة وترجح كفة على وجيشه رجحانا واضحا، فيلجأ معاوية وأهل الشام إلى الخديعة، إذ يرفعون المصاحف على أسنّة رماحهم، مطالبين بالاحتكام إلى كتاب الله على يد محكّمين يستهدون بآيه. ويغمد القرّاء فى جيش علىّ سيوفهم، ويتبعهم الناس، ويمانعهم على، فيهددونه بأن يصبح مصيره مصير عثمان، وينزل على إرادتهم، ويختار أبو موسى الأشعرى عن أهل العراق وعمرو بن العاص عن أهل الشام. وفى أثناء رجوع على بجيوشه إلى الكوفة، يتبين كثير من جنده أنهم قد خدعوا، ويتلوّمون عليّا لأنه قبل التحكيم، ويعظم الخلاف والشجار بين أصحابه، ويخطب فيهم. ويتكاثر الخطباء بين محبّذ للتحكيم ومنفّر منه، ويخرج عليه فريق كبير من جيشه وينزلون معسكرا خاصّا بهم فى حر وراء بالقرب من الكوفة، فيسمون لذلك بالحرورية، أما الاسم الشامل الذى جمعهم فهو الخوارج.
(1) الطبرى 3/ 501.
ويحاول علىّ وعبد الله بن العباس أن يردّاهم إلى سواء السبيل، فتقوم بينهما وبينهم مناظرات فى مسألة التحكيم يكون عمادها الجدل المستمدّ من نصوص القرآن والحديث، وبذلك يعرف هذا العصر المناظرة الشفوية، بل إنها لتتفجّر تفجرا. ونحن نورد طرفا من مناظرة ابن عباس لهم مما احتفظ به الطبرى، وهو يجرى على هذه الصورة (1):
«راجعهم ابن عباس، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: {(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)} (2) فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ . فقالت الخوارج: قلنا أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمر بالنظر فيه والإصلاح له فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم فى الزانى بمائة جلدة وفى السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا فى هذا. قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: {(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» } (3). فقالوا له: أو تجعل الحكم فى الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم فى دماء المسلمين؟ ! . وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا فإن كان عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل حربه، وقد حكّمتم فى أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه فى معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا (4) وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عز وجل فأبوه. ثم كتبتم بينكم وبينه كتابا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة (5). وقد قطع عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقرّ بالجزية».
ولما لم يسمع الخوارج ولم يطيعوا اضطرّ علىّ إلى حربهم، وفتك بهم فتكا ذريعا فى موقعة النهروان. وكانوا يظهرون استبسالا شديدا، يدفعهم إلى ذلك
(1) الطبرى 4/ 47.
(2)
الآية فى الصلح بين الزوجين وتمامها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما).
(3)
الآية فى حكم قاتل الصيد وهو محرم، وتمامها: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ).
(4)
يشير الخوارج إلى قوله تعالى: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ).
(5)
الاستفاضة: الموادعة.
خطباؤهم من أمثال قائدهم عبد الله بن وهب الراسبى. وحرقوص بن زهير السعدى والمستورد بن علّفة، ومن يرجع إلى خطبهم يجدها تتقد حماسة وحميّة من مثل قول ابن وهب فى بعض خطبه (1):
وينتهى التحكيم بمهزلة خلع على، وتمتد يد آثمة من أيدى الخوارج إليه فى الظلام، فتطعنه طعنة نجلاء، ويسلم الحسن ابنه الأمر راضيا إلى معاوية، ويبايعه المسلمون كافة.
وأكبر الظن أنه قد اتضح من كل ما قدمنا كيف نمت الخطابة فى هذا العصر نموّا واسعا، بتأثير الإسلام من جهة وتكاثر الأحداث وتتابعها من جهة ثانية. وليس هذا كل ما يلاحظ فيها، فقد دارت حول معانى القرآن الكريم وخطابة الرسول وأحاديثه؛ وهى معان جديدة لم يكن للعربية بها عهد، معانى هذا الدين الحنيف الذى بعث لغتنا ونشرها بعثا جديدا، والذى مرّنها وذلّلها لكى تؤدى الرسالة النبوية وكل ما تحمل من مواعظ وتعاليم. وقد أخذ كل خطيب يحمل قبسا من هذه التعاليم والمواعظ يستضئ به فى كل ما يخاطب به الناس ابتغاء التأثير عليهم وبلوغ ما يريد من أداء الخطبة الدينية الخالصة فى أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج وأختها التى تدعو إلى الجهاد والحضّ على قتال الأعداء. ولعله من أجل ذلك أصبح التحميد سنّة فى كل خطبة، حتى الخطبة السياسية، وكانوا يسمّون كل خطبة تخلو منه بتراء، كما كانوا يسمون كل خطبة تخلو من اقتباس آى القرآن الكريم والصلاة على الرسول شوهاء (4).
(1) الطبرى 4/ 54.
(2)
تبار: هلاك.
(3)
من: قطع وهجر.
(4)
البيان والتبيين 2/ 6.
وهناك أخبار كثيرة تدل على أن الخطباء كانوا يزوّرون كلامهم ويعدونه على أنفسهم إعدادا طويلا، ثم يلّقونه على الناس، حتى لقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب (1). وكان الخطيب يستشهد أحيانا ببعض الأمثال، أو ببعض أبيات من الشعر تؤكد المعنى الذى يريد أن يصبّه فى نفوس سامعيه صبّا، على نحو ما نجد فى خطبة لأبى بكر فى الأنصار (2).
وإذا كنا قد لاحظنا فى الجزء الأول من هذا التأريخ للأدب العربى غلبة السجع على خطباء الجاهلية فإننا نلاحظ فى هذا العصر أنه كاد ينحسر تماما عن الخطابة، إلا بقايا ظلت فى خطابة الوفود حين كانت تقدم على الخلفاء.
يقول الجاحظ: «كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فتكون فى تلك الخطب أسجاع كثيرة» (3)، وبقية أخرى استظهرها بعض المتنبئة فى حروب الردة مثل مسيلمة الكذاب متنبئ اليمامة، ويقول الجاحظ إنه «عدا على القرآن فسلبه وأخذ بعضه وتعاطى أن يقارنه» (4). ومما يروى له-إن صحّ- قوله (5):
ونستطيع أن نقول إن السجع فى خطابة هذا العصر كان شيئا عارضا، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسجع فى خطابته، وكان ينفر منه حين يلهج به أحد محدثيه (6)، كراهية للتشبه بالكهّان فى سجعهم، وسار على هديه الخلفاء الراشدون وغيرهم من جلّة الصحابة، يدلّ على ذلك ما يروى من أن عمر بن الخطاب سأل صحارا العبدى حين قدم عليه من غزو مكران الفارسية عن شأنها وشأن العرب هناك، فأجابه: «أرض سهلها جبل، وماؤها وشل (7)
(1) الطبرى 2/ 456 وقارن بكلمة لعثمان ابن عفان فى البيان والتبيين 1/ 345 وعيون الأخبار 2/ 235.
(2)
زهر الآداب 1/ 32
(3)
البيان والتبيين 1/ 290.
(4)
الحيوان 4/ 89.
(5)
الطبرى 2/ 498.
(6)
صحيح مسلم (طبع الآستانة) 5/ 111 وموطا مالك (طبع حجر بالقاهرة) 2/ 192.
(7)
وشل: قليل.