الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويذكى جذوة شجاعتهم وبسالتهم، ومن خير ما يمثّل ذلك خطبة قتيبة بن مسلم الباهلى وقد تهيأ لغزو طخارستان سنة 86 للهجرة وفيها يقول (1):
«وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال:{(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)} ووعد المجاهدين فى سبيله أحسن الثواب وأعظم الذّخر عنده، فقال:
{(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)} وأخبر عمن قتل فى سبيله أنه حىّ مرزوق فقال: {(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)} فتنجّزوا موعود ربكم».
واشتهر فى خراسان بعد قتيبة غير قائد بالخطابة مثل أسد القسرى ونصر ابن سيّار، ويلقانا فى الغرب طارق بن زياد فاتح الأندلس، وخطبته فى جنده حين دخلها مشهورة (2)، ولعل من الخير أن نقف قليلا عند
زياد بن أبيه
حتى نتمثّل تمثلا واضحا ما أصاب الخطابة السياسية فى هذا العصر من نهوض ورقى.
زياد (3) بن أبيه
ولد فى عام الهجرة أو قبله بقليل لسميّة جارية فارسية كانت للحارث بن كلدة الثقفى المشهور بطبّه، ويقال إنه زوجها ثقفيّا يسمى عبيدا، ومن ثم كان يسمّى فى بعض الروايات زياد بن عبيد. ويذهب بعض الرواة إلى أنه إنما ولد على فراش الحارث وأن عبيدا كان عبدا روميّا، ولم يكن ثقفيّا،
(1) طبرى 5/ 214
(2)
انظر نفح الطيب 1/ 112
(3)
انظر فى ترجمة زياد وتحقيق نسبته طبقات ابن سعد ج 7 ق 1 ص 70 وأسد الغابة 2/ 215 والمعارف لابن قتيبة (طبعة جوتنجن) ص 176 وتهذيب الأسماء واللغات للنووى 1/ 259 والأغانى (طبعة الساسى) 16/ 3 وما بعدها وابن عساكر 5/ 406 والعقد الفريد 5/ 4 (راجع الفهرس) ومروج الذهب للمسعودى (طبعة مصر) 2/ 55 والطبرى فى مواضع متفرقة وكتاب تاريخ الدولة العربية لقلهوزن ص 113 وما بعدها.
وما نتقدم معه إلى عهد عمر، حتى نجد أبا سفيان ينسبه إلى نفسه مدعيا أبوته، وقد تكون نسبة صحيحة، وإن تضمنت أنه لم يولد لرشدة. وليس بين أيدينا شئ واضح عن نشأته. ونراه يخرج مع الجيوش الغازية فى الشرق، وسرعان ما يعهد إليه عتبة بن غزوان قائد عمر فى فتوح الأبلّة تسجيل الغنائم وقسمها فى الناس، مما يدلّ على إتقانه الكتابة والحساب. ويلزم ولاة البصرة يكتب لهم، ويوفده واليها أبو موسى الأشعرى إلى عمر، فيعجب بذكائه ولسنه، ولكنه يأمر بعزله، فيقول له: يا أمير المؤمنين أعن عجز أم عن خيانة صرفتنى، فيرد عليه: لا عن واحدة منهما ولكنى أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك (1).
ويعود إلى البصرة حتى إذا كان عهد عثمان اتخذه عبد الله بن عامر واليها كاتبا له، ويفسد ما بينهما فيعزله، حتى إذا صار العراق لعلى وولّى على البصرة ابن عباس جعله على خراجها، وأنابه عنه أحيانا، وأظهر فى أثناء نيابته له حنكة، ذلك أن معاوية دسّ إلى تميم بعض من أفسدها على علىّ، فاستجار زياد بالأزد واستطاع بما أوقع بينهما أن يعيد الأمر إلى نصابه، وأن يعود بتميم إلى طاعة إمامه. ولما فسدت فارس على علىّ أرسل به إليها واليا عليها، فرمّ الفساد وأصلح الشّعث ورأب الصّدع متوسلا إلى ذلك بمهارة سياسية فائقة، إذ «بعث إلى رؤسائها، فوعد من نصره ومنّاه، وخوّف قوما وتوعّدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودلّ بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، وقتل بعضهم بعضا، وصفت له فارس فلم يلق فيها جمعا ولا حربا، وفعل مثل ذلك بكرمان (2).
ويقال إن أهل فارس كانوا يقولون: «ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنو شروان.
من سيرة هذا العربى فى اللين والمداراة (3)». ولما قتل علىّ ظل على عهده لابنه الحسن. حتى إذا تحوّلت مقاليد الأمور إلى معاوية اعتصم بفارس، فكاتبه معاوية متوعدا، ثم أخذ يتلطف له ووسّط لديه المغيرة بن شعبة الثقفى، ذاكرا ما بينهما من الرّحيم، وما زال به، حتى دخل فى طاعته. وفرح به فرحا عظيما.
إذ كان يعرف فضله، وأنه لا غنى له عنه فى استصلاح العراق، ولما صار إليه
(1) البيان والتبيين 1/ 260.
(2)
طبرى 4/ 106.
(3)
طبرى 4/ 105.
جمع الناس وصعد المنبر، وأجلسه بين يديه، وأشهد الحاضرين على نسبته لأبيه، وشهدت بذلك منهم جماعة. غير أن كثيرين ظلوا يشكّون فى هذا النسب ويتهمونه. ولم يلبث معاوية أن ولاّه البصرة وخراسان وسجستان سنة 45 للهجرة.
فأظهر من الحزم وحسن التدبير ما جعل معاوية يضم إليه الكوفة حين مات واليها المغيرة بن شعبة، وبذلك أصبح واليا على العراق جميعه حتى وفاته سنة 53 للهجرة. وقد أخذ الفسّاق والجناة بالعنف والشدة، وكذلك صنع بالخوارج والشيعة وقصته مع حجر بن عدى مشهورة، فقد أرسل به إلى معاوية، وهناك لقى حتفه. على أنه كان يخلط سياسته باللين، ولم يكن يعمد إلى سفك الدماء إلا حين تعجزه الحيلة، وقد اتبع سياسة ضرب القبائل بعضها ببعض حتى يشغلهم عنه وعن الدولة. ومن المحقق أنه كان سياسيّا ماهرا بعيد النظر يحسن تصريف الأمور إلى أبعد غاية.
وكان خطيبا لا يبارى فى جودة خطابته، يعرف كيف يصوغ كلمه صوغا تهشّ له الأسماع وتصغى له القلوب والأفئدة، وقد نوّه بخطابته كثير من معاصريه على شاكلة قول الشّعبى:«ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا من أن يسيئ إلا زيادا فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما (1)» . وخطبه مثل خطب الحجاج تدور فى موضوعين هما السياسة والمواعظ الدينية، وقد بقيت من خطبه الأولى شظايا وفقر وخطبة طويلة هى أروع خطبة سياسية خلّفها هذا العضر، وهى الملقبة بالبتراء (2)، سمّيت بذلك لأنها لم تبتدئ بالتحميد والتمجيد (3)، وقد أدخله عليها بعض الرواة.
والخطبة تجمل سياسة زياد التى اشتهر بها والتى ردّت إلى البصرة أمنها بعد أن عاث فيها الفسّاق واللصوص واضطرب حبل النظام، وقد بدأها بتصوير ما صار إليه أهلها من الفساد وشيوع الفسق والانحراف عما رسم الله للمسلمين فى كتابه من السيرة المستقيمة الطاهرة، يقول:
(1) البيان والتبيين 2/ 65.
(2)
انظرها فى البيان والتبيين 2/ 62 وعيون الأخبار 1/ 241 والعقد الفريد 4/ 110.
(3)
البيان والتبيين 2/ 6 وانظر 2/ 62.
وعلى هذا النحو استهلّ خطبته بتجسيم صور الفساد التى انتهت إليها حياة الناس فى البصرة، وهو فى أثناء ذلك يقرّع سامعيه بأنهم انتبذوا كتاب الله وراء أظهرهم مؤثرين الفانية على دار الخلود، وكأنما عادوا يجترّون حياتهم الوثنية القديمة وكل ما كان فيها من إثم. حتى إذا بلغ من ذلك كل ما أراد انتقل يصور خطّته فى حكمهم وما أعدّه لهم من ضروب العقوبات، يقول:
«إنى رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين فى غير ضعف وشدة فى غير عنف، وإنى أقسم بالله لآخذنّ الولىّ بالمولى (7) والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصى والصحيح منكم فى نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول:(انج سعد فقد هلك سعيد) أو تستقيم لى قناتكم. . من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له، وإياى ودلج الليل فإنى لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. . وإياى ودعوى (8) الجاهلية فإنى لا آخذ
(1) الجهلاء: وصف مؤكد كما تقول ليلة ليلاء.
(2)
ينحاش: ينفر.
(3)
السرمد: الدائم.
(4)
طرف عينه: أصابها بشئ فدمعت.
(5)
المواخير: جمع ماخور، وهو بيت الريبة.
(6)
الدلج: السير فى الليل.
(7)
الولى: السيد، المولى: العبد.
(8)
دعوى الجاهلية: قولهم يالتميم مثلا، إثارة من الشخص لقومه.
داعيا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه. ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنّاه فيه حيّا، فكفّوا عنى أيديكم وألسنتكم أكفّ عنكم يدى ولسانى، ولا تظهر على أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بينى وبين أقوام إحن (1) جعلتها دبر (2) أذنى وتحت قدمى، فمن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته. إنى والله لو علمت أن أحدكم قتله السّلّ من بغضى لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا، حتى يبدى لى صفحته (3)، فإذا فعل ذلك لم أناظره. فاستأنفوا أموركم وأرعوا (4) على أنفسكم، فربّ مسوء بقدومنا سنسرّه، ومسرور بقدومنا سنسوءه».
وهذه الفقرة من الخطبة تصور بجلاء سياسة زياد ودستوره فى حكم البصرة، وهو دستور أوضح فيه موادّ العقوبة وأنه سيأخذ بالظّنّة ويعاقب على الشبهة، وأنه قد جرّ دسيفه لقتل من لا يرعوى، وأن من عاد إلى العصبية الجاهلية يستثير قومه سيقطع لسانه. ونجحت هذه السياسة فى إعادة الأمور إلى نصابها فى ولايته واستقرار الأمن، حتى قالوا إن المرأة كانت تبيت وبابها مفتوح عليها لا تخشى لصّا، وكان الشئ يسقط فلا يعرض له أحد حتى يرجع إليه صاحبه، فيأخذه، وقالوا أيضا إن الناس هابوه هيبة لم يهابوها أحدا من الولاة قبله. وفى نفس هذه الفقرة ما يصور رفق زياد برعيته، فهو لا يبطش للبطش، وإنما يبطش على الجرم، أما بعد ذلك فليّن رفيق بالناس، وهو يجهر بذلك حين يلخّص خطته فى الحكم بأنها لين فى غير ضعف وشدة فى غير عنف، وأيضا حين يجهر فى ختام الفقرة بأنه سيصانع الناس حتى أعداءه ما صانعوه. ويمضى فى فقرة ثالثة، يبين ما يجب على الناس من الطاعة للخليفة وولاته، يقول:
«أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذى أعطانا، ونذود عنكم بفئ (5) الله الذى خوّلنا، فلنا عليكم السمع والطاعة
(1) إحن: جمع إحنة، وهى الحقد والضغينة.
(2)
دبر: خلف. كناية عن أنه لا يهتم بها.
(3)
أبدى صفحته: جاهر بعداوته.
(4)
أرعوا: أبقوا وارفقوا.
(5)
الفئ هنا: الخراج وغنائم الحروب.
فيما أحببنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولّينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنّا بمناصحتكم لنا. . وادعوا الله بالصلاح لأتتكم فإنهم ساستكم المؤدّبون وكهفكم الذى إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا به حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرّا لكم. أسأل الله أن يعين كلاّ على كلّ. وإذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله (1)، وأيم الله إن لى فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاى».
وزياد فى هذه الفقرة يستلهم فكرة التفويض الإلهى المعروفة عند الفرس، إذ كانوا يؤمنون بأن ملوكهم مفوّضون لحكمهم من قبل ربهم، وفى ذلك دلالة واضحة على تأثر الخطباء بالأفكار الأجنبية. وهو يلوّح لسامعيه بما فى يد الدولة من أموال الخراج ومغانم الحروب وأنها ستنثرها على رعاياها المطيعين الموالين لها نثرا، ولا يلبث أن يهدّد من تحدّثهم أنفسهم بنقض الطاعة أنهم إن صنعوا فالسيف ينتظرهم وضرب الرقاب.
والخطبة على هذا النحو خطبة سياسية خالصة، إذ ترسم سياسة زياد وطريقته فى الحكم من جميع أطرافهما. وهى مقسّمة إلى فقر تتسلسل فيها الأفكار تسلسلا دقيقا، وكل لفظة تقع فى مكانها وقرارها مع جمال الديباجة ووضوح الدلالة، فلا توعّر ولا تعقيد ولا كلم غريب.
وكان زياد بحكم خطابته فى الجمع والأعياد يعمد إلى الوعظ كثيرا، وهو فيه يبدع، كما يبدع فى خطبه السياسية، ونسوق له من هذا الباب موعظة يقال إن عبد الملك بن مروان كتبها بيده، وهى تطرّد على هذا السياق (2):
«إن الله عز وجل جعل لعباده عقولا عاقبهم بها على معصيته وأثابهم بها على طاعته، فالناس بين محسن بنعمة الله ومسئ بخذلان الله إياه. ولله النعمة على المحسن والحجة على المسئ. فما أولى من تمت عليه النعمة فى نفسه ورأى العبرة فى غيره أن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطى ما عليه منها ولا يتكثّر
(1) اذلاله: وجوهه.
(2)
البيان والتبيين 1/ 387.