الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن الكميت يسلك فى أشعاره الألفاظ النبطية، ولكنه كان يشرك الطرماح فى ظاهرة الاستخدام غير الدقيق للألفاظ البدوية (1)، ويروى أنه أنشد ذا الرّمة يوما بعض شعره، وسأله رأيه فيه، فقال له:«إنك لتقول قولا ما يقدر إنسان أن يقول لك فيه أصبت أو أخطأت، وذلك أنك تصف الشئ فلا تجئ به ولا تقع بعيدا منه، بل تقع قريبا» واقتنع الكميت بوجهة نظره واعتلّ لذلك بأنه لا يصف شيئا رآها بعينه، إنما يصف شيئا وصف له (2)»، ولذلك كان اللغويون لا يستشهدون بأشعاره ولا بأشعار الطرماح فى اللغة (3).
وعلى هذا النحو أخذت السلائق تضعف حتى عند العرب أنفسهم، وخاصة من نشأوا منهم فى الحضر ولم يتغذّوا بلبان البادية. وما نصل إلى العصر العباسى حتى يضع اللغويون خطّا فاصلا بين الشعر القديم الجاهلى والإسلامى والشعر العباسى الحديث الذى سموه شعر المولّدين وهو خط فصلوا به فصلا تامّا بين الشعر الفصيح الذى يمكن الاستشهاد به فى اللغة والشعر الذى لا يعتدّ به فى هذا الاستشهاد. وقد اعتدّوا بشعر الجاهليين والمخضرمين دون استثناء، أما شعر الأمويين فأخرجوا منه نفرا من العرب أمثال الطرمّاح والكميت متخذين النشأة فى الحضر مقياسا لمعرفة المشوب والمصفّى والمعيب والسليم.
2 - الإسلام وأثره فى موضوعات الشعر
طبيعى أن يؤثر الإسلام فى موضوعات الشعر الأموى، وهو تأثير يقوى ويضعف حسب نفسية الشعراء، إذ كان بينهم من تعمّقه الإسلام ومن لم يتغلغل إلى أعماقه. على أنهم جميعا كانوا يستظلون بظلاله، وكان من حولهم الوعاظ والنسّاك يذيعون فى مختلف الأجواء عبير وعظهم ونسكهم، سواء فى المساجد الجامعة أو فى مقدمات الجيوش الغازية. وكانوا ما يزالون يحدّثون الناس عن البعث
(1) الموشح ص 192 والأغانى (دار الكتب) 12/ 36
(2)
أغانى (ساسى) 15/ 120.
(3)
الموشح ص 191، 208.
والثواب والعقاب ونعيم الجنة وعذاب النار داعين دعوة واسعة إلى التقوى والزهد فى متاع الدنيا. وترامت من هذه المواعظ ومن القرآن الكريم وأحاديث الرسول وأقوال الصحابة الأولين أشعة كثيرة نفذت إلى نفوس الشعراء وانعكست فى أشعارهم على اختلاف موضوعاتها.
وقد أشرنا فى غير هذا الموضع إلى ما أصاب الغزل بتأثير الإسلام من براءة وطهر وصفاء ونقاء عند شعراء نجد وبوادى الحجاز وعند فقهاء المدينة ومكة. مما هيأ لظهور الغزل العذرى بل لشيوعه، وكأنما أضفى الإسلام على المرأة وعلاقاتها بالرجل عند هؤلاء الشعراء ضربا من القدسية، أحاطها بهالة من الجلال والوقار، فإذا الشاعر لا يدنو منها إلا فى احتياط، بل إذا هو يرى دونها صعابا أى صعاب، فيتحول إلى نفسه يشكو ما أصابه من تباريح الحب وأوصابه شكوى تشفّ عن ألمه وعذابه فى حبه، وهى شكوى يضرع فيها أحيانا إلى ربه على شاكلة قول جميل (1):
إلى الله أشكو لا إلى الناس حبّها
…
ولا بد من شكوى حبيب يروّع
ألا تتقين الله فيمن قتلته
…
فأمسى إليكم خاشعا يتضرّع
فياربّ حبّبنى إليها وأعطنى ال
…
مودّة منها أنت تعطى وتمنع
ونرى الغزلين جميعا عذريين وغير عذريين يستلهمون فى غزلهم بعض الأفكار الإسلامية كفكرة العفو والغفران، يقول عمر بن أبى ربيعة (2):
فديتك أطلقى حبلى وجودى
…
فإن الله ذو عفو غفور
وقد مضى غير شاعر يردد فكرة الإثم فى القتل وعقاب الله لقاتل النفس المؤمنة، ونرى الفرزدق يفصّل هذه الفكرة تفصيلا فى إحدى مقطوعاته، فيقول (3):
يا أخت ناجية بن سامة إننى
…
أخشى عليك بنىّ إن طلبوا دمى
فإذا حلفت هناك أنك من دمى
…
لبريئة فتحلّلى لا تأثمى (4)
فلئن سفكت دما بغير جريرة
…
لتخلّدنّ مع العذاب الألأم
(1) ديوان جميل تحقيق حسين نصار ص 117.
(2)
ديوان عمر (نشر شوارتز) رقم 40 بيت 5.
(3)
ديوان الفرزدق (طبعة الصاوى) 2/ 778.
(4)
تتحلل من اليمين: تستثنى.
ولئن حملت دمى عليك لتحملن
…
ثقلا يكون عليك مثل يلملم (1)
وإذا كان الفرزدق توسّع فى فكرة القتل على هذا النحو، فأضاف إليها الاستثناء من اليمين وما ينتظر القاتل فى غير جناية من عذاب الآخرة فإن وضّاح اليمن يستغل فكرة الحلال والحرام ويشفعها بفتوى الترخص فى اللّمم، يقول (2):
إذا قلت يوما نوّلينى تبسّمت
…
وقالت معاذ الله من فعل ما حرم
فما نوّلت حتى تضرّعت عندها
…
وأعلمتها ما رخّص الله فى اللّمم
وواضح أنه يقصد باللمم النظرة وما يماثلها. وكل ذلك جاء وضاحا ومن ذكرناهم بتأثير الإسلام الذى كان يخالط قلوبهم، فإذا ألفاظه وأفكاره نمتزج بمعانى الحب وألفاظه.
وإذا تحولنا إلى المديح وجدناه يتحول فى كثير من جوانبه إلى تصوير الفضيلة الدينية فى الممدوح، ووثّق هذا التصوير فى مديح الخلفاء والولاة أن الحكم والدين كانا مرتبطين ارتباطا لا تنفصم عراه، فمضى الشعراء يتحدثون عن تقواهم وأنهم يقيمون ميزان العدالة السماوية بين الرعية. ونشب صراع حاد بين الأمويين من جهة والخوارج والشيعة من جهة ثانية فى الحاكم الأعلى للمسلمين وما ينبغى أن يتحلّى به من صفات دينية. ولم يلبث شعراء بنى أمية أن نفذوا من ذلك إلى تمجيد الأمويين ورسم إطار دينى لكل منهم، وكان عمر بن عبد العزيز مثالا حقّا للحاكم الأموى التقى، فأكثر الشعراء من رسم إطار التقوى الذى يطيف به وبحكمه، على شاكلة قول كثيّر (3):
وصدّقت بالفعل المقال مع الذى
…
أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها
…
تراءى لك الدنيا بكفّ ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة
…
وتبسم عن مثل الجمان المنظّم
(1) يلملم: جبل على مرحلتين من مكة.
(2)
أغانى 6/ 328.
(3)
ديوان كثير (طبعة الجزائر) 2/ 123.
فأعرضت عنها مشمئزّا كأنما
…
سقتك مدوفا من سمام وعلقم (1)
تركت الذى يفنى وإن كان مونقا
…
وآثرت ما يبقى برأى مصمّم
وأضررت بالفانى وشمّرت للذى
…
أمامك فى يوم من الشر مظلم
وهو لا يصور فى عمر التقوى فحسب، بل يصور فيه أيضا الزهد والإعراض عن الدنيا وفتنتها ومتاعها الزائل الذى يغرّ الناس من حوله. وتتسع هذه الصورة فى مديح الشيعة لأئمتهم على نحو ما نجد فى هاشميات الكميت وفى شعر أيمن بن خريم إذ يقول فى بنى هاشم (2):
نهاركم مكابدة وصوم
…
وليلكم صلاة واقتراء
وليتم بالقران وبالتزكّى
…
فأسرع فيكم ذاك البلاء
وعلى نحو ما تأثر المديح بالإسلام ومثاليته الروحية تأثر الهجاء، إذ أخذ الشعراء يهجون خصومهم بانحرافهم عن الدين، فأطالوا فى وصفهم بالفسوق والبغى والطغيان كقول جرير فى آل المهلب (3):
آل المهلب فرّطوا فى دينهم
…
وطغوا كما فعلت ثمود فباروا
ودائما يرمى شعراء الشيعة الأمويين بالظلم وانتهاك الحرمات وتعطيل أحكام الدين وابتداع ما لم يأت به كتاب ولا سنّة من مثل قول الكميت (4):
لهم كلّ عام بدعة يحدثونها
…
أزلّوا بها أتباعهم ثم أوحلوا
كما ابتدع الرهبان ما لم يجئ به
…
كتاب ولا وحى من الله منزل
تحلّ دماء المسلمين لديهم
…
ويحرم طلع النّخلة المتهدّل
واشتد لهب الهجاء-كما قدمنا فى غير هذا الموضع-بتأثير العصبيات، ولم يكد ينج منه خليفة ولا وال ولا شريف، بل حتى القرّاء كان يتعرض لهم الشعراء، وخاصة إذا رأوهم يداجون أولى الأمر، فكانوا يرمونهم بالنفاق وأنهم
(1) مدوفا: مزيجا.
(2)
أغانى (ساسى) 21/ 6.
(3)
ديوان جرير (طبعة الصاوى) ص 219.
(4)
الهاشميات ص 123.
ليسوا صادقين فيما يظهرون من تقوى وصلاح، على شاكلة قول ذى الرمة ساخرا من إحدى طوائفهم (1):
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه
…
واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء
قوم يوارون عما فى صدورهم
…
حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء
مشمّرين إلى أنصاف سوقهم
…
هم اللصوص وهم يدعون قرّاء
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن شعر الحماسة كأن أقوى فى تأثره بالإسلام من شعر الهجاء والمديح، إذ كان ينظّم أكثره فى الجهاد، ومعروف أنه كان دائما فى صفوف المحاربين قصّاص ووعاظ يحثّونهم على الاستشهاد فى سبيل الله، حتى يفوزوا برضوانه، ومن ثمّ تحولت بعض القطع الحماسية التى نظمت فى خراسان إلى مواعظ خالصة، كقول نصر بن سيّار (2):
دع عنك دنيا وأهلا أنت تاركهم
…
ما خير دنيا وأهل لا يدومونا
واكثر تقى الله فى الأسرار مجتهدا
…
إن التّقى خيره ما كان مكنونا
واعلم بأنك بالأعمال مرتهن
…
فكن لذاك كثير الهمّ محزونا
وامنح جهادك من لم يرج آخرة
…
وكن عدوّا لقوم لا يصلّونا
فاقتلهم غضبا لله منتصرا
…
منهم به، ودع المرتاب مفتونا
وواضح أن نصرا يزهد فى الدنيا ومتاعها الفانى بما يذكر من هلاك الأهل، ويدعو إلى التقوى فى السر والخلفاء مذكّرا باليوم الآخر وما ينبغى أن يتّخذ له من ذخر الجهاد والذبّ عن دين الله، وبيع النفس فى محاربة أعدائه.
وكانت حرب الخوارج حربا دينية خالصة، أما هم فآمنوا بأنهم على الحق وأن المسلمين من غيرهم خرجوا على حدود الله وأنه ينبغى جهادهم حتى يعودوا إلى حياض الشريعة. وبنفس الصورة كان يراهم المسلمون من خصومهم ويرون جهادهم فرضا مكتوبا. وبذلك كانت أشعار الطرفين تغمس غمسا
(1) ديوان ذى الرمة (طبعة كمبريدج) ص 661.
(2)
طبرى 5/ 433.
فى العقيدة الدينية، فهم إنما يحاربون من أجلها وفى سبيلها، ونحس كأنما غاية كل خارجى أن يقتل حتى يكتب فى سجل المستشهدين.
وكان شعر من حاربوهم يسيل بالدعوة للاستبسال فى الحرب وجهاد هذه الفرقة التى زاغت فى رأيهم عن طريق الهدى، ومن خير ما يصور ذلك قول كعب الأشقرى فى ملحمته الطويلة التى وصف فيها قتال المهلب للأزارقة وقضائه عليهم (1):
إنا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا
…
بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا
…
دينا يخالف ما جاءت به النّذر
وكان كثيرون يقتلون فى هذه الحروب، فكان الشعراء يندبونهم ندبا حارّا، مازجين ندبهم بما ينتظرهم من نعيم الخلد. كقول الضحاك بن قيس يرثى بهلولا الصّفرىّ الذى خرج لعهد هشام بن عبد الملك وقتل (2):
يا عين أذرى دموعا منك تهتانا
…
وابكى لنا صحبة بانوا وإخوانا
خلّوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها
…
وأصبحوا فى جنان الخلد جيرانا
وتعمّ هذه الروح الدينية فى مراثى من قتلوا من العلويين منذ على بن أبى طالب، وقد تحوّل مقتل الحسين منذ حدوثه إلى عويل وتفجع رهيب. وكان من يرثون الأمويين يستشعرون هذه الروح فى مراثيهم، كقول جرير فى عمر بن عبد العزيز (3):
حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له
…
وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
بل لقد طبع الرثاء عامة بطوابع هذه الروح وما يطوى فيها من التسليم لله والرضا بقضائه، فكلّ نفس ذائقة الموت، وهو حتم فى رقاب العباد، وعليهم أن يتذرّعوا إزاءه بالصبر الجميل.
(1) طبرى 5/ 125.
(2)
طبرى 5/ 460.
(3)
الديوان ص 304.