الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - خطباء السياسة
نمت الخطابة السياسية فى هذا العصر ونهضت نهوضا عظيما، إذ دارت على كل لسان مؤيد أو معارض للدولة، فأيان وليت وجهك فى السلم والحرب وجدت الخطباء متراصّين فى صفوف متلاحقة يخطبون الناس محاولين أن يستميلوهم إلى آرائهم داحضين بكل ما وسعهم آراء خصومهم. وتموج كتب الأدب والتاريخ بما نثروه من خطبهم وأقوالهم وارجع إلى الطبرى فستراه لا يعرض عليك أى رأى دون أن يشفعه غالبا بما خطب به صاحبه وأورد من حجج تؤيده، وكثيرا ما يناقضه خصومه مظهرين ما فى رأيه من تمويه.
وليس هناك حزب ولا ثورة كبيرة أو صغيرة إلا وخطباء كثيرون ينبرون للترويج لهذا الحزب، أو تلك الثورة، فللخوارج خطباؤهم، وكذلك للشيعة وللزبيريين ولابن الأشعث وغيره من الثوار. وكان يقابل هؤلاء الخطباء المعارضين للدولة خطباء كثيرون يؤيدون بنى أمية من ذات أنفسهم أو من ولاتهم وقوادهم.
وهناك فى أطراف الدولة شرقا وغربا خطباء مفوهون يستحثون الجيوش على الجهاد فى سبيل الله والتنكيل بأعدائهم تنكيلا شديدا. وبذلك انتشرت الخطابة السياسية فى كل مكان وعلى كل لسان.
ولعل حزبا لم يكثر خطباؤه كما كثروا فى الخوارج، إذ كانوا شديدى الحماسة لعقيدتهم، ولم يدعوا لها سرّا كما دعا الشيعة فى أكثر الأمر، بل دعوا لها جهارا، شاهرين سيوفهم فى وجوه بنى أمية وولاتهم. على أنه ينبغى أن نلاحظ أن جمهور خطبهم سقط من يد الزمن ولم يصلنا، لأن الناس من غير بيئتهم كانوا يتحرجون من روايتها، إذ كانوا يرون فيهم ثوارا خارجين على الجماعة، ويظهر أنهم أنفسهم لم يحرصوا على تسجيلها وروايتها. ومع ذلك فقد بقيت منها بقية احتفظت بها كتب الأدب والتاريخ، وأيضا فإنها احتفظت، وخاصة كتاب البيان والتبيين، بأسمائهم (1).
(1) البيان والتبيين 1/ 243 وما بعدها و 2/ 364 وما بعدها.
وأول من يلقانا من خطبائهم حيّان بن ظبيان السّلمى والمستورد بن علّفة لعهد المغيرة بن شعبة فى ولايته على الكوفة لمعاوية. ولا نلبث أن نلتقى بنافع ابن الأزرق وطائفة من زعمائهم لدى عبد الله بن الزبير يناظرونه حتى إذا لم يجدوه على رأيهم انصرفوا عنه إلى البصرة، وهناك انقسموا-على نحو ما مرّ بنا-إلى أزارقة ونجدات وصفريّة وإباضية، وأسرع الأزارقة فأعلنوا ثورتهم وشهروا سيوفهم فى وجوه ولاة ابن الزبير ثم من خلفوهم من ولاة بنى أمية، وتصدّى لهم المهلب ابن أبى صفرة وقواد آخرون، ومزّقوهم شر ممزّق.
وقد ظلت نيران هذه الحروب مع الأزارقة مستعرة نحو خمسة عشر عاما كانت تحتدم فيها المعارك الحربية واللسانية من الشعر والخطابة، ومن أهم خطبائهم نافع بن الأزرق والزبير بن على الذى وليهم بعد نافع وابن الماحوز، وله خطب مختلفة يحرضهم فيها على القتال والاستشهاد طلبا لما عند الله من الثواب.
وتلقانا فى خطابتهم نفس الروح التى وصفناها فى أشعارهم، إذ نراهم يدعون للترامى على الموت ترامى الفراش على النار غير آبهين بالحياة الدنيا، إنها حياة زائفة، وهم يريدون الحياة الخالدة فى الدار الآخرة. وهم إنما يحاربون فى سبيل الحق، يحاربون تلك الفئة التى ضلت فى رأيهم، وكل منهم يلتمس الشهادة، يقول الزبير فى بعض خطبه (1):«إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزى. وثقوا بأنكم المستخلفون فى الأرض والعاقبة للمتقين» .
فهم فى رأيه الفئة المحقة وخصومهم الفئة المبطلة، وهم المؤمنون حقّا وغيرهم الكافرون، وقتلاهم فى الجنة أما قتلى غيرهم ففى النار، وهم لذلك يطلبون الاستشهاد، بل يطلبون العجلة إليه، حتى يتخلصوا من الدنيا ومتعها الزائلة، وكأنما يرون فى الموت نفسه ضربا من الغلبة على خصومهم الذين غلبوا على الدنيا، ولا يريدون أن يغلبوهم أيضا على الآخرة.
وإذا كنا لاحظنا فى شعرهم تنفيرا من الدنيا، حتى ليتحول فى بعض جوانبه إلى موعظة خالصة فكذلك الشأن فى خطبهم، على نحو ما يلقانا فى خطبة قطرىّ ابن الفجاءة قائدهم بعد الزبير بن على، وهو يستهلها على هذا النمط (2):
(1) الكامل للمبرد ص 640.
(2)
البيان والتبيين 2/ 126 وعيون الأخبار.2/ 250 والعقد الفريد 4/ 141.
«أما بعد فإنى أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة (1)، حفّت بالشهوات. . .
مع أن امرأ لم يكن منها فى حبرة (2)، إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرّائها بطنا، إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تطلّه غبية (3) رخاء، إلا هطلت عليه مزنة (4) بلاء، وحرىّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسى له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى (5) أمرّ عليه منها جانب وأوبى (6)، وإن آتت امرءا من غضارتها (7) ورفاهتها نعما أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها فى جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم (8) خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية، فان من عليها، لا خير فى شئ من زادها إلا التقوى».
وتمضى الخطبة وهى طويلة على هذا النحو من الوعظ والترغيب والترهيب، وواضح ما فيها من جمال اللفظ وروعة أسره، وقد اختار لها قطرى السجع حتى يؤثر فى نفوس سامعيه أقوى تأثير، ولم يكتف بالسجع، بل أضاف إليه التصوير، كما أضاف الطباق، حتى يبلغ كل ما يريد من تنميق معانيه.
وممن اشتهر من خطباء الأزارقة عبيدة بن هلال اليشكرى وزيد بن جندب الإيادى وعبد ربّ الصغير.
ويلقانا بين خطباء الصّفرية عمران بن حطّان وصالح بن مسرّح الذى كان يعظهم ويقص فيهم قصصا كثيرا وكان فى وعظه وقصصه يحمل على بنى أمية ومن معهم من الجماعة الإسلامية حملات شعواء، حتى إذا بلغ من إثارة أصحابه فى الجزيرة والموصل ما أراد خرج على الحجّاج، وقتل، فخلفه شبيب الذى دوّخ جيوش الحجاج طويلا، ومن قول صالح فى بعض مواعظه (9):
«أوصيكم بتقوى الله والزهد فى الدنيا والرّغبة فى الآخرة وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين وحب المؤمنين، فإن الزهادة فى الدنيا ترغّب العبد فيما عند الله وتفرّغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت تخيف العبد من ربه، حتى
(1) خضرة: ناضرة.
(2)
حبرة: سرور.
(3)
الطل: المطر القليل. الغبية: المطرة القليلة.
(4)
الهطل: المطر الكثير. المزنة: السحابة الممطرة.
(5)
احلولى: صار حلوا.
(6)
أوبى: من الوباء.
(7)
الغضارة: النضارة والخصب.
(8)
القوادم: الريش فى مقدم جناح الطائر.
(9)
تاريخ الطبرى 5/ 50.
يجأر (1) إليه ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله فى كتابه:{(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ)} وإن حبّ المؤمنين للسّبب الذى ينال به كرامة الله ورحمته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين».
ومضى على هذه الشاكلة يعظ من حوله من الصّفرية ويحرضهم على قتال بنى أمية أئمة الضلال الظّلمة كما يقول، حاثّا لهم أن يلحقوا بإخوانهم المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة ابتغاء رضوان الله. وممن اشتهر بين الصّفرية بالخطابة الطّرمّاح بن حكيم وشبيل بن عزرة الضّبعى والضحاك بن قيس الذى خرج لعهد مروان بن محمد وغلب على العراق فترة من الوقت.
ولم تحدثنا كتب الأدب والتاريخ عن خطباء النّجدات، أما الإباضية فقد اشتهر من بينهم بالخطابة عبد الله بن يحيى الكندى الملقب بطالب الحق، وقد دعا إلى الثورة على الأمويين فى سنة 129 واستطاع أن يستولى على حضرموت واليمن، واتجهت جيوشه بقيادة أبى حمزة قائده إلى الحجاز فاستولت عليه.
ولم تلبث جيوش مروان بن محمد أن ردّت الأمر إلى نصابه. ولأبى حمزة خطب مأثورة تدل دلالة بينة على أنه كان من راضة الكلام، وربما كان أروع خطبه كلمته التى ألقاها فى مكة، ويقال بل ألقاها فى المدينة (2)، وهو يستهلها بالثناء على أبى بكر وعمر ولا يلبث أن يطعن فى عثمان ومن جاء بعده من خلفاء بنى أمية، مصورا تعطيلهم لحدود الله وأحكامه وأخذهم للرعية بالبطش والظلم، منددا بمن اشتهروا منهم باللهو والمجون مثل يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك.
وينتقل إلى تصوير الخوارج وإخلاصهم لعقيدتهم وتقواهم وزهدهم فى الدنيا وجهادهم فى سبيل الله مستعذبين للاستشهاد إذ يرون فيه الحياة كل الحياة، الحياة الباقية التى لا تفنى، يقول متحدثا عن شبابهم:
«شباب والله مكتهلون (3) فى شبابهم غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن
(1) يجأر: يضرع ويستغيث.
(2)
انظر البيان والتبيين 2/ 122 وعيون الأخبار 2/ 249 والعقد الفريد 4/ 144 والأغانى 20/ 104.
(3)
مكتهلون: يريد أن لهم رزانة الكهول.
الباطل أرجلهم، أنضاء (1) عبادة وأطلاح (2) سهر، ينظر الله إليهم فى جوف الليل، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مرّ أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مرّ بآية من ذكر النار شهق شهقة كأنّ زفير جهنم بين أذنيه. موصول كلالهم (3) بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار. . حتى إذا رأوا السّهام قد فوّقت (4) والرماح قد أشرعت (5) والسيوف قد انتضيت (6)، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت استخفّوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشباب منهم قدما، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضّبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء.
فكم من عين فى منقار طائر طالما بكى صاحبها فى جوف الليل من خوف الله، وكم من كفّ زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها فى جوف الليل بالسجود لله».
وهى صورة رائعة لشباب الخوارج أحكم أبو حمزة إخراجها فى ألفاظ طلية تستميل القلوب بعذوبتها، ومعان تحيط بكل ما أراد من تمثيل تقوى الخوارج وإيثارهم لما عند الله من النعيم، وتمثيل اندفاعهم على حياض الموت كلّ يودّ أن يكون السابق إلى دار الخلود وأن يموت قعصا بالرماح، وأن تنوشه سباع الحيوان والطير، حتى يستحقّ رضوان ربه.
وعلى نحو ما كان للخوارج خطباؤهم كان للشيعة خطباء كثيرون، وكانوا على شاكلة خطباء الخوارج ينددون دائما ببنى أمية، وأنهم اغتصبوا الخلافة، وساروا فيها سيرة جائرة عطّلوا فيها أحكام الشريعة وما رسمه القرآن ورسوله الكريم. وكانوا لا يزالون يردّدون أن أبناء على هم أصحاب الخلافة الشرعيون بغى عليهم بنو أمية إذ انتزعوا منهم ميراثهم عن الرسول الكريم. وتدور هذه الأفكار دائما فى خطابتهم وخطابة أئمتهم، على نحو ما نجد عند الحسين حين اقترب من الكوفة واجتمع
(1) أنضاء: مهزولون.
(2)
أطلاح: مكدودون.
(3)
الكلال: التعب والإعياء.
(4)
فوق السهم: جعل له فوقا وهو موضع الوتر من السهم يصنع به ذلك إذا أعد للرمى.
(5)
أشرعت: سددت.
(6)
انتضيت: استلت.
الناس من حوله ولقيته مقدمات الجيش الذى أرسله له عبيد الله بن زياد، فقد انصرف إلى القوم بوجهه، يقول فى كلمة له (1).
«أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله.
ونحن-أهل البيت-أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان».
وتتطور الأمور ويقتل الحسين، ويتخذ الشيعة من مقتله دليلا واضحا على ظلم بنى أمية وأنهم يسوسون الأمة سياسة جائرة، فقد استباحوا دم حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم. ويتوفّى يزيد بن معاوية فيتجمع كثير من شيعة الكوفة بقيادة سليمان بن صرد، فيعلنون توبتهم من السكوت عن الثأر للحسين وما كان من القعود عن نصرته. ويخطب سليمان وكثيرون غيره محرضين على الثورة، وهم فى تضاعيف ذلك يقررون حق آل البيت فى الخلافة لقرابتهم من الرسول مستثيرين الناس على الأمويين لما سفكوا من دم الحسين الطاهر ابن بنت الرسول، من ذلك قول سليمان بن صرد فى إحدى خطبه (2):
«قتل فينا ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة (3) من لحمه ودمه. .
اتخذه الفاسقون غرضا للنّبل. . ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل (4) والأبناء حتى يرضى الله. والله ما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله أو تبيروا (5)».
وكان من زعماء التّوابين معه عبيد الله بن عبد الله المرّى، وكان خطيبا لا يبارى، فمضى يعظ الناس ويحرّضهم على الانتقاض على الأمويين بمثل قوله (6):
«هل خلق ربكم فى الأولين والآخرين أعظم حقّا على هذه الأمة من نبيّها؟ وهل ذرّية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقّا على هذه الأمة من ذرية رسولها؟ لا والله ما كان ولا يكون، ألم تروا ويبلغكم ما اجترم (7) إلى ابن بنت نبيكم. . وترميلهم (8) إياه بالدم وتجرارهموه على الأرض؟ لم يراقبوا فيه ربهم
(1) طبرى 4/ 303.
(2)
طبرى 4/ 428.
(3)
بضعة: قطعة.
(4)
الحلائل: جمع حليلة، وهى الزوجة.
(5)
تبيروا: تهلكوا.
(6)
طبرى 4/ 433.
(7)
اجترم: اقترف وارتكب.
(8)
ترميلهم: من رمله إذا لطمه بالدم.
ولا قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم. . ابن أول المسلمين إسلاما وابن بنت رسول ربّ العالمين، قتله عدوه وخذله وليّه، فويل للقاتل وملامة للخاذل. . إلا أن يناصح لله فى التوبة، فيجاهد القاتلين. . وعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة ويقيل العثرة. . إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته وإلى جهاد المحلّين والمارقين».
وخرج التوابون من الكوفة إلى الشمال فالتقوا بجيش أموى نكّل بهم وفرق جموعهم، فارتدوا إلى الكوفة، وهناك تلقّاهم المختار الثقفى، زاعما أن ابن الحنفية-على الرغم من تبرئه منه-بعثه على الشيعة أميرا وأمره بقتال الملحدين والطلب بدماء أهل بيته. وهو يعدّ المؤسس الحقيقى لفرقة الكيسانية المشهورة فى تاريخ الشيعة، وقد مرّ بنا تصوير عقيدتها ومدى ما ذهبت إليه من غلو وإسراف، وكيف أنها كانت تدعو لابن الحنفية محمد بن على، وتعده وصيّه والإمام المهدى المنتظر. وكان المختار خارجيّا ثم صار زبيريّا ثم صار كيسانيّا (1) وكان لسنا فصيحا، من أهل الدهاء، فجمع الشيعة حوله، ووجههم بقيادة إبراهيم بن الأشتر لحرب أهل الشام فالتقوا بهم فى «خازر» وعصفوا بهم عصفا. ولم يلبث مصعب بن الزبير والى البصرة لأخيه عبد الله أن قضى عليه بعد معارك طاحنة. وكانت فى المختار شعوذة كثيرة، جعلته يتأثر فى خطابته كهنة الجاهلية، حتى كان يزعم- على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، أنه يوحى إليه، مصوّرا هذا الوحى فى فقرات من السجع يوشّيها بالأيمان واللفظ الغريب على شاكلة قوله (2):
«أما وربّ البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه (3) والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلنّ كل جبّار، بكل لدن خطّار (4)، ومهنّد بتّار (5)، فى جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار (6)، ولا بعزل (7) أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين ورأبت شعب (8) صدع المسلمين، وشفيت
(1) الملل والنحل ص 109.
(2)
طبرى 4/ 450.
(3)
المهامه: الفيافى.
(4)
اللدن: الرمح، الخطار: الضارب.
(5)
المهند: السيف، البتار: القاطع.
(6)
الميل: جمع أميل وهو الجبان، الأغمار: جمع غمر وهو ناقص التجربة.
(7)
العزل: جمع أعزل وهو من لا سلاح معه.
(8)
رأب: أصلح. الشعب: الفتق والصدع.
غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبر علىّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى».
وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا المعانى التى كان يردّدها خطباء الشيعة، وهى معان تردّ إلى بيان حقوق آل البيت فى الخلافة، وأن على المسلمين أن ينصروهم، وأن يأخذوا بثأر من قتله الأمويون منهم. وفى تضاعيف ذلك يحمل خطباؤهم على بنى أمية حملات عنيفة مصورين ظلمهم ونقضهم لأحكام الكتاب والسنة. ومن أعلام الخطابة الشيعية زيد بن على وابنه يحيى، وإن كانت كتب الأدب والتاريخ الوثيقة لم تحتفظ بشئ من خطابتهما، وكذلك هى لم تحتفظ بشئ من خطابة بنى صوحان: صعصعة وزيد وسيحان وكانوا شيعة وفى الذروة من البيان والفصاحة. وقد احتفظ ابن أبى الحديد بكثير من المخاصمات والمحاورات بين الحسن بن على وعمرو بن العاص وبعض بنى أمية، وهى مخاصمات يغلب عليها الانتحال، ومثلها المخاصمات التى دارت بين ابن عباس ومعاوية وبعض أصحابه مما احتفظ به ابن أبى الحديد والعقد الفريد والمسعودى.
ولم يعش حزب الزبيريين طويلا، ولذلك لم يتكاثر خطباؤه، وعبد الله ابن الزبير خطيب هذا الحزب، وكان مفوها بليغا يعرف كيف يخلب الألباب بكلامه، ويستولى على النفوس بحلاوة منطقه، وهو فى خطابته يتناول الأمويين بالقدح والتجريح، وقد استغل مقتلهم للحسين ليبين غدرهم وما يتورطون فيه من آثام. وله مناظرة مع الخوارج تدل على قوة منطقه وحدة ذكائه (1)، وأيضا له خطبة مشهورة خطبها حين جاءه نعى أخيه مصعب واستيلاء عبد الملك بن مروان على العراق، وهى تصور رباطة جأشه وصدق يقينه، وفيها يقول (2):
«إن يقتل فقد قتل أبوه وعمه وابن عمه (3)، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله لا نموت حتف أنوفنا (4)، ولكن قعصا (5) بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف،
(1) طبرى 4/ 437 وما بعدها.
(2)
العقد الفريد 4/ 412 وعيون الأخبار 2/ 420.
(3)
أبوه الزبير قتل عقب موقعة الجمل وعمه عبد الرحمن بن العوام قتل يوم اليرموك وابنه عبد الله قتل يوم الدار. انظر أسد الغابة 3/ 213.
(4)
يقال مات حتف أنفه إذا مات على الفراش.
(5)
قعصا: موتا سريعا.
وليس كما يموت بنو مروان، والله ما قتل منهم رجل فى زحف فى جاهلية ولا إسلام قط. ألا وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذى لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا علىّ لم آخذها أخذ الأشر (1) البطر، وإن تدبر عنى لم أبك عليها بكاء الخرق المهين (2)».
ولأخيه مصعب خطب مدونة، وقد جعل إحداها آيات قرآنية خالصة (3)، ولأمهما أسماء مع ابنها عبد الله محاورة (4) طريفة حين حاصره الحجاج فى مكة وتخاذل عنه الناس.
وإذا تركنا خطباء الأحزاب السياسية إلى خطباء الثورات كان أول من نلقاه منهم عبد الله بن حنظلة زعيم ثورة المدينة ضد يزيد بن معاوية، ثم عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لبلاغته فى خطابته، وقد ثار على عبد الملك بالشام سنة 69 للهجرة وقضى عليه. ويلقانا بعد ذلك عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث فى ثورته على الحجاج، وكان مدرها مفوّها، ومن خطباء ثورته عامر بن واثلة الكنانى وعبد المؤمن بن شبث بن ربعىّ. ولا نصل إلى عصر سليمان ابن عبد الملك حتى يثور عليه قتيبة بن مسلم الباهلى فى خراسان حاضّا الجند على متابعته. ونستقبل مع أوائل القرن الثانى ثورة يزيد بن المهلب على يزيد ابن عبد الملك، وكان خطيبا بليغا، وطالما خطب فى جنوده يحرضهم على أهل الشام.
وكل من سميناهم من هؤلاء الثوار تتناثر خطبهم فى الطبرى وكتب الأدب، وهى كلها تدور على إثارة الناس ضد بنى أمية وبيان ما فى حكمهم من ظلم وما يأخذهم به ولاتهم من عسف وكيف أنهم جميعا عطّلوا أحكام الشريعة واستأثروا بالفئ، حتى لنرى يزيد بن المهلب فى بعض خطبه يجعل جهادهم أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم (5).
وكان يقف فى الصف المقابل من هؤلاء الخطباء المعارضين خطباء بنى أمية، يتقدمهم الخلفاء، ثم الولاة والقواد، وممن اشتهر من الخلفاء بإحكام الصنعة فى
(1) الأشر: البطر.
(2)
الخرق: الدهش خوفا. المهين: الحقير.
(3)
البيان والتبيين 2/ 299 والعقد الفريد 4/ 135.
(4)
طبرى 5/ 30.
(5)
طبرى 5/ 335.
الخطابة مع جهارة المنطق وطلاوة الكلم معاوية وعبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد الناقص، وقد وصف بعض الشعراء مهارة معاوية فى خطابته فقال (1):
ركوب المنابر وثّابها
…
معنّ بخطبته مجهر (2)
تريع إليه هوادى الكلام
…
إذا ضلّ خطبته المهذر (3)
وخطابته قسمان: قسم سياسة خالصة، وقسم مواعظ وترغيب وترهيب، وهو فى القسم الأول يدعو إلى الطاعة ملوّحا بما فى يديه من قوة ومن عطايا وهبات، ومن خير ما يمثّل ذلك خطبته فى عام الجماعة سنة 41 للهجرة بالمدينة (4). وهو فى القسم الثانى ينفّر من الدنيا والتعلق بمتاعها الزائل، ومن خير ما يمثل هذا القسم خطبة رواها له الجاحظ (5)، وقد اتهم نسبتها إليه وقال إنها حرية بأن تنسب إلى على بن أبى طالب. والجاحظ بهذا الاتهام يقسو على معاوية، وكأنه نسى أنه من كتّاب الوحى وأنه من جلّة الصحابة. وتتردد فى خطابة عبد الملك مطالبة الرعية بالطاعة لخليفتهم، مع التهديد والوعيد لمن تحدّثهم نفوسهم بالخروج عليه (6)، أما عمر بن عبد العزيز فخطبه مواعظ خالصة، يتحدث فيها عما ينتظر الإنسان من الموت وانتقاله إلى دار الخلود ومحاسبته على ما قدّمت يداه على شاكلة قوله فى كلمة له (7):
وليزيد الناقص حين ولى الخلافة بعد قتله ابن عمه الوليد بن يزيد خطبة
(1) البيان والتبيين 1/ 127.
(2)
معن: تعن له الخطبة فيخطبها مقتضبا لها.
(3)
تريع: ترجع. هوادى الكلام: أوائله.
(4)
العقد الفريد 4/ 81.
(5)
البيان والتبيين 2/ 59 وما بعدها.
(6)
العقد الفريد 4/ 401 والأمالى 1/ 12.
(7)
البيان والتبيين 2/ 120 وعيون الأخبار 2/ 246.
بديعة (1) يصور فيها سياسته ودستوره فى الحكم معلنا أنه إن وفّى بما عاهد عليه الله فعلى الناس السمع والطاعة وإلا فلهم أن يخلعوه، ويقول إنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
وكان ولاة بنى أمية وقوادهم لا يزالون يستوجبون على الناس الطاعة والولاء لخلفائهم، نجد ذلك عند عتبة بن أبى سفيان والى مصر وعند ولاة العراق من أمثال زياد والحجاج وخالد القسرى، وكانوا يضيفون إلى ذلك وعيدا وتهديدا باستخدام القوة. ولعل أحدا لم يبلغ من ذلك ما بلغه الحجاج، ومن خير ما يمثل ذلك خطبته فى الكوفة حين قدم على العراق واليا من قبل عبد الملك، وفيها يقول (2):
وهو يفتتح هذه الخطبة بأشعار تمتلئ باللفظ الغريب، حتى يأخذ على سامعيه أنفاسهم. وقد زخرت خطبته بأسلوب تصويرى قوى، وهو يعدّ فى الذروة من أهل الخطابة والبيان فى العصر، حتى ليوضع مع زياد بن أبيه فى طبقة واحدة، وإن فضله زياد بحلاوة منطقه، فقد كان يمتاز بجزالة اللفظ وفخامته،
(1) البيان والتبيين 2/ 141.
(2)
البيان والتبيين 2/ 307 وعيون الأخبار 2/ 244.
(3)
القعقعة: التحريك، الشنان: جمع شن وهو القربة البالية كانوا يحركونها إذا استحثوا الإبل للمسير. مثل يضرب لمن يروعه ما لا حقيقة له.
(4)
فررت: اختبرت.
(5)
الكنانة: جعبة السهام.
(6)
عجم: اختبر.
(7)
أوضع: أسرع فى سيره أو ساربين القوم.
(8)
لحا العصا: قشرها.
(9)
قال الجاحظ: تضرب عند الهرب وعند الخلاط على الحوض إذ تختلط بغيرها فتضرب وتبعد.
ولعل من الطريف أن كتب الأدب احتفظت له بمواعظ كثيرة، ويروى أن الحسن البصرى كان يقول عنه إنه «يعظ عظة الأزارقة ويبطش بطش الجبّارين» (1) ومن قوله فى بعض مواعظه:«اللهم أرنى الهدى هدى فأتبعه وأرنى الغىّ غيّا فأجتنبه ولا تكلنى إلى نفسى فأضلّ ضلالا بعيدا (2)» .
وكان خالد القسرى خطيبا مفوها، مع لحن كان فيه، وكان إذا تكلم ظنّ الناس أنه يصنع كلامه لجمال لفظه وبلاغة منطقه، وله خطب كثيرة يحثّ فيها على طاعة الخلفاء منذرا متوعدا من ينقض حبل الجماعة. وأكثر فى خطب الجمع من المواعظ، حتى سمّى خطيب الله (3)، ويروى أنه كان يخطب يوما فسقطت جرادة على ثوبه، فقال (4):
«سبحان من الجرادة من خلقه، أدمج قوائمها، وطوّقها جناحها، ووشّى جلدها، وسلّطها على ما هو أعظم منها» .
وإذا كان قواد المعارك الدامية من خوارج وشيعة وثائرين مختلفين حاربوا بنى أمية غضبا لدينهم كما دار على ألسنة خطبائهم فإن قواد بنى أمية فى الصفوف المقابلة كانوا يزعمون نفس الزعم، على نمط قول مسلم بن عقبة قائد أهل الشام فى وقعة الحرّة:«يا أهل الشام أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا عن دينهم وأن يعزّوا به نصر إمامهم (5)» وقول المهلب بن أبى صفرة فى حثّ جنده على قتال الأزارقة: «يا أيها الناس إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج وإنهم إن قدروا عليكم فتنوكم فى دينكم وسفكوا دماءكم (6)» . فقواد بنى أمية فى هذه الحروب الداخلية كانوا مثل خصومهم يرون أن الحق فى جانبهم وأن أعداءهم أهل غىّ وضلال.
وكان قواد الفتوح شرقا وغربا وفى بلاد الروم لا يزالون يحثّون جنودهم على الاستشهاد فى سبيل الله مقتبسين من آى الذكر الحكيم ما يشعل حماستهم،
(1) البيان والتبيين 3/ 164.
(2)
البيان والتبيين 2/ 137 والعقد الفريد 4/ 115.
(3)
البيان والتبيين 2/ 275.
(4)
عيون الأخبار 2/ 247.
(5)
طبرى 4/ 375.
(6)
الكامل للمبرد ص 630.