الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان مغرى بهجاء الوعاظ والفقهاء والنّسّاك، ويقال إن الفرزدق همّ بهجائه حين رآه يكثر من هجاء المغيرة بن حبناء وقبيلته تميم، فبادره بقوله:
وما ترك الهاجون لى إن هجوته
…
مصحّا أراه فى أديم الفرزدق
وإنا وما تهدى لنا إن هجوتنا
…
لكا لبحر مهما يلق فى البحر يغرق
فتوسل الفرزدق إليه أن يكفّ عنه. وفى ذلك ما يدل على أنه كان يتقن الهجاء كما كان يتقن المديح والرثاء، ومرثيته للمغيرة بن المهلب من روائعه.
وقد توفّى فى حدود المائة الأولى للهجرة.
2 - شعراء الهجاء
احتدم الهجاء فى هذا العصر احتداما شديدا، بتأثير العصبيات القبلية التى اشتعلت-كما مرّ بنا-نيرانها فى كل مكان، ومعروف أن الإسلام دعا إلى نبذ هذه العصبيات وحاربها حربا عنيفة، غير أن هذا-فيما يظهر-كان مثلا أعلى لم يستطع العرب تحقيقه إلا إلى فترة محدودة، فلم تكد نيرانها تتحول إلى رماد، حتى عادت إلى الظهور، إذ نشبت حرب الرّدّة وأشرع فيها الشعراء ألسنتهم صادرين عن روحهم القبلية، على نحو ما يروى عن أبى شجرة السّلمى وانتصاره للمرتدين من قبيلته سليم، وكأن من دخلوا هذه الحرب أرادوا أن يخلعوا عنهم سلطان قريش. وقضى أبو بكر الصديق قضاء مبرما على هذه الفتنة، ودفع العرب إلى الفتوح، ولكنهم لا يكادون يهدأون، حتى تحدث فتنة عثمان وتنشب الحروب بين علىّ وخصومه: طلحة والزبير وعائشة ثم معاوية. وكانت كثرة جيشه من اليمانية وربيعة، ونراهما تتنافسان فى قيادة حربه بموقعة الجمل، كما تتنافسان فى موقعة صفّين ضد معاوية، ويتبادل شعراؤهما الطعن والتجريح كلّ يصور حسن بلاء قومه فى الحرب. والتقت بهذه الأصوات أصوات مضريّة كثيرة. وحدث هذا نفسه فى صفوف خصومه، مما نجد آثاره فى الطبرى وفى
وقعة صفّين لنصر بن مزاحم. وعبثا حاول علىّ أن يعلى كلمة الإسلام الذى حاول أن يمحو الدعوات الجاهلية وما اتصل بها من عصبيات، إذ لم تلبث طائفة كبيرة فى جيشه بعد قبوله للتحكيم أن نظرت فى تولّى قريش تدبير الأمور فى الأمة، وأن من حقها جميعا أن يكون لها الحكم والسلطان. وبسرعة تكونت جماعة الخوارج وشهرت سيوفها فى وجهه مما اضطره أن يحاربها ويذيقها وبال انتكاسها وخروجها على الجماعة.
ومما لا شك فيه أن موقف معاوية كان سببا قويّا من أسباب استشعار جماعته للعصبية القبيلة، فقد مضى يطالب بحق عشيرته الأموية فى الأخذ بثأر عثمان، وكأنه أحيى قاصدا أو غير قاصد الفكرة القديمة التى كانت تجعل حق الثأر للقبيلة والعشيرة. ومعروف أن الإسلام هدم هذا الحق وحوّله من القبائل والأفراد إلى الدولة، فهى التى تعاقب عليه بما يفرضه دستور القرآن الكريم. وزاد فى استشعار العصبية فى صفوفه أنه كان يعتمد على قبيلة كلب اليمنية، وكان بينها وبين الأمويين مصاهرات مختلفة، فإن عثمان تزوج منها بنائلة بنت الفرافصة. وتزوج معاوية من ميسون بنت بحدل، وهى أم ابنه يزيد، وكذلك تزوج مروان بن الحكم ليلى بنت زبّان بن الأصبغ الكلبية، وهى ابنة عم نائلة.
وقد استغل معاوية فى حربه لعلى ذلك، لأن الصّهر عند العرب كالنسب، ووسّع استغلاله، إذ ضمّ تحت لوائه جميع القبائل اليمنية الشامية.
وعلى هذا النحو كانت العصبية القبلية تسرى فى أحداث هذه الفترة، وهدأت الأمور نحو ربع قرن، حتى إذا توفّى يزيد وجدنا العصبية تستعر بين القبائل فى الشام والجزيرة وفى البصرة وخراسان. أما فى الشام والجزيرة فاندلعت بسبب نزول قيس فيهما واصطدامها فى أولاهما بكلب والقبائل اليمنية وفى ثانيتهما بتغلب الرّبعية. وكانت وفاة يزيد بن معاوية إشارة الوقت لهذا. الاندلاع، فقد بايعت قيس ابن الزبير وبايعت اليمنية وتغلب مروان بن الحكم، وسلّ الطرفان سيوفهما فى معارك حامية تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع، وانبعث شعراء كل طرف يفتخرون ويهجون، بالضبط، كما كان يفتخر آباؤهم فى الجاهلية ويهجون.
وفى نفس الوقت نجد الحلفين الكبيرين فى البصرة: حلف تميم وقيس من جهة وحلف الأزد وربيعة واليمنية من جهة أخرى يستشعران العصبية القبلية استشعارا حادّا. ومرّ بنا فى غير هذا الموضع كيف اصطدم الحلفان بعد فرار عبيد الله بن زياد عن العراق، وكيف أفضى الاصطدام إلى القتال، لولا أن تدارك الأمر الأحنف بن قيس فرتق الفتق. وقد ظلت نفوس الحلفين تغلى طوال العصر، وظل الشعراء يتصايحون صياحهم القبلى حتى لنجد أبا نخيلة، وهو ممن أدركوا الدولة العباسية ينظم أرجوزة طويلة يذكر فيها حرب قومه التميميين مع الأزد وربيعة مفاخرا بانتصارهم على شاكلة قوله (1):
نحن ضربنا الأزد بالعراق
…
والحىّ من ربيعة المرّاق
ضربا يقيم صعر الأعناق
…
بغير أطماع ولا أرزاق (2)
إلاّ بقايا كرم الأعراق
ولم تحتدم العصبيات القبلية فى البصرة فحسب، فقد انتقلت إلى خراسان لسبب طبيعى، وهو أن أكثر جيوشها كانت تتألف من جند البصرة، إذ هم الذين ابتدءوا فتحها منذ عهد عمر، وتوالت بعد ذلك كتائبهم وفرقهم هناك، فكان طبيعيا أن تنعكس بها نيران هذه العصبيات، وقد أخذت تزداد تأججا واشتعالا بعامل المنافسة على قيادة الجيوش وولاية الثغور، إذ كان الوالى هناك يولّى عماله وقواده من قبيلته وأحلافها، فإذا تولّى المهالبة مثلا قدّموا رجال الأزد وربيعة واليمن وانتكست قيس وتميم، وإذا تولى قتيبة بن مسلم الباهلى مثلا رفعت قيس وتميم رءوسهما وانتكست الأزد وأحلافها. ولم تقف المسألة عند ذلك فإن القبائل فى الحلف الواحد كثيرا ما اختلفت وتحاربت وتطاحنت بسبب الاختلاف على المغانم وطمعا فى اكتنازها، واقرأ فى أى شاعر ممن عاشوا هناك وترجم له صاحب الأغانى فستراه دائما يذود عن قبيلته بلسانه، سواء كان من أصولها أو من مواليها، على نحو ما مرّ بنا من استعار الهجاء بين زياد الأعجم مولى
(1) طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص 63.
(2)
الصعر: الميل، وصعر الأعناق كناية عن الكبر والغطرسة، وأصله ميل العنق والنظر عن الناس تهاونا واستكبارا.
عبد القيس وكعب الأشقرى الأزدى، وكان زياد يهاجى أيضا المغيرة بن حبناء التميمى وقتادة بن مغرّب اليشكرى وابن عمه أبا جلدة (1). وقد يرتفع صوت فى أثناء هذا الضجيج باعتزال هذه الحرب اللسانية وما تطوى من عصبيات عنيفة على شاكلة قول نهار بن توسعة (2):
أبى الإسلام لا أب لى سواه
…
إذا هتفوا ببكر أو تميم
ولكن مثل هذا الصوت كان يضيع فى غمار هذه العصبيات التى استعلى سلطانها فى العصر استعلاء شديدا، وهو استعلاء سقطت منه آثار مختلفة فى جميع البيئات.
وقد قلنا فيما أسلفنا إن الكوفة شغلت عن العصبيات القبلية بتشيعها وخصومتها للأمويين، ومع ذلك فإننا نجد هناك الكميت بن زيد الأسدى يثير معركة حامية مع حكيم (3) بن عياش الكلبى وهرون (4) مولى الأزد، وكثيرا ما كانت تثار معارك بين شعراء العشائر والبطون، ولكنها على كل حال لم تحتدم هناك على نحو ما احتدمت فى خراسان والبصرة. وإذا ولّينا وجوهنا نحو المدينة وجدنا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت يتهاجى مع عبد الرحمن بن الحكم الأموى هجاء مريرا (5)، ويقال إنه هجا يزيد بن معاوية وشبّب بأخته رملة تشبيبا أحفظه، فأغرى الأخطل بهجائه، فجهاه وهجا قومه الأنصار، وأغضب ذلك النعمان ابن بشير، فتعرض للأخطل بهجاء عنيف (6):
ويلقانا فى نجد هجاء كثير دار على ألسنة شعراء القبائل، ولعل من خير ما يمثله تهاجى المرّار بن منقذ الأسدى ومساور بن هند العبسى. ومن طريف ما للمرار قوله (7):
(1) أغانى (دار الكتب) 11/ 321.
(2)
الشعر والشعراء 1/ 521.
(3)
أغانى (ساسى) 15/ 12 ومعجم الأدباء 10/ 247.
(4)
الحيوان 7/ 75.
(5)
أغانى (ساسى) 13/ 141 والمبرد ص 289.
(6)
انظر فى ترجمة النعمان بن بشير أغانى (ساسى) 13/ 147، 14/ 114 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 456 وقد طبع له ديوان على الحجر فى دهلى ونشره كرنكو مع ديوان أبى بكر بن العزيز.
(7)
أغانى (دار الكتب) 10/ 318.
شقيت بنو عبس بشعر مساور
…
إن الشقىّ بكل حبل يخنق
ومرّ بنا ما كان من مهاجاة شبيب بن البرصاء الذبيانى وابنى عمه عقيل بن علّفة وأرطاة بن سهيّة ومهاجاة ابن ميّادة والحكم الخضرى، وكان فى ابن ميّادة (1) شر كثير جعله يهاجى كثيرين من مثل عقبة بن كعب بن زهير وعقال بن هاشم اليمنى وشقران مولى بنى سلامان.
وعملت بجانب هذه العصبيات أسباب شخصية كثيرة على اندلاع نيران الهجاء، فمن ذلك أن ينتصر أحد الشعراء لزميل فى تهاجيه مع زميل آخر، حينئذ يرميه بسهام هجائه، على نحو ما هو معروف عن جرير فى تهاجيه مع الفرزدق إذ كان كثير من الشعراء يقفون مع خصمه ضده. فكان ينصبّ عليهم شواظ نار. وقد يفاضل أحد الولاة أو الأجواد بين من يمدحونه من الشعراء فيزيد شاعرا فى جائزته على زميله أو زملائه، فيغضب المفضول، ويسقط بغضبه على من فضله كما مر بنا فى تهاجى المغيرة بن حبناء، وزياد الأعجم. وقد يبطئ الممدوح على مادحه بمكافأته، فيتحول إلى هجائه على نحو ما هجا الحزين الكنانى عمرو بن عمرو بن الزبير بقوله (2):
مواعيد عمرو ترّهات ووجهه
…
على كل ما قد قلت فيه دليل
جبان وفحّاش لئيم مذمّم
…
وأكذب خلق الله حين يقول
وقد يحرم ممدوح مادحا له من نواله فيسرع إلى هجائه على نحو ما كان من عكرمة بن ربعى مع المتوكل (3) الليثى، وقد لا تقوم مكافأة الممدوح فى
(1) انظر فى ترجمة ابن ميادة الشعر والشعراء 2/ 747 والمؤتلف 174 والأغانى (طبع دار الكتب) 2/ 261 وما بعدها والاشتقاق ص 287 والخزانة 1/ 76 والموشح ص 228.
(2)
أغانى دار الكتب 15/ 338
(3)
انظر فى ترجمة المتوكل ابن سلام ص 551 وما بعدها وأغانى (دار الكتب) 12/ 159 ومعجم الشعراء ص 339 وهو صاحب البيت المشهور: لاتنه عن خلق وتأتى مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
رأى المادح بما قدّم له من مديحه. فيهجوه ويسرف فى هجوه على نحو ما صنع الشّمردل بهلال (1) بن أحوز المازنى فارس تميم فى عصره غير مدافع. وقد يحجب الممدوح مادحه فلا يأذن له بلقائه، فيصبّ عليه نار هجائه، على نحو ما روى الرواة عن حجب مقاتل بن مسمع بن مالك لأبى جلدة الشكرى، فقد تولّى يهجوه بمثل قوله (2):
قرى ضيفه الماء القراح ابن مسمع
…
وكان لئيما جاره يتذلّل
وقد يمتدح الشاعر أحد العمال ويطلب إليه حاجة فلا يقضيها، حينئذ ينتقم منه بهجائه، على نحو ما كان من زياد الأعجم مع عبّاد بن الحصين، وكان على شرطة القباع والى ابن الزبير على البصرة، فسأله حاجة فازوّر عنه فهجاه وهجا عشيرته الحبطات طويلا، وفيها يقول (3):
رأيت الحمر من شرّ المطايا
…
كما الحبطات شرّ بنى تميم
وعلى هذا النحو أصبحنا نجد الأجواد والقواد والولاة الذين مرت بنا أسماؤهم والذين طالما مدحهم الشعراء يهجون كثيرا أو قليلا، فزياد وبنو زياد يهجوهم ابن مفرّغ، والحجاج يهجوه العديل (4) بن الفرخ العجلى ومالك (5) بن الريب التميمى. وفيه يقول (6):
ولولا بنو مروان كان ابن يوسف
…
كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّه
…
يراوح صبيان القرى ويغادى
وكان الفرزدق مولعا بهجاء كثير من الولاة والعمّال عصبية لقبيلته تميم
(1) أغانى (دار الكتب) 13/ 358.
(2)
أغانى 11/ 331.
(3)
البيان والتبيين 4/ 37 والخزانة 4/ 280.
(4)
أغانى (ساسى) 20/ 13.
(5)
انظر فى ترجمة مالك الشعر والشعراء 1/ 312 وأغانى (ساسى) 19/ 163 والخزانة 1/ 317 ومعجم الشعراء ص 265.
(6)
المبرد ص 290.