الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فإن لم يكن فى كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن فى سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيى لا آلو، قال: فضرب بيده فى صدرى، وقال: الحمد لله الذى وفّق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله» (1). وقد نما الاجتهاد بعد وفاة الرسول بحكم الفتوح واتساع الدولة، ولم يكن الخلفاء يفتون بآرائهم إلا بعد استشارة الصحابة (2). ومصّرت الأمصار وسرعان ما أخذت تظهر جماعات من الفقهاء فى كل مصر إسلامى تحمل للناس تعاليم القرآن وسنة الرسول، وكانوا إذا عرض لهم أمر لم يجدوا حكمه فى القرآن والسنة اجتهدوا وأفتوا الناس فيه برأيهم.
وفى كل ما قدمنا ما يدل بوضوح على أن الإسلام رفع من شأن العقل الإنسانى إذ جعله الحكم فى فروع الشريعة وحثّه على استكمال سيطرته على الطبيعة وقوانينها، كما حثه على التزود بجميع المعارف. وفتح الأبواب واسعة أمامه كى يجتهد فى مسالك الدين العملية. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا المسلمين يتحولون مع الفتوح إلى معرفة كل ما لدى الأمم المفتوحة من تراث عقلى، وسرعان ما شادوا صرح حضارتهم الرائعة، وقد مضوا يستخدمون كل طاقاتهم الذهنية فى جميع صور المعرفة دينية وغير دينية. وكان لما أصّله الإسلام من حق الاجتهاد العقلى أثر واسع فى أن أصبح الإسلام نفسه قابلا للتطور، وحقّا أصوله العقيدية زمنية أبدية، ولكنها أصول أسّست على العقل الصحيح وفسحت له فى التشريع.
3 - قيم اجتماعية
كان العرب يعيشون فى الجاهلية قبائل متنابذة، لا يعرفون فكرة الأمة إنما يعرفون فكرة القبيلة وما يربط بين أبنائها من نسب، وكل قبيلة تتعصب لأفرادها تعصبا شديدا، فإذا جنى أحدهم جناية شركته فى مسئوليتها، وإذا قتل لها
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (طبع القاهرة) 2/ 55
(2)
مصطفى عبد الرازق ص 158 وما بعدها.
أحد أبنائها هبّت للأخذ بثأره هبة واحدة. فلما جاء الإسلام أخذ يضعف من شأن القبيلة ويحلّ محلها فكرة الأمة، يقول جلّ ذكره:{(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)} {(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ)} وهى أمة يعلو فيها السلطان الإلهى على السلطان القبلى وعلى كل شئ، ومن ثمّ أصبحت الرابطة الدينية لا الرابطة القبلية هى التى توحّد بين الناس. وكان أول ما وضعه الإسلام لإحكام هذه الرابطة أن نقل حق الأخذ بالثأر من القبيلة إلى الدولة، وبذلك لم يعد الثأر-كما كان الشأن فى الجاهلية-يجرّ ثأرا فى سلسلة لا تنتهى، من الحروب والمعارك الدموية، بل أصبح عقابا بالمثل، وأصبح واجبا على القبيلة أن تقدّم القاتل لأولى الأمر حتى يلقى جزاءه. وقد مضى الإسلام يحاول القضاء على العصبية القبلية كما قضى على قانونهم القديم: الثأر للدم، يقول عزّ شأنه:
{(يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)} ، ويقول الرسول فى خطبة حجّة الوداع:«أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير، وليس لعربى على عجمىّ فضل إلا بالتقوى.» (1)
وأخذ الإسلام يرسى القواعد الاجتماعية لهذه الأمة، بحيث تكون أمة مثالية يتعاون أفرادها على الخير آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، يسودهم البر والتعاطف، حتى لكأنهم أسرة واحدة، محيت بين أفرادها كل الفوارق القبلية والجنسية، وأيضا فوارق الشرف والسيادة الجاهلية، فالناس جميعا سواء فى الصلاة وجميع المناسك وفى الحقوق والواجبات، وينبغى أن يعودوا إخوة، يشعر كل واحد منهم بمشاعر أخيه، باذلا له ولمصلحة هذه الأمة كل ما يستطيع، فهو لا يعيش لنفسه وحدها، وإنما يعيش أيضا للجماعة يفديها بروحه وبماله وبكل ما أوتى من قوة. ومن ثمّ وضع نظام الزكاة وعدّت-كما قدمنا-ركنا أساسيّا فى الدين، فواجب كل شخص أن يقدم من ماله سنويّا فرضا مكتوبا عليه للفقراء وللصالح العام.
(1) البيان والتبيين (طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) 2/ 33.
وبذلك أصبح للفقير حق معلوم فى مال الغنى، يؤديه إليه راضيا. ومدّ القرآن الكريم هذا الحق، إذ دعا دعوة واسعة إلى الإنفاق فى سبيل الله، لا بالزكاة فحسب، بل بكل ما يهبه الأغنياء تقربا إلى الله ورغبة فى حسن المثوبة، يقول جلّ وعزّ:{(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. .} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. .}
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. .} {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).}
وعلى هذه الشاكلة حاول القرآن الكريم أن يقيم ضربا من العدالة الاجتماعية فى محيط هذه الأمة الجديدة، إذ جعل ردّ الغنى بعض ماله على الفقير وعلى الصالح العام للأمة حقّا دينيّا. إنه لا يعيش لنفسه وحدها، بل يعيش أيضا لأمته ويترابط معها ترابطا اقتصاديّا كما يترابط فى وجدانه وإيمانه. وقد اندفع كثير من الصحابة ينفقون أموالهم جميعها فى سبيل الله، ويؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما نفعنى مال ما نفعنى مال أبى بكر» (1) وكان غيره من أغنياء الصحابة يقتدون به، فقد جهّز عثمان جيش العسرة فى غزوة تبوك بتسعمائة وخمسين بعيرا وأتمّ الألف بخمسين فرسا (2)، وكثر مال عبد الرحمن ابن عوف حتى قدم عليه فى إحدى تجاراته سبعمائة راحلة تحمل القمح والدقيق والطعام فجعلها جميعها فى سبيل الله (3). ولم يعن الإسلام فقط بتنظيم العلاقة بين الغنى من جهة والفقير والصالح العام من جهة ثانية، بل عنى أيضا بتنظيم العلاقات العامة كالميراث وتنظيم المعاملات كالتجارة والزراعة والصناعة، فقد أوجب
(1) الاستيعاب (الطبعة الأولى) ص 342.
(2)
الاستيعاب ص 488.
(3)
سير أعلام النبلاء للذهبى (طبع دار المعارف) 1/ 50.
للعامل أجرا يتقاضاه جزاء عمله، وأوجب على التاجر أن لا يستغلّ الناس بأى وجه من الوجوه، سواء فى الكيل والميزان أو فى التعامل المالى، يقول جلّ شأنه:
{(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ)} {(وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ)} {(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. .} {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا.).} ولا يكاد يكون هناك جانب من جوانب الحياة الاجتماعية إلا وضع فيه الإسلام من السنن والقوانين ما يكفل للناس حياة مستقيمة قوامها العدالة.
وقد نظّم حقوق المرأة ورعاها خير رعاية، إذ كانت مهضومة الحقوق فى الجاهلية، فردّ إليها حقوقها، وجعلها كفؤا للرجل، لها ماله من الحقوق، يقول تبارك وتعالى:{(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)} وأيضا لهن مثل ما للرجال من السّعى فى الأرض والعمل والتجارة، يقول عزّ شأنه:{(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ).} وكان كثير من غلاظ القلوب يئدون بناتهم خشية العار، فحرّم ذلك القرآن، يقول جلّ ذكره:
وحرّم البغاء وشدّد فى النكير عليه حتى القتل. ونظّم الزواج وجعله فريضة محبّبة إلى الله ونعمة من نعمه {(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).} ودعا فى غير آية إلى معاملة الزوجات بالمعروف. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فى خطبة حجّة الوداع: «أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقّا، ولكم عليهن حق، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم وأن لا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن فى المضاجع وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان (أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله. . فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرا» . وأباح الإسلام الطلاق ولكنه جعله أبغض الحلال إلى الله، ويقول جلّ شأنه:{(فَإِنْ}