المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - الفرزدق - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٢

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌العصر الإسلامى

- ‌الكتاب الأولفى عصر صدر الإسلام

- ‌الفصل الأولالإسلام

- ‌1 - قيم روحية

- ‌2 - قيم عقلية

- ‌3 - قيم اجتماعية

- ‌4 - قيم إنسانية

- ‌الفصل الثانىالقرآن والحديث

- ‌1 - نزول القرآن وحفظه وقراءاته

- ‌2 - سور القرآن وتفسيره فى العهد الأول

- ‌3 - اثر القرآن فى اللغة والأدب

- ‌4 - الحديث النبوى

- ‌الفصل الثالثالشعر

- ‌1 - كثرة الشعر والشعراء المخضرمين

- ‌2 - الشعر فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - الشعر فى عصر الخلفاء الراشدين

- ‌4 - شعر الفتوح

- ‌الفصل الرابعالشعراء المخضرمونومدى تأثرهم بالإسلام

- ‌1 - كثرة المخضرمين المتأثرين بالإسلام

- ‌4 - لبيد

- ‌5 - الحطيئة

- ‌الفصل الخامسالنثر وتطوره

- ‌1 - تطور الخطابة

- ‌2 - خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - خطابة الخلفاء الراشدين

- ‌4 - الكتابة

- ‌الكتاب الثانىفى عصر بنى أمية

- ‌الفصل الأولمراكز الشعر الأموى

- ‌1 - المدينة ومكة

- ‌2 - نجد وبوادى الحجاز ونزوح قيس إلى الشمال

- ‌3 - الكوفة والبصرة

- ‌4 - خراسان

- ‌5 - الشام

- ‌6 - مصر والمراكز الأخرى

- ‌الفصل الثانىمؤثرات عامة فى الشعر والشعراء

- ‌1 - الامتزاج بالأمم الأجنبية وتعرّبها وأثر ذلك فى اللغة

- ‌2 - الإسلام وأثره فى موضوعات الشعر

- ‌3 - السياسة

- ‌4 - الحضارة

- ‌5 - الثقافة

- ‌6 - الاقتصاد وموقف العرب من الموالى

- ‌الفصل الثالثشعراء المديح والهجاء

- ‌1 - شعراء المديح

- ‌ نصيب

- ‌القطامى

- ‌2 - شعراء الهجاء

- ‌ ابن مفرّغ

- ‌ الحكم بن عبدل

- ‌3 - شعراء النقائض

- ‌4 - الأخطل

- ‌5 - الفرزدق

- ‌6 - جرير

- ‌الفصل الرابعشعراء السياسة

- ‌1 - شعراء الزبيريين

- ‌ ابن قيس الرقيات

- ‌2 - شعراء الخوارج

- ‌ عمران بن حطّان

- ‌الطّرمّاح

- ‌3 - شعراء الشيعة

- ‌ كثيّر

- ‌الكميت

- ‌4 - شعراء ثورة ابن الأشعث

- ‌ أعشى همدان

- ‌5 - شعراء بنى أمية

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل الصريح

- ‌ عمر بن أبى ربيعة

- ‌الأحوص

- ‌العرجى

- ‌2 - شعراء الغزل العذرى

- ‌ قيس بن ذريح

- ‌3 - شعراء الزهد

- ‌أبو الأسود الدّؤلى

- ‌4 - شعراء اللهو والمجون

- ‌أبو الهندى

- ‌5 - شعراء الطبيعة

- ‌ذو الرّمّة

- ‌6 - الرّجّاز

- ‌العجّاج

- ‌رؤبة

- ‌الفصل السادسالخطابة والخطباء

- ‌1 - ازدهار الخطابة

- ‌2 - خطباء السياسة

- ‌ زياد بن أبيه

- ‌3 - خطباء المحافل

- ‌ الأحنف بن قيس

- ‌4 - خطباء الوعظ والقصص

- ‌ الحسن البصرى

- ‌الفصل السابعالكتابة والكتّاب

- ‌1 - التدوين

- ‌2 - كثرة الرسائل المدوّنة

- ‌3 - كتّاب الدواوين

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌5 - الفرزدق

‌5 - الفرزدق

(1)

شاعر تميمى، وكانت تميم تنزل فى الجاهلية بشرقى الجزيرة، وتمتد عشائرها وبطونها من اليمامة إلى شواطئ الفرات، وتتغلغل فى نجد. مما جعلها تصطدم بالقبائل اليمنية والمضرية والربعية فى أيام كثيرة، كما اصطدمت بالحيرة وملوكها المناذرة. وتعدّ أكبر القبائل المضرية، وهى فى حقيقتها مجموعة من القبائل، تنتسب إلى أب واحد. وعلى نحو ما كانت تصطدم بجيرانها كانت تصطدم قبائلها بعضها ببعض، ومن أشهر هذه القبائل دارم ويربوع ومازن ومنقر وبنو الهجيم وبنو أنف الناقة. ويفيض كتاب شرح نقائض جرير والفرزدق فى الحديث عن أيامها وحروبها القديمة، ومن أهمها «أوارة» بين دارم وعمرو بن المنذر ملك الحيرة و «الرّحرحان» بين دارم وعامر و «ذو نجب» بين يربوع وعامر و «النّباج» بين منقر وبكر و «إراب» بين يربوع وتغلب و «جبلة» بين تميم ومعها ذبيان، وعامر ومعها عبس و «طخفة» بين دارم ويربوع.

وكانت وثنية إلا نفرا قليلا تنصروا، وهم يسمّون فى الحيرة بالعباديين. ومن أشهر شعرائها الجاهليين أوس بن حجر وسلامة بن جندل وعلقمة الفحل وعدى بن زيد العبادى، ومن شعرائها فى صدر الإسلام عبدة بن الطبيب ومتمم

(1) انظر فى ترجمة الفرزدق الأغانى (طبع ساسى) 19/ 2 وما بعدها وأخباره مع ابن الزبير وزوجه النوار فى أغانى (دار الكتب) 9/ 324 وما بعدها وراجع فيه الشعر والشعراء 1/ 443 وابن سلام 249 وما بعدها والموشح ص 99 وما بعدها معجم الأدباء لياقوت 19/ 297 وخ انة؟ ؟ ؟ 1/ 105 ومرآة الجنان لليافعى؟ ؟ ؟ /238 وأمالى المرتضى 581 وما بعدها. وله أخبار متفرقة فى الأغانى انظر الفهرس، وراجع الإصابة 5/ 220 والطبرى 4/ 180 وما بعدها وص 216، 231، 283 306 والمبرد ص 69 وما بعدها، 128، 208، 288، 292 والأمالى 3/ 53 وكذلك الاستيعاب لابن عبد البر ص 469 ومعجم الشعراء للمرزبانى ص 465 والاشتقاق ص 239 وما بعدها. وقد طبع ديوانه طبعات مختلفة، طبع بوشيه جزءا كبيرا منه وأكمله هل. وطبع فى مصر وبيروت طبعات مختلفة، أهمها طبعة الصاوى. ونشر بيقن كما قدمنا نقائضه مع جرير بشرح أبى عبيدة، والديوان والنقائض جميعا فى حاجة إلى نشرة علمية محققة.

ص: 265

ابن نويرة. وقد دخلت فى الإسلام بعد فتح مكة، وكانت من أسرع القبائل إلى الردة، إذ ظهرت فيها متنبئة تسمى سجاح. وتبعها كثيرون، فجمع لها أبو بكر الجموع بقيادة خالد بن الوليد. وسرعان ما عادت تميم إلى الإسلام، مستضيئة بنوره، وشاركت مشاركة ضخمة فى فتوح إيران وخراسان. ونجدها بارزة فى معارك صفّين، كما نجد فئات كثيرة منها تنضم إلى الخوارج فى زمن على بن أبى طالب، ثم فيما تلاه من أزمنة، وخاصة فى صفوف الأزارقة. وقد مرّ بنا أنها تحالفت فى البصرة مع قيس ضد الأزد وربيعة، وظهرت نتيجة هذا الحلف عقب وفاة يزيد بن معاوية، فقد اصطدمت بالأزد، وظلتا متنافرتين طول العصر لا فى البصرة فحسب، بل أيضا فى خراسان.

وكانت دارم تتشعّب شعبا أهمها بنو فقيم وبنو نهشل وبنو مجاشع، وفى بيت نبيل من بيوت العشيرة الأخيرة ولد الفرزدق وهو لقب لقّب به لجهامة وجهه وغلظه، فإن الفرزدقة الخبزة الغليظة التى يتخذ منها النساء الفتوت. واسمه همّام ابن غالب بن صعصعه بن ناجية بن عقال، وجميعهم فى ذروة الشرف والسيادة من دارم. وقد اشتهر جده صعصعة بأنه كان ممن فدى الموءودات فى الجاهلية وتنهى عن قتلهن، ويقال إنه فدى أربعمائة منهن، وقيل دون ذلك، ونوّه الفرزدق فى شعره بهذه المكرمة لجده طويلا، من مثل قوله:

أبى أحد الغيثين صعصعة الذى

متى تخلف الجوزاء والنّجم يمطر

أجار بنات الوائدين ومن يجر

على القبر يعلم أنه غير مخفر

وكان لصعصعة قيون منهم جبير ووقبان وديسم، ومن ثمّ جعل جرير مجاشعا قيونا كذبا وبهتانا. وصعصعة أحد من أتوا النبىّ صلى الله عليه وسلم فى وفد تميم. وعلى نحو ما كان صعصعة عظيم القدر فى الجاهلية كان ابنه غالب فى الإسلام وأمه ليلى أخت الأقرع بن حابس، وكان بحرا فياضا، ومما يروى من جوده السّيّال أن نفرا اختاروه بين طائفة من الأجواد يسألونهم ليعرفوا مدى جودهم، فما كاد يسمع مسألتهم حتى أعطاهم مائة ناقة دون أن يعرفهم. ويروى أن دارما ويربوعا أصابتهما سنة مجدبة، فعقر لعشيرته ناقة، وبادر سيد يربوع سحيم بن وثيل فصنع صنعه، فنحر عشرا من الإبل، فنحر سحيم مثله عشرا.

ص: 266

فلما رآه ينافسه نحر إبله كلها فى مكان يسمى صوءر، وقيل إنها كانت مائة، وقيل بل كانت أربعمائة. وافتخر الفرزدق بالحادثين كثيرا فى شعره. ولم يكن يتلفع بالشرف من قبل أبيه وحده فقد كانت أمه من أسرة شريفة من قبيلة ضبة. وكانت له أخت تسمى جعثن، وتصادف أن أحد أشرار بنى منقر رآها فضرب بيده على نحرها. فصرخت ومضى، وقد عيّر جرير الفرزدق بذلك كثيرا حتى لنراه يرميها بالفحشاء افتراء، إذ كانت سيدة فاضلة.

وليس بين أيدينا ما يدل على السنة التى ولد فيها الفرزدق، وأغلب الظن أنه ولد حوالى سنة عشرين للهجرة، ففى أخباره أنه قال «: كنت أهاجى شعراء قومى وأنا غلام فى خلافة عثمان» وخلافته امتدت من سنة ثلاث وعشرين إلى خمس وثلاثين للهجرة. وفى أخباره أيضا أن أباه قدّمه إلى على بن أبى طالب بعد موقعة الجمل سنة 36، وقال له إن ابنى هذا شاعر، فنصحه أن يعلّمه القرآن.

وواضح مما قدمنا أن الفرزدق نشأ فى بيت كريم، مآثره ومفاخره لا تدفع، وكان لذلك أثر عميق فى نفسيته إذ كان يعتدّ بآبائه اعتدادا شديدا، كما كان يعتد بعشيرته وقبيلته، حتى إنه يعدّ أضخم صوت لتميم فى هذا العصر، وجعله ذلك يتمسك بمآثر أهله وكرمهم المسرف، فإذا باع إبله نثر أموالها على الناس، لينتسب فيهم، وظل يجير على قبر أبيه غالب، على نحو ما كان أجداده يجيرون. ولما توفّى صديقه بشر بن مروان نحر ناقته على قبره كما كان يصنع الجاهليون. وأخلاق الفرزدق من هذه الناحية تتصل بالأخلاق الجاهلية، وبكل ما ينطوى فى هذه الأخلاق من إثم، فقد عرف بفسقه وشربه للخمر التى حرّمها الإسلام، وأيضا بكل ما ينطوى فى هذه الأخلاق من عصبية وغلظة.

وهو من هذه الناحية يمثّل البدوى التميمى شديد الشكيمة الذى لا يدين بالطاعة للسلطان، ولعله من أجل ذلك ظل طويلا بعيدا عن قصر بنى أمية فى دمشق، وكأنه كان يحسّ أنه من أسرة لا تقل عن أسرة بنى أمية شرفا وسيادة. ونرى هذا الإحساس واضحا حين ألمّ عم له يسمى الحتات بمعاوية مع وفد من تميم، فقد تصادف أن توفّى قبل مغادرة الوفد دمشق، فأمر معاوية بأخذ ما كان أعطاه من مال، ولم يكد يسمع بذلك الفرزدق حتى نظم قصيدة فى معاوية يقول فيها:

ص: 267

فما بال ميراث الحتات أخذته

وميراث حرب جامد لك ذائبه (1)

فلو كان هذا الأمر فى جاهليّة

علمت من المرء القليل حلائبه (2)

ويقول بعض الرواة إن أول شعر قاله الفرزدق نظمه فى ذئب ذهب بكبش من غنم لأهله، وهو يستهلّه بقوله:

تلوم على أن صبّح الذئب ضأنها

فألوى بكبش وهو فى الرّعى راتع

وهى أبيات جيدة الصياغة. وفى أخباره كما مر بنا ما يدل على أنه نشأ حديد اللسان محبا للخصومات، يهجو من حوله من قومه وغير قومه، وكان ممن هجاهم وأسرف فى هجائهم بنو فقيم وذلك أنهم خرجوا يطلبون دما لهم فى قوم، فصالحوا منه على دية، فقال حين رجعوا:

لقد آبت وفود بنى فقيم

بآلم ما تؤوب به الوفود

ومضى يهجوهم هجاء كثيرا، فاستغاثوا منه بالأشهب بن رميلة النّهشلى، واستعر الهجاء والتفاخر بينهما، حينئذ رفعوا أمره إلى زياد بن أبيه. وكان ذلك فى سنة خمسين للهجرة، فطلبه، وخافه الفرزدق، فهرب منه متجها نحو البادية، وأخذ يستجير ببعض شيوخ القبائل، فأجاره قوم من بكر بن وائل، وأعانوه على الفرار، فولّى وجهه نحو المدينة وعليها سعيد بن العاص من قبل معاوية، وكان سيدا ممدّحا، فأمّنه وأجاره، ومدحه مدائح رائعة من مثل قوله:

ترى الغرّ الجحاجح من قريش

إذا ما الأمر فى الحدثان غالا (3)

قياما ينظرون إلى سعيد

كأنهم يرون به هلالا

وسمعه الحطيئة وهو ينشد سعيدا هذه القصيدة. فقال: هذا والله الشعر لا ما نعلّل به منذ اليوم. وبلغه أن زيادا رقّ له وقال: لو أتانى لآمنته وأعطيته، فقال فى كلمة:

دعانى زياد للعطاء ولم أكن

لآتيه، ما ساق ذو حسب وفرا (4)

(1) حرب: جد معاوية.

(2)

الحلائب: الجماعات وأبناء العم فى القبيلة.

(3)

الغر: جمع أغر وأصله أبيض الغرة ويريد به الشريف. الجحاجح: جمع جحجاح وهو السيد الكريم. الحدثان: حوادث الدهر ونوائبه. وغال: أصاب بشر.

(4)

الوفر: المال الكثير. وأراد التأبيد أى لا آتيه أبدا.

ص: 268

ومضى فى المدينة ينفق أيامه ولياليه فى اللهو والاختلاف إلى دور القيان، وذكر ذلك فى شعره بمثل قوله:

إذا شئت غنّانى من العاج قاصف

على معصم ريّان لم يتخدّد (1)

وقوله:

هما دلّتانى من ثمانين قامة

كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسره

وقد أتاه جرير كثيرا من هذه الثّغرة فى خلقه وسلوكه. وكان معاوية يجعل المدينة تارة لسعيد بن العاص وتارة لمروان بن الحكم، فولى مروان، وكانت فيه شدة على أصحاب اللهو، فترك الفرزدق المدينة إلى مكة، وفى طريقه إليها أتاه نعى زياد فثابت إليه نفسه، ومضى إلى البصرة، وهناك وجد ابن عمه مسكينا الدارمىّ يتفجّع على زياد بمثل قوله:

رأيت زيادة الإسلام ولّت

جهارا حين ودّعها زياد

فحنق عليه حنقا شديدا، وهجاه بقصيدة يقول فيها:

أمسكين! أبكى الله عينك إنما

جرى فى ضلال دمعها فتحدّرا

وهجاه مسكين، وأمسك الفرزدق عنه، حتى لا يهدم شطر حسبه. ونراه يمدح عبيد الله بن زياد ويوسع له فى مجالسه. ولا يفارقه شره، فيهجو بنى منقر، ويغضب لهم مرّة بن محكان (2) شاعر بنى ربيع التميميين وسيدهم، فيهجوه وعشيرته بكلمة يقول فى تضاعيفها:

ترجّى ربيع أن يجئ صغارها

بخير وقد أعيا ربيعا كبارها

ويشتعل بينهما الهجاء. وندخل فى فترة فتتة ابن الزبير، وتتبعه العراق كما تبعته الحجاز، ويحدث أن يقتل مصعب ابن محكان. ونرى الفرزدق فى هذه الأثناء

(1) أراد بالعاج أساور العاج. قاصف: من القصف وهو الجلبة، يشير إلى وسوسة الأساور. زيان: ممتلئ. يتخدد: يتجعد.

(2)

انظر فى ترجمة مرة ابن سلام ص 275 والشعر والشعراء 2/ 667 وأغانى (ساسى) 20/ 9 ومعجم الشعراء ص 295.

ص: 269

يدخل-كما مر بنا-مع جرير فى معركة الهجاء التى استمر شررها يتطاير حتى توفّى، والتى أورثتنا نقائضهما آنفة الذكر. وينشب شجار بين الفرزدق وبين زوجه النّوار وهى ابنة أعين بن ضبيعة المجاشعى، وكان قد تزوجها راغمة، إذ خطبها خاطب من قريش فجعلته وليّها، فانتهز الفرصة، وأشهد أنها جعلت أمرها إليه وأنه يتزوجها على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق. فغضبت من ذلك وما زالت تغاضبه، وادّعت عليه طلاقا، ونازعته، وخرجت إلى عبد الله بن الزبير ونزلت على زوجته خولة بنت منظور بن زبّان الفزارى، وتشفّعت إليها. وتبعها الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير، فكان حمزة إذا أصلح شيئا من أمر الفرزدق قلبته عليه خولة، فقال الفرزدق:

أما البنون فلم تقبل شفاعتهم

وشفّعت بنت منظور بن زبّانا

ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا

مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا

وأمرهما ابن الزبير أن يحتكما إلى عامله فى العراق فمضت معه النوار مغاضبة له، ويقال: بل اصطلحا فى مكة، غير أنها ظلت تشارّه وتشاجره، إذ كانت تكره كثيرا من أمره، وكانت صالحة حسنة الدين. وخطب حدراء بنت زيق بن بسطام الشيبانية وكانت نصرانية وأخذ يمدحها ويعرّض بالنوار، فاستغاثت منه بجرير، فأغاثها وأخذ يهجو حدراء وقومها معها، وتصادف أن ماتت حدراء قبل أن يبنى بها، ويظهر أنه كان مزواجا، فقد تزوج زنجية أعقب منها ابنته مكية، وتزوج رهيمة النمرية وطيبة المجاشعية، ونشزتا منه فطلقهما، وما زالت النوار تغاضبه حتى طلقها وندم ندما شديدا، يقول فى كلمة له يصور ندمه:

ندمت ندامة الكسعىّ لما

غدت منى مطلّقة نرار (1)

وكانت جنّة فخرجت منها

كآدم حين أخرجه الضّرار (2)

ويذكر ابن قتيبة أنه ولد له لبطة وسبطة وخبطة وركضة من النوار وولد له أيضا زمعة. وكان شاعرا وإن لم يبلغ مبلغ أبيه فى الشعر. وفى تسميته

(1) الكسعى: شخص يضرب به المثل فى الندم.

(2)

الضرار: العصيان والمخالفة.

ص: 270

لأبنائه هذه الأسماء ما يدل من بعض الوجوه على غلظ نفسه ولا شك فى أن فشله المبكّر فى حياته الزوجية يدل على جفوته. ونراه مقربا من بشر بن مروان الذى ولى العراق لأخيه عبد الملك، حتى ليستثير الشعراء لمناقضة جرير وهجائه، وفيه يقول:

يا بشر إنك سيف الله صيل به

على العدو وغيث ينبت الشّجرا

وولى العراق الحجاج، وكانت فيه قسوة، فخشى بطشه ومضى يمدحه مدائح رائعة من مثل قوله:

إن ابن يوسف محمود خلائقه

سيان معروفه فى الناس والمطر

هو الشهاب الذى يرمى العدوّ به

والمشرفىّ الذى تعصى به مضر (1)

ونوّه طويلا بسيرته وقضائه على الرشوة والثوار وإقامته لموازين العدل، حتى إذا توفّى رثاه رثاء حارّا، يقول فيه:

ومات الذى يرعى على الناس دينهم

ويضرب بالهندىّ رأس المخالف (2)

وسرعان ما نجده يثوب إلى نفسه وعصبيته التميمية ضد قيس وزعيمها الحجاج وخاصة حين رأى سليمان بن عبد الملك يلى الخلافة، وكان أخوه الوليد حاول أن يخلعه من ولاية العهد، ولجّ معه الحجاج وولاته فى المشرق، وتصادف أن توفّى الحجاج قبل خلافة سليمان، فلما ولى لم يكن له هم إلا عمّال الحجاج وثار عليه قتيبة بن مسلم الباهلى القيسى بخراسان، فقتلته تميم وردّت الأمر إلى نصابه. حينئذ نرى الفرزدق يهجو الحجاج ويقذع فى هجائه، مستشعرا عصبية عنيفة لتميم. وكان يستشعر هذه العصبية دائما إلا أن يضطرّ اضطرارا للنزول عنها. وبتأثيرها نجده يشذ على ذوق مواطنيه، فيهجو المهلب الأزدى السيد الجواد والفارس الشجاع الذى لهج الشعراء باسمه، ويحاول ابنه يزيد حين صار إليه الأمر بعد أبيه أن يستقدمه إليه فى جرجان، ليضفى عليه من نواله، فيأبى قائلا:

(1) تعصى هنا: تضرب، من العصا.

(2)

الهندى: السيف.

ص: 271

دعانى إلى جرجان والرّىّ دونه

لآتيه، إنى إذن لزءور (1)

سآبى وتأبى لى تميم وربما

أبيت فلم يقدر علىّ أمير

حتى إذا ولى يزيد العراق لعصر سليمان بن عبد الملك مضى يمدحه مسرفا فى مديحه على شاكلة قوله:

إنى رأيت يزيد عند شبابه

لبس التّقى ومهابة الجبّار

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرّقاب نواكس الأبصار

ودار الزمن فثار ابن المهلب على يزيد بن عبد الملك، وقضى على ثورته مسلمة تعينه تميم وفارسها المغوار هلال بن أحوز المازنى الذى تعقب آل المهلب فى قندابيل وقضى عليهم قضاء مبرما، حينئذ نجد الفرزدق يفتخر بهلال وصنيع تميم، هاجيا يزيد بن المهلب وأسرته هجاء مرا (2).

وقد قلنا آنفا إنه ظل طويلا لا يفد على قصر بنى أمية فى دمشق، وأول من وفد عليه من خلفائهم سليمان بن عبد الملك، وله يقول:

تركت بنى حرب وكانوا أئمة

ومروان لا آتيه والمتخيّرا

أباك وقد كان الوليد أرادنى

ليفعل خيرا أو ليؤمن أوجرا (3)

فما كنت عن نفسى لأرحل طائعا

إلى الشام حتى كنت أنت المؤمّرا

ومنذ هذا التاريخ يصبح من شعراء بنى أمية الذين يدعون لهم ويدافعون عن خلافتهم، مضفين عليهم هالة قدسية من التقوى والبرّ، تحفّها المبالغة المسرفة من مثل قوله فى سليمان:

أنت الذى نعت الكتاب لنا

فى ناطق التوراة والزّبر

كم كان من قسّ يخبّرنا

بخلافة المهدىّ أو حبر

جعل الإله لنا خلافته

برء القروح وعصمة الجبر

(1) زءور: كثير الزيارة.

(2)

الديوان ص 575.

(3)

الأوجر: الخائف.

ص: 272

وقوله فى يزيد بن عبد الملك، ولهوه ومجونه معروف:

ولو كان بعد المصطفى من عباده

نبىّ لهم منهم لأمر العزائم

لكنت الذى يختاره الله بعده

لحمل الأمانات الثّقال العظائم

ورثتم خليل الله كل خزانة

وكلّ كتاب بالنبوة قائم

ولعل فى هذه الأبيات ما ينقض قول من زعموا أنه كان شيعيّا مائلا إلى بنى هاشم وإنهم ليسترسلون فى ذلك فينسبون إليه قصيدة فى على بن الحسين وهى القصيدة ذات البيت المشهور:

هذا الذى تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

وقد أنكر أبو الفرج الأصبهانى نسبة القصيدة إليه (1)، والذى لا شك فيه أنها تخالف نسجه كما تخالف نفسيته إذ كان لا يتعصب لشئ سوى قبيلته وآبائه، وقد مدح بنى أمية بأخرة، أما ولاة العراق فكان إذا خاف بطشهم مدحهم، فإذا اطمأن وسكن روعه هجاهم، وخاصة إذا أظهروا عصبية ضد تميم، وممن أسرع إلى هجائه منهم عمر بن هبيرة الفزارى والى يزيد بن عبد الملك، وفيه يقول:

أمير المؤمنين وأنت عفّ

كريم لست بالطّبع الحريص (2)

أوليت العراق ورافديه

فزاريّا أحذّ يد القميص (3)

وولى بعده خالد القسرى لهشام بن عبد الملك، وكان شديد العصبية لليمنية، وكانت أمه مسيخية، فبنى لها كنيسة بالكوفة، وسخّر الناس فى شق نهر المبارك، وانتهز الفرصة الفرزدق، فأخذ يهجوه بالعملين جميعا، يقول:

بنى بيعة فيها الصليب لأمّه

وهدّم من كفر منار المساجد

ويقول

أهلكت مال الله فى غير حقّه

على نهرك المشئوم غير المبارك

(1) أغانى (ساسى) 14/ 75.

(2)

الطبع: اللئيم الدنئ.

(3)

أحذ: سريع، يصفه بالسرقة وأنه غير أمين على أموال الأمة.

ص: 273

وأمر خالد صاحب شرطته مالك بن المنذر بن الجارود أن يحبسه، فألقى به فى السجن، فانقلب يستعطف مالكا وخالدا وهشام بن عبد الملك وبعض مقربيه من الكلبيين بمدائح كثيرة، واستعان بخصومه من القيسية وأعانه شاعرهم جرير. وتصادف أن حجّ خالد وأناب عنه أخاه أسدا، فردّ إليه حريته، ومن ثم نراه يمدحه مدائح كثيرة.

وكل شئ يؤكد أنه أناب إلى ربه فى سنيه الأخيرة فقد أخذ يندم على ما اقترف من آثام، ومن خير ما يصور ذلك قصيدته فى إبليس، وفيها يقول:

أطعتك يا إبليس سبعين حجّة

فلما انتهى شيبى وتمّ تمامى

فررت إلى ربى وأيقنت أننى

ملاق لأيام المنون حمامى

وأخيرا وافاه القدر سنة 114 للهجرة.

وواضح مما قدمنا أن الفرزدق أمضى حياته فى المديح والهجاء، وهو فى مديحه يتخلف عن الأخطل وجرير جميعا لما قدمناه من خشونة نفسه وصلابتها، وهو كذلك يتخلف عن جرير فى الهجاء، لأن نفس جرير كانت محملة بمرارة مسرفة. إذ لم يكن له ما للفرزدق من شرف المحتد، فكان ينصبّ عليه وعلى غيره من مهجويه كالصقر الجارح. وهذه النفس الخشنة الصلبة للفرزدق جعلته لا يبرع فى الغزل، يقول الجاحظ:«وهذا الفرزدق وكان مستهترا بالنساء وكان زير غوان وهو فى ذلك ليس له بيت واحد فى النسيب مذكور، ومع حسده لجرير. وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا» (1). وكان جرير يتقدمه كذلك فى الرثاء، إذ كانت نفسه لينة رقيقة. والموضوع الذى يتفوق فيه الفرزدق على الأخطل وجرير، بل على جميع شعراء عصره، هو الفخر، إذ كان يعتدّ بآبائه وقبيلته اعتدادا لاحد له، ومن ثم بلغ فى الافتخار بهما الغاية القصوى على شاكلة قوله:

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

ضربناه حتى تستقيم الأخادع (2)

(1) البيان والتبيين 1/ 208.

(2)

صعر خده: أماله كبرا وغطرسة. الأخادع: جمع أخدع وهو العرق البارز فى صفحة العنق. واستقامة الأخادع كناية عن الخضوع والذل.

ص: 274

وقوله:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا (1)

وقوله:

إن الذى سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (2)

حلل الملوك لباسنا فى أهلنا

والسّابغات إلى الوغى نتسربل (3)

أحلامنا تزن الجبال رزانة

وتخالنا جنّا إذا ما نجهل (4)

فادفع بكفّك-إن أردت بناءنا-

ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل (5)

والحق أن الفرزدق كان نبعا كبيرا من ينابيع الشعر، وهو نبع كان يتدفق من نفس صلبة، ولعل ذلك ما جعل الالتواء والشذوذ يكثر فى أساليبه، من مثل قوله المشهور فى مديح إبراهيم بن هشام المخزومى خال هشام بن عبد الملك:

وما مثله فى الناس إلا مملّكا

أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه

فإن البيت لا يفهم إلا إذا رتبنا كلماته ترتيبا طبيعيّا على هذا النحو:

«وما مثله (الممدوح) فى الناس حىّ يقاربه إلا مملكا أو ملكا (هو هشام بن عبد الملك) أبو أمه أبوه. وكان يضيف إلى ذلك شواذ نحوية كقوله:

وعضّ زمان يابن مروان لم يدع

من المال إلا مسحتا أو مجرّف (6)

وكان القياس أن يقول مجرفا بالنصب، ولكنه رفع على الاستئناف تمشيا مع روىّ قصيدته. وكان ابن أبى إسحق الحضرمى يراجعه فى ذلك ومثله كثيرا، فكان يسخر منه. وقد عدّه اللغويون أحد مصادر اللغة، حتى قالوا:«لولا شعره لذهب ثلث لغة العرب» ومن ثمّ دارت أشعاره فى كتب اللغويين والنحاة كما دارت فى كتب التاريخ والأخبار لحديثه عن أيام العرب ومناقبهم ومثالبهم

(1) وقفوا: وقفت ركائبهم لا يتقدمون.

(2)

سمك: رفع.

(3)

السابغات: الدروع الكاملة. نتسربل: نلبس.

(4)

نجهل هنا: نغضب حمية.

(5)

ثهلان: جبل. يتحلحل: يتحرك.

(6)

المسحت والمجرف: المهلك المستأصل.

ص: 275