الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى الأغانى فسترى فيه مقطوعة حماسية رائعة من مقطوعاتهم، اختلف الرواة فى ناظمها، أما المبرد فنسبها إلى قطرى بن الفجاءة، ونسبها المدائنى إلى صالح بن عبد الله العبشمىّ. وقال خالد بن خداش: بل قائلها عمرو القنا، وقال وهب بن جرير: بل هو حبيب بن سهم (1). ونقف الآن عند شاعرين من شعرائهما هما
عمران بن حطّان
والطّرمّاح.
عمران (2) بن حطّان
بصرىّ سدوسىّ من شيبان، نشأ على الفقه والورع، وقد أدرك صدرا من الصحابة وروى عنهم، وروى عنه أصحاب الحديث قبل أن يدخل فى مقالة الخوارج. ونلقاه فى عصر زياد خطيبا يروع من يستمعون إليه (3). ولا يلبث قلبه أن يتعلق بابنة عم له تسمى جمرة، كانت خارجية، فتزوجها، وأراد أن يردها عن مذهبها فأغوته وأدخلته فيه، ويقال إنها كانت ذات جمال، وكان قبيحا دميما، ويروى أنها قالت له يوما: أنا وأنت فى الجنة، قال:
ومن أين علمت ذلك؟ قالت: لأنك أعطيت مثلى فشكرت، وابتليت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر فى الجنة.
وقد تعمقته مقالة الخوارج حتى أصبحت جزءا من نفسه، فهو يعيش لها ويعيش بها، ويشيد بأصحابها حتى بأشقاهم عبد الرحمن بن ملجم قاتل على بن أبى طالب، وفى طعنته له يقول (4):
يا ضربة من تقىّ ما أراد بها
…
إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
إنى لأذكره حينا فأحسبه
…
أوفى البريّة عند الله ميزانا
ونراه يتأثر تأثرا بليغا حين قتل أبو بلال مرداس سنة 61 للهجرة، حتى ليفكر فى الخروج وامتشاق الحسام، يقول:
(1) أغانى 6/ 147 وما بعدها.
(2)
انظر فى ترجمة عمران الأغانى (ساسى) 16/ 146 وما بعدها والمبرد ص 530 وما بعدها والإصابة 5/ 181 وخزانة الأدب 2/ 436 وما بعدها والاشتقاق ص 353 وهامش أمالى المرتضى ص 635.
(3)
البيان والتبيين 1/ 118.
(4)
انظر فى نقض هذا الشعر المبرد ص 531 والخزانة 2/ 436.
لقد زاد الحياة إلىّ بغضا
…
وحبّا للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشى
…
وأرجو الموت تحت ذرى العوالى (1)
ولو أنى علمت بأن حتفى
…
كحتف أبى بلال لم أبال
فمن يك همّه الدنيا فإنى
…
لها والله ربّ البيت قالى (2)
فهو يخشى أن يموت على فراشه حتف أنفه، ولا يموت ميتة الخوارج الشريفة قعصا بالرماح، ميتة أبى بلال، وقد ظلت ذكراه عالقة بنفسه طويلا، حتى ليقول:
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه
…
ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
وكأن الناس جميعا ما توافيه. ولم يخرج عمران، فقد كان يؤمن بالقعود، ومن ثمّ اعتنق مذهب الصّفرية ودعا إلى القعود، حتى عدّ رئيس قعدتهم. ولم تقعد به بناته على نحو ما رأينا عند أبى خالد (3)، إنما قعد به-فى أغلب الظن- حبه لزوجته جمرة، فقد كان يشغف بها شغفا شديدا، ويعلّل أبو الفرج ذلك علة أخرى فيقول إنه إنما صار من القعدة، لأن عمره طال وعجز عن الحرب وحضورها، وكأنه يرى أنه اعتنق المذهب فى سن عالية. على أنه إن كان قعد فقد مضى فى شعره يصور كرهه للحياة وأنها عبء ثقيل كما مضى يحسّن لغيره الخروج ويزيّنه، وكذلك كان قعدتهم فهم لا يشتركون فى الحروب ويغرون بها رفاقهم. ويظهر أنه تمادى فى ذلك لعهد الحجاج، فطلبه، ولم يلبث شبيب الصّفرى وزوجته غزالة أن هجما على الكوفة فى بعض أصحابهما، فهلع الحجاج وتحصّن فى قصره، فكتب إليه عمران:
أسد علىّ وفى الحروب نعامة
…
ربداء تنفر من صفير الصافر (4)
هلا برزت إلى غزالة فى الضّحى
…
بل كان قلبك فى جناحى طائر (5)
(1) العوالى: الرماح.
(2)
قالى: كاره.
(3)
نسبت أبيات أبى خالد إلى عمران فى ترجمته بالأغانى، والأرجح أنها لأبى خالد كما جاء عند المبرد.
(4)
ربداء: من الربدة وهو لون إلى الغبرة.
(5)
هذا مثل ضربه عمران لتصوير فزع الحجاج ورعبه.
وغضب الحجاج واشتد فى طلبه بعد قضائه على شبيب وصاحبته سنة 77 للهجرة ففرّ منه على وجهه يتنقّل فى القبائل منتسبا فى كل حى نسبا يقرب منه، وما زال يتنقل شاعرا بمرارة الحياة وما يحتمل فى سبيل عقيدته من خطوب حتى انتهى إلى روح بن زنباع الجذامى بالشام. فانتسب له أزديا فأنزله منزلا آمنا نحو عام وبالغ فى إكرامه، وكان روح سميرا لعبد الملك أثيرا عنده، فذكر له صاحبه وحسن حديثه وروى له بعض أشعاره، فرأى عبد الملك فيها ما شككه فى أن صاحبه هو عمران، وذكر ذلك لروح وطلب منه أن يجيئه به، ونقل روح إليه رغبة عبد الملك، فقال له: ذلك ما كنت أريد، وإنى تابعك إليه على الأثر، ولم يلبث أن ارتحل مخلفا لروح رقعة يقول فيها:
قد كنت جارك حولا ما تروّعنى
…
فيه روائع من إنس ومن جان (1)
حتى أردت بى العظمى فأدركنى
…
ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
ومضى حتى نزل بزفر بن الحارث فى قرقيسيا، فانتسب له أوزاعيّا، وتصادف أن رآه رجل عنده كان قد رآه من قبل عند روح، فلما قال له زفر هل تعرفه؟ قال: نعم أزدى رأيته عند روح، حينئذ قال له زفر يا هذا أزديّا مرة وأوزاعيّا أخرى؟ إن كنت خائفا آمناك وإن كنت فقيرا جبرناك، فلما أمسى هرب وخلّف فى منزله رقعة كتب فيها مقطوعة بديعة يستهلها بقوله:
إن التى أصبحت يعيى بها زفر
…
أعيت عياء على روح بن زنباع
وارتحل حتى أتى عمان، وهناك أخذ يثير الناس للخروج والثورة على الحجاج، فطلبه، فارتحل حتى أتى قوما من الأزد فى روزميسان بالقرب من الكوفة، فأقام بينهم حتى توفى سنة 84.
ولعمران أشعار كثيرة ترويها كتب الأدب والتاريخ، وهو فيها جميعا يصدر عن إيمان عميق بمقالة الخوارج، إيمان جعله يزدرى الحياة ويزهد فيها لولا جمرة، ومن ثم نشأ فى نفسه صراع عنيف بين الرغبة فى الحياة الكريهة التى يحياها
(1) روائع هنا: من الروع وهو الخوف والفزع.
وما يحتمل فيها من أذى ومكروه وبين الرغبة فى الموت، وعبر عن ذلك فى صور مختلفة، كأن يصوّر تهالك الناس على الدنيا، وهى ليست بدار قرار، على شاكلة قوله:
أرانا لا نملّ العيش فيها
…
وأولعنا بحرص وانتظار
ولا تبقى، ولا نبقى عليها
…
ولا فى الأمر نأخذ بالخيار
كركب نازلين على طريق
…
حثيث رائح منهم وسارى (1)
ويقف كثيرا عند هذا المعنى، فالناس يتعلقون بالدنيا حتى جياعهم وعراتهم فأفّ لهم من أشقياء لم يتبينوا الطريق السوىّ. ولا يخفى أنه يسير على كره منه فى نفس الركب، وأن قلبه هو الآخر ينطوى منها على شئ من الحب والحرص، وحرى به أن يرفضها رفضا، يقول:
أرى أشقياء النّاس لا يسأمونها
…
على أنهم فيها عراة وجوّع
أراها وإن كانت تحبّ فإنها
…
سحابة صيف عن قليل تقشّع (2)
وعلى هذا النحو كان لا يزال يردد أن الموت سيأتى على كل الأحياء وأن لا مفر منه لكائن، فالكل فان حتى الموت نفسه، يقول:
لا يعجز الموت شئ دون خالقه
…
والموت فان إذا ما ناله الأجل
وكلّ كرب أمام الموت متّضع
…
للموت، والموت فيما بعده جلل (3)
فالموت سيموت فى النهاية. وهو بذلك كله يعبر عن فكرة الموت التى تلقانا دائما فى شعر الخوارج، إنه موت ينقل إلى دار الخلود، ولذلك ينتظره هائنا به مغتبطا. وهذا هو شعر عمران دائما فليس فيه سوى عقيدته. وكان لا يزدرى شيئا ازدراءه المديح، وقد سمع الفرزدق مرة ينشد بعض مدائحه، فتعرض له يقول:
أيها المادح العباد ليعطى
…
إن لله ما بأيدى العباد
(1) حثيث: سريع. وسارى: يسير ليلا.
(2)
تقشع: تزول.
(3)
جلل: عظيم.