الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه لم يظهر أولًا إلا نذرًا يسيرًا، وتظاهر بالعصيان فيهدد بأنه يستطيع أن يغيّر مجرى التاريخ ويهدم الكويت، ويفعل ويفعل، هددته أمريكا بأمر الرئيس جورج بوش بأنه إذا لم يحضر جميع ما لديه من السلاح الذري وما قام به من جمع الأسلحة التي أنفق ثروة العراق في جمعها وإنشائها لأن الرجل خطر على الأمن ويسكت على شر كبير لما يبيته للإسلام وللعرب، وبعثت إليه اللجنة التي تم ذكرها وأنه إذا لم يخضع فإنها ستضرب العراق مرةً أخرى عند ذلك أطلع اللجنة الكائن عددها من اثني عشر خبيرًا، فبواسطة الأقمار الصناعية أظهر ما أخفاه وهي مدافع وصواريخ بعيدة المدى وأعمالًا كيماوية وذرية.
وذلك في 19/ 1 محرم، ومن هذه الأسلحة المسيلة للدموع والأسلحة المؤثرة على الأعصاب وغير ذلك من الأسلحة المهددة بالهلاك والدمار، نسأل الله العافية، وكان أهالي الكويت لما سمعوا بتهديداته الأخيرة عزموا على ترك الكويت والعودة إلى السعودية، كما أن سكان مدينة الرياض جعلوا يفكرون باللجوء إلى القصيم واستأجروا فيها، ولكن تهديد أمريكا وشجاعة الرئيس بوش التي كانت أعظم من وقوع الصاعقة عليه أوقفته ذليلًا خائبًا حسيرًا، وهكذا كل معتد فإنه لا بد أن يبوء بالخزي والهوان والخيبة والخسران، ومن العجائب، والعجائب جمة أن يقوم طريد ذليل فيعمل تلك المشاكل سوى أن الأمور مرهونة لأوقاتها، ولم سمع أهالي العراق بما يذيعه وينشره من هذيانه ألقى الله في قلوبهم الرعب وفروا إلى القرى والجيران خشية أن يعمهم البلاء بسببه.
عجائب من نجائب القدر وحادثة من حوادث القرن الخامس عشر
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، فأما الخوف فحدث ولا حرج فيما إذا أوقع الله الخوف بأحد من خلقه، وانظر إلى تمام قدرة الله جلَّت عظمته إذا أذن بالخوف، فقد روى التاريخ أن التتار لما سلطهم الله على المسلمين عام 656 هـ توصلت الأحوال إلى أن يقبض رجل من التتار على رجل من المسلمين فيقول له
ضع رأسك على هذا الحجر حتى أجد حجرًا أرض به رأسك فيستسلم ويضع رأسه على الحجر حتى يأتيه بحجر فيرض به رأسه، والله لو أن شاة صنع بها هكذا لتمكنت من الفرار، ولكن هذا من العجائب التي يبتلي الله بها عباده، وكان لما أن هجم العراقيون على الكويت لم يجدوا مقاومة تذكر، فقد فرّ الأمير وولي عهده ومن تمكن من الأسرة الحاكمة أن يفروا، وأخذت نسائهم سبايا وفرَّ البقية ممن تمكن من الفرار لا يلوي أحد على أحد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وتركوا أموالهم وسياراتهم الثمينة، لعل العدو أنْ ينشغل بها وركبوا عبر الصحراء تاركين الخط الرئيسي لعلهم يسلمون، وتوجهوا إلى السعودية فارين مع الصحاري الموحشة، فكانت الجنود العراقية تلاحقهم وتأخذ أموالهم وفتياتهم قهرًا ويسلبون ما وقعت عليه أيديهم من الحلي والساعات والنفقات، ويقعون على النساء وهم ينظرون بمرأى ومسمع من أزواجهن ووالديهن، وبلغت بهم إلى أن يصوب العراقي المسدس على الولي أو الرشاش ويتهدده إذا غضَّ طرفه وهو واقع عليها، فأي همجية وأي حالة أخسر من هذه الحالة التي لم يتوصل إليها غيرهم، فوالله لو أن العرب قاطبةً، ولو أن المسلمين شدوا الصعب والذلول وهجموا هجومًا صاعقًا على أولئك الغوغاء لكان هو اللائق بهم، ولكن الأمور مرهونة لأوقاتها، وربما هلك الكويتيون عطشًا أو تعطلت السيارة عن السير فهلك أهلها بحيث لا زاد ولا مزاد ولا وقود، فحدّث ولا حرج، ولم يروا التاريخ أبشع من هذه الحالة، وقد تقدم شيء من تلك المخازي التي لا يقدم عليها شريف له إنسانية إذا عدم فيه اسم الدين والإسلام مما يندي له الجبين وتقشعر منه جلود المؤمنين، وتنكره فطر العالمين فعياذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ومن العجائب كون النساء والصبيان وضعفاء العقول فارين يهربون من الخوف من صدام، إياكم صدام حسين الويل لكم من صدام، ولما أن جلسوا في السعودية كانوا لا يقر لهم قرار، فكلما مرت طائرة في الجو خافوا، ولا سيما الشباب في المدارس، فقد كانوا يفرون من مقاعدهم ودراستهم من الهلع والخوف،
وانتشرت فيهم الوساوس والمخاوف وفيهم من أثر ذلك على عقله وشعر أنه في نومه ويقظته، وكان الكويتيون يسيرون في السعودية ويشحذون ثمن البنزين ويروون ماذا حصل على أموالهم من النهب والسلب، ولما أن جعلت صواريخ صدام تسقط يمنةً ويسرة طويلة المدى في الرياض والحفر وبعض المواضع الشرقية، شد المسلمون من الرياض والدمام والحفر ممتطين الصعب والسيارات فارين إلى القصيم، ثم إنه لما أذل الله العدو كسرت شوكته، وكان الكويتيون بين مصدق ومكذب بحيث أبو عن الرجوع إلى الكويت، وذلك لأنه قد ملأ بيوتهم بالأسلحة والذخائر والعبوات الناسفة، مما كان له أثر سيئ بحيث لما وقعت في أيدي سكان الكويت ومن اجتمعوا به فكانت تلك الأسلحة سبب الفوضى والتناحر هناك، فقد قام الفلسطيني وغيره ممن كان في الكويت لا يتورعون عن إطلاق النار، وانتشرت المذابح فيما بينهم، وزاد الطين بلة وجود عراقيين مختفين في الكويت يعملون الفوضى ويفجرون العبوات الناسفة، ولما أن استقر الأهالي في الكويت وقاموا بردم بعض آبار النفط والبترول هناك لم يلبثوا إلا قليلًا حتى سمعوا أبواق إذاعات صدام بأنه سيعيد الكرة عليهم، فلا فائدة في إصلاح بلدهم وهو يريد أن يهدمها مرةً أخرى، وكان لتهديداته وخزعبلاته وتخويفاته صدى عظيم في صدر الأهالي بحيث عقدوا العزم على الفرار مرةً أخرى إلى السعودية لولا أن ضمنت لهم أمريكا الأمن في الكويت، وقامت تهدد العراق بضربة أخرى إذا لم يلتزموا بالأمن وعدم إطلاق النار ووقف إطلاق النار، وسلموا السلاح والسرقات التي سرقوها من الكويت، وكان ذلك في أواخر شهر محرم من هذه السنة، وكان تهديد أمريكا أعظم من وقوع الصاعقة عليهم، واختفى ذكر صدام فكانت العراق تنطق باسم حكومة العراق.
وهناك هددت بريطانيا العراق بأنها إذا لم تلتزم بثلاثة أمور فلا بد من ضربها:
أولًا: إطلاق الأسراء الكويتيين.
ثانيًا: تسليم جميع ما لدى العراق من الأسلحة النووية والكيماوية.
ثالثًا: ردُّ جميع المسروقات والمنهوبات من الكويت.
فسلمت العراق جميع تلك الأسلحة، والمواد، واعترفت العراق أنها اشترت تلك المواد والأسلحة التي أبرزتها بعشرة مليارات، وردت على الكويت ألف سبيكة من الذهب وأربعمائة سبيكة مثلها، وذلك في 3/ 4 يوم الثلاثاء، ووعدت بأنها ستسلم بقيمتها في يوم الثلاثاء المقبل 10/ 4 من هذه السنة، أما عن الأسراء فجعلت تماطل بوعودها، كما أن الأقمار الصناعية اكتشفت أسلحة باقية لم تسلم، فخبأه العراق وكان الرئيس صدام قد ضيق على الشعب في المدة الماضية، واشترى بجزء كبير من ناتجات البلاد وبترولها تلك الأسلحة، وبهذا تبين حالة الرئيس المقهور والمغلوب وما بيته للجيران من الغدر والخيانة.
وفيها في يوم الاثنين الموافق 9/ 4 أطيح الرئيس السوفيتي ميخائيل غوربتشوف، وكان ذلك في ظهر ذلك اليوم، ولما جرى ذلك الحادث الجلل في روسيا تكشرت أنياب الفتن في موسكو وحدثت لذلك رنة أسف في الدول الكبار، وأظهرت اليابان أسفها الشديد لذلك، كما أن الرئيس الأميركي جورج بوش تأثر لذلك ولكنه أبدى أنه لا يتدخل في شؤون الدول الداخلية، وقد قامت مظاهرات في موسكو ضد الذين أطاحوا بحكمه، وقامت مصفحات وقوات هناك خشية الفوضى، وكان قد أناب وكيلًا عنه قبل أن يتخلى عن الرئاسة، وكان الذين نقموا منه رأوا ضعف حزمه واستهانته بالأمور وتدخله فيما لا يعنيه كحربه في أفغانستان وإمداده العراق بالأسلحة الخطيرة، أضف إلى ذلك سوء الاقتصاد في روسيا وما أصيبوا به من ذلك.
ومن كلام الشيخ أحمد بن علي بن مشرف وحكمة قوله:
وأنى يحوط الملك إلا سميدع
…
يخوض لظى الهيجاء ليس بهائب
له غيرةٌ تحمي الرعايا كأنها
…
حمية ضرغامٍ جسورٍ مواثب
ولا مجد إلا بالشجاعة والندا
…
وجر العوالي فوق مجرى السلاهب
فقل لإمام المسلمين وسر له
…
بنفسك أو أبلغه مع كل راكب
وأنشده إن أحسست منه تثاقلًا
…
إذا لم يسالمك الزمان فحارب
ولا تحقر الخصم الضعيف لضعفه
…
فكم خرَّب الجرذي في سد مأرب
وهذه الأبيات وإن قيلت في ملك عربي لا يملك في زمنه سوى سيف أو مدفع فتيل فإن لها في السياسة والحزم، وما ينبغي للرئيس أن يمثل به مقامه، وكان المعنى بذلك هو فيصل بن تركي بن عبد الله بن سعود، ولما أن بلغ فتوحاته إلى قطر ومسقط ورأس الخيمة خافت بريطانيا من توسعات رقعة المملكة السعودية فبعثت بباخرتين حربيتين عظيمتين إلى مياه الخليج لرد أطماعه، فأمر الإمام فيصل عبده بلال أن يزحف بمدفع ضد الباخرتين فيضربهما، ولما أن رسى بلال بمدفعه جعل قائد الباخرتين يضحك استهتارًا لذلك المدفع الضعيف وصاحبه، فأنذر بلال قائدي الباخرتين بأن يغادرا موضعهما، ولكن الباخرتين لم تتأثرا لذلك، فعند ذلك أطلق بلال مدفعه وما النصر إلا من عند الله فسقطت القنبلة في إحدى البواخر فقدر أن ثار اللهب والتهبت الذخيرة بأجمعها وامتدت النيران على الباخرة الأخرى فعطبتا وغرقتا وهلك ركابها بين حريق وغريق، وخلد الزمان ذكرًا لبلال ومدفعه، فلا يزال في موضعه بين البر والبحر ذكرًا خالدًا.
وقد ذكرتني هذه القصة بأخرى في جهاد رئيس ليبيا السابق عمر المختار لإيطاليا حينما أرسل قنبلة على إحدى دبابتين حربيتين ايطاليتين فأصيبت فاستدارت على الأخرى فأصيبتا ودمرهما جميعًا، والله على كل شيء قدير.
رجعنا إلى ما نحن فيه فنقول: لما كان في اليوم الثاني من تخلي الرئيس ميخائيل عن منصبه قام في صباح اليوم العاشر خمسون ألف متظاهر في موسكو يطالبون بعودة الرئيس إلى منصبه وأن يكشف عن حالته الصحية لأنه تخلى أو عزل بهذه الدعوى واحتجوا هم وغيرهم ممن يؤيده بأن تخليه عن منصبه ليس بمقبول لأنه انسحب بغير طريقة شرعية ولا قانونية، وكثر الهرج والمرج والقيل والقال بين مكذب ومصدق، فبينما الناس متحيرين في انشقاق يوغسلافيا إذا قد وقعت المشكلة في روسيا، ولا ريب في أن دعاء المسلمين في خلواتهم وجلواتهم