الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى
أما بعد فَهَذِهِ فُصُول جليلة الْمِقْدَار ينْتَفع بهَا الْمطَالع فِي كتب الحَدِيث وَكتب السّير وَالْأَخْبَار وأكثرها مَنْقُول من كتب أصُول الْفِقْه وأصول الحَدِيث
الْفَصْل الأول
عنوان
فِي بَيَان معنى الحَدِيث
الحَدِيث أَقْوَال النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وَيدخل فِي أَفعاله تَقْرِيره وَهُوَ عدم إِنْكَاره لأمر رَآهُ أَو بلغه عَمَّن يكون منقادا للشَّرْع وَأما مَا يتَعَلَّق بِهِ عليه الصلاة والسلام من الْأَحْوَال فَإِن كَانَت اختيارية فَهِيَ دَاخِلَة فِي الْأَفْعَال وَإِن كَانَت غير اختيارية كالحلية لم تدخل فِيهِ إِذْ لَا يتَعَلَّق بهَا حكم يتَعَلَّق بِنَا وَهَذَا التَّعْرِيف هُوَ الْمَشْهُور عِنْد عُلَمَاء أصُول الْفِقْه وَهُوَ الْمُوَافق لفنهم
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى إِدْخَال كل مَا يُضَاف إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام فِي الحَدِيث فَقَالَ فِي تَعْرِيفه علم الحَدِيث أَقْوَال النَّبِي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وأحواله وَهَذَا التَّعْرِيف هُوَ الْمَشْهُور عِنْد عُلَمَاء الحَدِيث وَهُوَ الْمُوَافق لفنهم فَيدْخل فِي ذَلِك أَكثر مَا يذكر فِي كتب السِّيرَة كوقت ميلاده عليه الصلاة والسلام ومكانه وَنَحْو ذَلِك
وَقد رَأَيْت أَن أذكر هُنَا فَائِدَة تَنْفَع الْمطَالع فِي كثير من الْمَوَاضِع وَهِي أَن مثل هَذَا يعد من قبيل اخْتِلَاف الْعبارَات لَا اخْتِلَاف الاعتبارات وَهُوَ لَيْسَ من قبيل الِاخْتِلَاف فِي الْحَقِيقَة كَمَا يتوهمه الَّذين لَا يمعنون النّظر فَإِنَّهُم كلما رَأَوْا اخْتِلَافا فِي الْعبارَة عَن شَيْء مَا سَوَاء كَانَ فِي تَعْرِيف أَو تَقْسِيم أَو غير ذَلِك حكمُوا بِأَن هُنَاكَ اخْتِلَافا فِي الْحَقِيقَة وَإِن لم تكن تِلْكَ الْعبارَات مُخْتَلفَة فِي الْمَآل
وَقد نَشأ عَن ذَلِك أغلاط لَا تحصى سرى كثير مِنْهَا إِلَى أنَاس من الْعلمَاء الْأَعْلَام فَذكرُوا الِاخْتِلَاف فِي مَوَاضِع لَيْسَ فِيهَا اخْتِلَاف اعْتِمَادًا على من سبقهمْ إِلَى نَقله وَلم يخْطر فِي بالهم أَن الَّذين عولوا عَلَيْهِم قد نقلوا الْخلاف بِنَاء على فهمهم وَلم ينتبهوا إِلَى وهمهم وَكَثِيرًا مَا انتبهوا إِلَى ذَلِك بعد حِين فنبهوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ عِنْد وقوفهم على الْعبارَات الَّتِي بنى الِاخْتِلَاف عَلَيْهَا النَّاقِل الأول وَقد حمل هَذَا الْأَمر كثرا مِنْهُم إِلَى فرط الحذر حِين النَّقْل
وَقد أَشَارَ إِلَى نَحْو مَا ذكرنَا الإِمَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية فِي رسَالَته فِي قَوَاعِد التَّفْسِير فَقَالَ الْخلاف بَين السّلف فِي التَّفْسِير قَلِيل وغالب مَا يَصح عَنْهُم من الْخلاف يرجع إِلَى اخْتِلَاف تنوع لَا اخْتِلَاف تضَاد وَذَلِكَ صنفان
أَحدهمَا أَن يعبر وَاحِد مِنْهُم عَن المُرَاد بِعِبَارَة غير عبارَة صَاحبه تدل عل معنى فِي الْمُسَمّى غير الْمَعْنى الآخر مَعَ اتِّحَاد الْمُسَمّى كتفسير بَعضهم الصِّرَاط الْمُسْتَقيم بِالْقُرْآنِ أَي اتِّبَاعه وَتَفْسِير بَعضهم لَهُ بِالْإِسْلَامِ فالقولان متفقان لِأَن دين الْإِسْلَام هُوَ اتِّبَاع الْقُرْآن لَكِن كل مِنْهُمَا نبه على وصف غير وصف الآخر كَمَا أَن لفظ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم يشْعر بِوَصْف ثَالِث
وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ هُوَ السّنة وَالْجَمَاعَة وَقَول من قَالَ هُوَ طَرِيق الْعُبُودِيَّة وَقَول من قَالَ هُوَ طَاعَة الله وَرَسُوله وأمثال ذَلِك فَهَؤُلَاءِ كلهم أشاروا إِلَى ذَات وَاحِدَة وَلَكِن وصفهَا كل مِنْهُم بِصفة من صفاتها
الثَّانِي أَن يذكر كل مِنْهُم من الِاسْم الْعَام بعض أَنْوَاعه على سَبِيل التَّمْثِيل وتنبيه المستمع على النَّوْع لَا على سَبِيل الْحَد المطابق للمحدود فِي عُمُومه وخصوصه مِثَاله مَا نقل فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا} الْآيَة فمعلوم أَن الظَّالِم لنَفسِهِ يتَنَاوَل المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات والمقتصد يتَنَاوَل فَاعل الْوَاجِبَات وتارك الْمُحرمَات وَالسَّابِق يدْخل فِيهِ من سبق فتقرب بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَات فالمقتصدون أَصْحَاب الْيَمين وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون
ثمَّ إِن كلا مِنْهُم يذكر فِي هَذَا نوعا من أَنْوَاع الطَّاعَات كَقَوْل الْقَائِل السَّابِق الَّذِي يُصَلِّي فِي أول الْوَقْت والمقتصد الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ والظالم لنَفسِهِ الَّذِي يُؤَخر الْعَصْر إِلَى الاصفرار أَو يَقُول السَّابِق المحسن بِالصَّدَقَةِ مَعَ الزَّكَاة والمقتصد الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة فَقَط والظالم مَانع الزَّكَاة
ثمَّ قَالَ وَمن أَقْوَال الْمَأْخُوذَة عَنْهُم ويجعلها بعض النَّاس اخْتِلَافا أَن يعبروا عَن الْمعَانِي بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة كَمَا إِذا فسر بَعضهم {تبسل} بتحبس وَبَعْضهمْ بترتهن لِأَن كلا مِنْهُمَا قريب من الآخر اهـ
وَقَالَ بعض الْعلمَاء فِي كتاب ألفة فِي أصُول التَّفْسِير قد يحْكى عَن التَّابِعين عِبَارَات مُخْتَلفَة الْأَلْفَاظ فيظن من لَا فهم عِنْده أَن ذَلِك اخْتِلَاف مُحَقّق فيحكيه
أقوالا وَلَيْسَ كَذَلِك بل يكون كل وَاحِد مِنْهُم ذكر معنى من مَعَاني الْآيَة لكَونه أظهر عِنْده أَو أليق بِحَال السَّائِل وَقد يكون بَعضهم يخبر عَن الشَّيْء بلازمه وَنَظِيره وَالْآخر بثمرته ومقصوده وَالْكل يؤول إِلَى معنى وَاحِد غَالِبا اهـ
ولنرجع إِلَى الْمَقْصُود فَنَقُول قد عرفت أَن الحَدِيث مَا أضيف إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام فَيخْتَص بالمرفوع عِنْد الْإِطْلَاق وَلَا يُرَاد بِهِ الْمَوْقُوف إِلَّا بقرينه
وَأما الْخَبَر فَإِنَّهُ أَعم لِأَنَّهُ يُطلق على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف فَيشْمَل مَا أضيف إِلَى الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعَلِيهِ يُسمى كل حَدِيث خَبرا وَلَا يُسمى كل خبر حَدِيثا
وَقد أطلق بعض الْعلمَاء الحَدِيث على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف فَيكون مرادفا للْخَبَر وَقد خص بَعضهم الحَدِيث بِمَا جَاءَ عَن النَّبِي عليه الصلاة والسلام وَالْخَبَر بِمَا جَاءَ عَن غَيره فَيكون مباينا للْخَبَر
وَأما الْأَثر فَإِنَّهُ مرادف للْخَبَر فيطلق على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف وفقهاء خُرَاسَان يسمون الْمَوْقُوف بالأثر وَالْمَرْفُوع بالْخبر
وَأما السّنة فَتطلق فِي الْأَكْثَر على مَا أضيف إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام من قَول أَو فعل أَو تَقْرِير فَهِيَ مرادفة للْحَدِيث عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول وَهِي أَعم مِنْهُ عِنْد من خص الحَدِيث بِمَا أضيف إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام من قَول فَقَط وعَلى ذَلِك يحمل قَوْلهم اخْتلف فِي جَوَاز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى فَيَنْبَغِي للطَّالِب أَن يعرف اخْتِلَاف الْعرف هُنَا ليأمن الزلل
وَبِمَا ذكرنَا من أَن بعض الْمُحدثين قد يُطلق الحَدِيث على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف يَزُول الْإِشْكَال الَّذِي يعرض لكثير من النَّاس عِنْدَمَا يحْكى لَهُم أَن فلَانا كَانَ يحفظ سبع مئة ألف حَدِيث صَحِيح فَإِنَّهُم مَعَ استبعادهم ذَلِك يَقُولُونَ أَيْن تِلْكَ الْأَحَادِيث وَلم لم تصل إِلَيْنَا وهلا نقل الْحفاظ وَلَو مِقْدَار عشرهَا وَكَيف سَاغَ لَهُم أَن يهملوا أَكثر مَا ثَبت عَنهُ عليه الصلاة والسلام مَعَ أَن مَا اشتهروا بِهِ من فرط الْعِنَايَة
بِالْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَن لَا يتْركُوا مَعَ الْإِمْكَان شَيْئا مِنْهُ
ولنذكر لَك شَيْئا مِمَّا رُوِيَ فِي قدر حفظ الْحفاظ نقل عَن الْأَمَام أَحْمد أَنه صَحَّ من الحَدِيث سبع مائَة ألف وَكسر وَهَذَا الْفَتى يَعْنِي أَبَا زرْعَة قد حفظ سبع مئة ألف قَالَ الْبَيْهَقِيّ أَرَادَ مَا صَحَّ من الْأَحَادِيث وأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ الْحَافِظ كَانَ أَبُو زرْعَة يحفظ سبع مئة ألف حَدِيث وَكَانَ يحفظ مئة وَأَرْبَعين ألفا فِي التَّفْسِير
وَنقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ أحفظ مئة ألف حَدِيث صَحِيح ومئتي ألف حَدِيث غير صَحِيح
وَنقل عَن مُسلم أَنه قَالَ صنفت هَذَا الْمسند الصَّحِيح من ثَلَاث مئة ألف حَدِيث مسموع
وَمِمَّا يرفع استغرابك لما نقل عَن أبي زرْعَة من أَنه كَانَ يحفظ مئة وَأَرْبَعين ألف حَدِيث فِي التَّفْسِير أَن {النَّعيم} فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قد ذكر الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عشرَة أَقْوَال كل قَول مِنْهَا يُسمى حَدِيثا فِي عرف من جعله بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَأَن {الماعون} فِي قَوْله تَعَالَى {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراؤون وَيمْنَعُونَ الماعون} قد ذكرُوا فِيهِ سِتَّة أَقْوَال كل قَول مِنْهَا مَا عدا السَّادِس يعد حَدِيثا كَذَلِك
قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ فِي تَفْسِيره الْمُسَمّى ب زَاد الْمسير فِي تَفْسِير سُورَة التكاثر وللمفسرين فِي المُرَاد بالنعيم عشرَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه الْأَمْن وَالصِّحَّة رَوَاهُ ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَتارَة يَأْتِي مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَالشعْبِيّ
وَالثَّانِي أَنه المَاء الْبَارِد رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم
وَالثَّالِث أَنه خبز الْبر وَالْمَاء العذب قَالَه أَبُو أُمَامَة
وَالرَّابِع أَنه ملاذ الْمَأْكُول والمشروب قَالَه جَابر بن عبد الله
وَالْخَامِس أَنه صِحَة الْأَبدَان والأسماع والأبصار قَالَه ابْن عَبَّاس وَقَالَ قَتَادَة هُوَ الْعَافِيَة
وَالسَّادِس أَنه الْغَدَاء وَالْعشَاء قَالَه الْحسن
وَالسَّابِع الصِّحَّة والفراغ قَالَه عِكْرِمَة
وَالثَّامِن كل شَيْء من لَذَّة الدُّنْيَا قَالَه مُجَاهِد
وَالتَّاسِع أَنه إنعام الله على الْخلق بإرسال مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قَالَه الْقرظِيّ
والعاشر أَنه صنوف النعم قَالَه مقَاتل
وَالصَّحِيح أَنه عَام فِي كل نعيم وعام فِي جَمِيع الْخلق فالكافر يسْأَل توبيخا إِذْ لم يشْكر الْمُنعم وَلم يوحده وَالْمُؤمن يسْأَل عَن شكر النعم
وَقَالَ فِي تَفْسِير سُورَة الدّين وَفِي {الماعون} سِتَّة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه الإبرة وَالْمَاء وَالنَّار والفأس وَمَا يكون فِي الْبَيْت من هَذَا النَّحْو رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِلَى نَحْو هَذَا ذهب ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وروى عَنهُ أَبُو صَالح أَنه قَالَ الماعون الْمَعْرُوف كُله حَتَّى ذكر الْقدر والقصعة والفأس وَقَالَ عِكْرِمَة لَيْسَ الويل لمن منع هَذَا وَإِنَّمَا الويل لمن جمعهن فراءى فِي صلَاته وسها عَنْهَا وَمنع هَذَا قَالَ الزّجاج والماعون فِي الْجَاهِلِيَّة كل مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَة كالفأس وَالْقدر والدلو والقداحة وَنَحْو ذَلِك وَفِي الْإِسْلَام أَيْضا
وَالثَّانِي أَنه الزَّكَاة قَالَه عَليّ وَابْن عمر وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة
وَالثَّالِث أَنه الطَّاعَة قَالَه ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة
وَالرَّابِع المَال قَالَه سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ
وَالْخَامِس الْمَعْرُوف قَالَه مُحَمَّد بن كَعْب
وَالسَّادِس المَاء ذكره الْفراء عَن بعض الْعَرَب اهـ
هَذَا وَقد اعْترض بعض النَّاس على المؤلفين الَّذين ينقلون فِي الْمَسْأَلَة جَمِيع الْأَقْوَال الَّتِي وقفُوا عَلَيْهَا كَمَا فعله بعض عُلَمَاء التَّفْسِير وعلماء الْأُصُول وَمن نحا نحوهم وَذَلِكَ لجهلهم باخْتلَاف أغراض المصنفين ومقاصدهم ولتوهمهم أَن طَرِيق التَّأْلِيف يجب أَن لَا يُخَالف مَا تخيلوه فِي أذهانهم
وَقد أحببنا أَن نختم هَذَا الْفَصْل بِالْجَوَابِ عَن اعتراضهم فَنَقُول
إِن تِلْكَ الْأَقْوَال إِن كَانَت مُخْتَلفَة فِي الْمَآل عرف النَّاظر الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة
وَفِي معرفَة الْخلاف فَائِدَة لَا تنكر وَكَثِيرًا مَا يستنبط من أمعن النّظر فِيهَا قولا آخر يُوَافق كل وَاحِد من الْأَقْوَال الْمَذْكُورَة من بعض الْوُجُوه وَكَثِيرًا مَا يكون أقوى من كل وَاحِد مِنْهَا وأقوم وَقد وَقع ذَلِك فِي مسَائِل لَا تحصى فِي عُلُوم شَتَّى
وَإِن كَانَت تِلْكَ الْأَقْوَال غير مُخْتَلفَة فِي الْمَآل كَانَ من توارد الْعبارَات الْمُخْتَلفَة على الشَّيْء الْوَاحِد وَفِي ذَلِك من رسوخ الْمَسْأَلَة فِي النَّفس ووضوح أمرهَا مَا لَا يكون فِي الْعبارَة الْوَاحِدَة على أَن بعض الْعبارَات رُبمَا كَانَ فِيهَا شَيْء من الْإِبْهَام أَو الْإِيهَام فيزول ذَلِك بغَيْرهَا وَقد يكون بَعْضهَا أقرب إِلَى فهم بعض الناظرين فكثيرا مَا تعرض عبارتان متحدتا الْمَعْنى لاثْنَيْنِ تكون إِحْدَاهمَا أقرب إِلَى فهم أَحدهمَا وَالْأُخْرَى أقرب إِلَى فهم الآخر وَهَذَا مشَاهد بالعيان لَا يحْتَاج إِلَى برهَان وَمن ثمَّ ترى بعض المؤلفين قد يأْتونَ بِعِبَارَة ثمَّ إِذا بدا لَهُم أَن بعض المطالعين رُبمَا لم يفهمها أَتَوا بِعِبَارَة أُخْرَى وأشاروا إِلَى ذَلِك
وَإِذا عرفت هَذَا تبين لَك أَن مثل هَؤُلَاءِ المعترضين مثل غر جال فِي الْأَسْوَاق فَصَارَ كلما رأى شَيْئا لم يشْعر بفائدته أَو لم تدع حَاجته إِلَيْهِ عد وجوده عَبَثا وسفه رَأْي عماله والراغبين فِيهِ وَكَانَ الأجدر بِهِ أَن يقبل على مَا يعنيه ويعرض عَمَّا لَا يعنيه
وَكَأن كثيرا مِنْهُم يظنّ أَن الِاعْتِرَاض على أَي وَجه كَانَ يدل على الْعلم والنباهة مَعَ انه كثيرا مَا يدل على الْجَهْل والبلاهة وَلَا نُرِيد بِمَا ذكرنَا سد بَاب الِاعْتِرَاض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الَّذين بتعرضون لذَلِك ببادىء الرَّأْي لَا غير وَإِلَّا فالاعتراض إِذا كَانَ معقولا لَا يُنكر بل قد يحمد عَلَيْهِ صَاحبه ويشكر