الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقد اعْترض على الْفَخر فِي هَذَا الْموضع بعض من يَقُول بِوُقُوع التَّعَارُض فِي كَلَام الشَّارِع على جِهَة التكافؤ فَأتى بِمَا لَا يخرج عَن دَائِرَة الخيال وَاكْتفى بذلك عَن الْإِتْيَان بمثال
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
قد ذكر ابْن حزم فِي كتاب الإحكام فِي أصُول الْأَحْكَام مَبْحَث التَّعَارُض وَبَين فِيهِ مسلكه فَأَحْبَبْت إِيرَاد مَا ذكره على طَرِيق التَّلْخِيص قَالَ
فصل فِيمَا ادَّعَاهُ قوم من تعَارض النُّصُوص
قَالَ عَليّ إِذا تعَارض الحديثان أَو الْآيَتَانِ أَو الْآيَة والْحَدِيث فِيمَا يظنّ من لَا يعلم فَفرض على كل مُسلم اسْتِعْمَال كل ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ بعض ذَلِك بِأولى بِالِاسْتِعْمَالِ من بعض وَلَا حَدِيث بأوجب من حَدِيث آخر مثله وَلَا آيَة أولى بِالطَّاعَةِ من آيَة أُخْرَى مثلهَا كل من عِنْد الله عز وجل وكل سَوَاء فِي بَاب وجوب الطَّاعَة والاستعمال
قَالَ عَليّ وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَنه لَا فرق بَين وجوب طَاعَة قَول الله عز وجل {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} وَبَين وجوب طَاعَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أمره أَن يُصَلِّي الْمُقِيم ظهرا وَالْمُسَافر رَكْعَتَيْنِ وَأَنه لَيْسَ مَا فِي الْقُرْآن من ذَلِك بأوجب وَلَا أثبت مِمَّا جَاءَ من ذَلِك مَنْقُولًا نقلا صَحِيحا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِن كَانُوا قد اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة الطَّرِيق الَّتِي بهَا يَصح النَّقْل فَقَط
فَإِذا ورد النصان كَمَا ذكرنَا فَلَا يَخْلُو مَا يظنّ بِهِ التَّعَارُض مِنْهُمَا وَلَيْسَ تَعَارضا من أحد أَرْبَعَة أوجه لَا خَامِس لَهَا
الْوَجْه الأول أَن يكون أَحدهمَا أقل مَعَاني من الآخر أَو يكون أَحدهمَا حاظرا وَالْآخر مبيحا أَو يكون أَحدهمَا مُوجبا وَالْآخر نافيا فَالْوَاجِب هَا هُنَا أَن يسْتَثْنى الْأَقَل مَعَاني من الْأَكْثَر مَعَاني وَذَلِكَ
3 -
مثل امْر الله عز وجل بِقطع يَد السَّارِق والسارقة جملَة مَعَ قَوْله عليه الصلاة والسلام لَا قطع إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا فَوَجَبَ اسْتثِْنَاء سَارِق أقل من ربع دِينَار من الْقطع وَبَقِي سَارِق مَا عدا ذَلِك على وجوب الْقطع عَلَيْهِ
وَمثل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} مَعَ إِبَاحَته الْمُحْصنَات من نسَاء أهل الْكتاب بالزواج فَكُن بذلك مستثنيات من جملَة المشركات وَبَقِي سَائِر المشركات على التَّحْرِيم
وَمثل أمره عليه الصلاة والسلام أَن لَا ينفر أحد حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ وَأذن للحائض أَن تنفر قبل أَن تودع فَوَجَبَ اسْتثِْنَاء الْحَائِض من جملَة النافرين
فقد رَأينَا فِي هَذَا الْمسَائِل اسْتثِْنَاء الْأَقَل مَعَاني من الْأَكْثَر مَعَاني وَلَا نبالي فِي هَذَا الْوَجْه كُنَّا نعلم أَي النصين ورد أَولا أَو لَا نعلم ذَلِك وَسَوَاء كَانَ الْأَكْثَر مَعَاني ورد أَولا أَو ورد آخرا كل ذَلِك سَوَاء وَلَا يتْرك وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر ولكنهما يستعملان مَعًا كَمَا ذكرنَا
الْوَجْه الثَّانِي أَن يكون أحد النصين مُوجبا بعض مَا أوجبه النَّص الآخر أَو حاظرا بعض مَا حظره النَّص الآخر فَهَذَا يَظُنّهُ قوم تَعَارضا وتحيروا فِي ذَلِك فَأَكْثرُوا وخبطوا العشواء وَلَيْسَ فِي شَيْء من ذَلِك تعَارض وَقد بَينا غلطهم فِي هَذَا الْكتاب فِي كلامنا فِي بَاب دَلِيل الْخطاب وَذَلِكَ مثل قَوْله عز وجل {وبالوالدين إحسانا} وَقَوله فِي مَوضِع آخر {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} فَكَانَ أمره تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدين غير معَارض للإحسان إِلَى سَائِر النَّاس وَإِلَى الْبَهَائِم بل هُوَ بعضه وداخل فِي جملَته
وَقد غلط قوم فِي هَذَا الْبَاب فظنوا قَوْله عليه الصلاة والسلام فِي سَائِمَة الْغنم كَذَا مُعَارضا لقَوْله فِي مَكَان آخر فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة وَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا بل الحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذكر السَّائِمَة هُوَ بعض الحَدِيث الآخر وداخل فِي عُمُومه وَالزَّكَاة وَاجِبَة فِي السَّائِمَة بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ ذكر السَّائِمَة وَبِالْحَدِيثِ الآخر مَعًا وَالزَّكَاة وَاجِبَة فِي غير السَّائِمَة بِالْحَدِيثِ الآخر خَاصَّة
وَكَذَلِكَ غلط قوم آخَرُونَ فظنوا قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير لتركبوها وزينة} مُعَارضا لقَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا} وَلقَوْله تَعَالَى {وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم}
وَظن قوم أَن قَوْله تَعَالَى {أَو دَمًا مسفوحا} معَارض لقَوْله تَعَالَى لَا {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا قدمنَا قبل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء من النُّصُوص الَّتِي ذكرنَا نهي عَمَّا فِي الآخر
لَيْسَ فِي حَدِيث السَّائِمَة نهي عَن أَن يُزكي غير السَّائِمَة وَلَا أملا بهَا فَحكمهَا مَطْلُوب من غير حَدِيث السَّائِمَة
وَلَا فِي إخْبَاره تَعَالَى بِأَنَّهُ خلق الْخَيل لتركب وزينة نهي عَن أكلهَا وبيه \ عها وَلَا إِبَاحَة لَهما فحكمهما مَطْلُوب من مَكَان آخر
وَلَا فِي تَحْرِيمه تَعَالَى الدَّم المسفوح إِخْبَار بِأَن مَا عدا المسفوح حَلَال بل هُوَ كُله حرم بِالْآيَةِ الْأُخْرَى كَمَا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ فِي أمره تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْآبَاء نهي عَن الْإِحْسَان إِلَى غَيرهم وَلَا أَمر بِهِ فَحكم الْإِحْسَان إِلَى غير الْآبَاء مَطْلُوب من مَكَان آخر وَمن فرق بَين شَيْء من هَذَا الْبَاب فقد تحكم بِلَا دَلِيل وَتكلم بِالْبَاطِلِ بِغَيْر علم وَلَا هدى من الله تَعَالَى قَالَ عَليّ فَهَذَا وَجه
وَالْوَجْه الثَّالِث أَن يكون أحد النصين فِيهِ أَمر بِعَمَل مَا مُعَلّق بكيفية مَا أَو بِزَمَان مَا أَو مَكَان مَا أَو شخص مَا أَو عدد مَا وَيكون فِي النَّص الآخر نهي عَن عمل مَا بكيفية مَا أَو فِي زمَان مَا أَو مَكَان مَا أَو عدد مَا أَو عذر مَا وَيكون فِي كل وَاحِد من العملين الْمَذْكُورين اللَّذين أَمر بِأَحَدِهِمَا وَنهي عَن الآخر شَيْء مَا يُمكن أَن يسْتَثْنى من الآخر وَذَلِكَ بِأَن يكون على مَا وَصفنَا فِي كل نَص من النصين الْمَذْكُورين حكمان فَيكون بعض مَا ذكر فِي أحد النصين عَاما
لبَعض مَا ذكر فِي النَّص الآخر ولأشياء أخر مَعَه وَيكون الحكم الثَّانِي الَّذِي فِي النَّص الثَّانِي عَاما أَيْضا لبَعض مَا ذكر فِي هَذَا النَّص الآخر ولأشياء أخر مَعَه
قَالَ عَليّ وَهَذَا من أدق مَا يُمكن أَن يعْتَرض أهل الْعلم من تأليف النُّصُوص وَمن أغمضه وأصعبه وَنحن بِمثل من ذَلِك أَمْثِلَة تعين بحول الله وقوته على فهم هَذَا الْمَكَان اللَّطِيف ليعلم طَالب الْعلم الْحَرِيص عَلَيْهِ وَجه الْعَمَل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله عز وجل وَمَا وجدنَا أحدا قبلنَا شغل باله فِي هَذَا الْمَكَان بِالشغلِ الَّذِي يسْتَحقّهُ هَذَا الْبَاب فَإِن الْغَلَط والتناقض يكثر فِيهِ جدا إِلَّا من سدده الله بمنة ولطفه لَا إِلَه لَا هُوَ
فَمن ذَلِك أمره عليه الصلاة والسلام بالإنصات للخطبة وَفِي الصَّلَاة مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا} فَنَظَرْنَا فِي النصين الْمَذْكُورين فَوَجَدنَا الْإِنْصَات عَاما يَشْمَل كل كَلَام سَلاما كَانَ أَو غَيره وَوجدنَا ذَلِك فِي وَقت خَاص وَهُوَ وَقت الْخطْبَة وَالصَّلَاة وَوجدنَا فِي النَّص الثَّانِي إِيجَاب رد السَّلَام وَهُوَ بعض الْكَلَام فِي كل حَالَة على الْعُمُوم
فَقَالَ بعض الْعلمَاء معنى ذَلِك أنصت إِلَّا عَن السَّلَام الَّذِي أمرت بإفشائه ورده فِي الْخطْبَة وَقَالَ بَعضهم رد السَّلَام وَسلم إِلَّا أَن تكون منصتا للخطبة أَو فِي الصَّلَاة
قَالَ عَليّ فَلَيْسَ أحد الاستثنائين أولى من الثَّانِي فَلَا بُد من طلب الدَّلِيل من غَيرهمَا وَقَالَ وَغنما صرنا إِلَى إِيجَاب رد السَّلَام وابتدائه فِي الْخطْبَة دون الصَّلَاة لِأَن الصَّلَاة قد ورد فِيهَا نَص بَين بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فِيهَا فَلم يرد بعد أَن كَانَ يرد وَأَنه سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ إِن الله يحدث من أمره مَا يَشَاء وَإنَّهُ أحدث أَن لَا تكلمُوا فِي الصَّلَاة أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ
وَلَيْسَ امْتنَاع رد السَّلَام فِي الصَّلَاة مُوجبا أَن لَا يرد أَيْضا فِي الْخطْبَة لِأَن الْخطْبَة لَيست صَلَاة وَلم يلْزم فِيهَا اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَلَا شَيْء مِمَّا يلْزم فِي الصَّلَاة وَأما
الْخطْبَة فَإنَّا نَظرنَا فِي أمرهَا فَوَجَدنَا الْمَعْهُود وَالْأَصْل إِبَاحَة الْكَلَام جملَة ثمَّ جَاءَ النَّهْي عَن الْكَلَام فِي الْخطْبَة وَجَاء الْأَمر برد السَّلَام وَاجِبا فَكَانَ النَّهْي عَن الْكَلَام زِيَادَة عل مَعْهُود الأَصْل وَشَرِيعَة وَارِدَة قد تَيَقنا لُزُومهَا وَكَانَ رد السَّلَام وإفشاؤه أقل مَعَاني من النَّهْي عَن الْكَلَام فَوَجَبَ اسْتِثْنَاؤُهُ فصرنا بِهَذَا إِلَى التَّرْتِيب الَّذِي ذكرنَا الْقسم الأول مِنْهُ آنِفا
قَالَ عَليّ ونقول قطعا إِنَّه لَا بُد ضَرُورَة فِي كل مَا كَانَ هَكَذَا من دَلِيل قَائِم بَين الْبُرْهَان على الصَّحِيح من الاستثنائين وَالْحق من الاستعمالين لِأَن الله قد تكفل بِحِفْظ دينه فَلَو لم يكن هَا هُنَا دَلِيل لائح وبرهان وَاضح لَكَانَ ضَمَان الله خائنا وَهَذَا كفر لمن أجَازه فصح أَنه لَا بُد من وجوده لمن يسره الله تَعَالَى لفهمه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْوَجْه الرَّابِع أَن يكون أحد النصين حاظرا لما أُبِيح فِي النَّص الآخر بأسره قَالَ عَليّ فَالْوَاجِب فِي هَذَا النَّوْع أَن نَنْظُر إِلَى النَّص الْمُوَافق لما كُنَّا عَلَيْهِ لَو لم يرد وَاحِد مِنْهُمَا فنتركه ونأخذ بِالْآخرِ لَا يجوز غير هَذَا أصلا
وبرهان ذَلِك أَنا على يَقِين من أننا قد كُنَّا على مَا فِي ذَلِك الحَدِيث الْمُوَافق لمعهود الأَصْل ثمَّ لزمنا يَقِينا الْعَمَل بِالْأَمر الْوَارِد بِخِلَاف مَا كُنَّا عَلَيْهِ بِلَا شكّ فقد صَحَّ عندنَا يَقِينا إخراجنا عَمَّا كُنَّا عَلَيْهِ ثمَّ يَصح عندنَا نسخ ذَلِك الْأَمر الزَّائِد الْوَارِد بِخِلَاف مَعْهُود الأَصْل وَلَا يجوز أَن نَتْرُك يَقِينا بشك وَلَا أَن نخالف الْحَقِيقَة للظن وَقد نهى الله تَعَالَى عَن ذَلِك فَقَالَ {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَقَالَ تَعَالَى {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون}
وَلَا يحل أَن يُقَال فِيمَا صَحَّ وَورد الْأَمر بِهِ هَذَا مَنْسُوخ إِلَّا بِيَقِين وَلَا يحل أَن يتْرك أَمر قد تَيَقّن وُرُوده خوفًا أَن يكون مَنْسُوخا وَلَا أَن يَقُول قَائِل لَعَلَّه مَنْسُوخ كَيفَ وَنحن على يَقِين مَقْطُوع بِهِ من أَن الْمُخَالف لمعهود الأَصْل هُوَ النَّاسِخ بِلَا شكّ
وبرهان ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا من ضَمَان الله تَعَالَى حفظ الشَّرِيعَة وَالذكر الْمنزل
فَلَو جَازَ أَن يكون نَاسخ من الدّين مُشكلا بمنسوخ حَتَّى لَا يدْرِي النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ أصلا لَكَانَ الدّين غير مَحْفُوظ وَقد صَحَّ بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ نسخ الْمُوَافق لمعهود الأَصْل من النصين بورود النَّص النَّاقِل عَن تِلْكَ الْحَال
فَمن ذَلِك أمره عليه الصلاة والسلام أَن لَا يشرب أحد قئما وَجَاء الحَدِيث بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام شرب قَائِما فَقُلْنَا نَحن عَليّ يَقِين من أَنه كَانَ الأَصْل أَن يشرب كل أحد كَمَا شَاءَ من قيام أَو قعُود أَو اضطجاع ثمَّ جَاءَ النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما بِلَا شكّ فَكَانَ مَانِعا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ من الْإِبَاحَة السالفة ثمَّ لَا نَدْرِي أنسخ ذَلِك بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ إِبَاحَة الشّرْب قَائِما أم لَا فَلم يحل لأحد ترك مَا قد تَيَقّن أَنه أَمر بِهِ خوفًا أَن يكون مَنْسُوخا فَإِن صَحَّ النّسخ بِيَقِين صرنا إِلَيْهِ وَلم نبال زَائِدا كَانَ على مَعْهُود الأَصْل أم مُوَافقا لَهُ
كَمَا فعلنَا فِي الْوضُوء مِمَّا مست النَّار فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنه روى جَابر أَنه كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار لأوجبنا الْوضُوء من كل مَا مست النَّار وَلَكِن مَا صَحَّ انه مَنْسُوخ تَرَكْنَاهُ
وَأما من تنَاقض فَأخذ مرّة بِحَدِيث قد ترك مثله فِي مَكَان آخر وَأخذ بضده فذو بُنيان هار يخَاف أَن ينهار بِهِ فِي النَّار
قَالَ عَليّ وغن أمدنا الله بعمر وأيدنا بعون من عِنْده فسنجمع فِي النُّصُوص الَّتِي ظَاهرهَا التَّعَارُض كتبا كَافِيَة من غَيرهَا فَهَذِهِ الْوُجُوه هِيَ الَّتِي فِيهَا الغموض وَقد بيناها بِتَوْفِيق الله عز وجل
وَهَا هُنَا وَجه خَامِس ظَنّه أهل الْجَهْل مُعَارضا وَلَا تعَارض فِيهِ أصلا وَلَا إِشْكَال وَذَلِكَ وُرُود حَدِيث بِحكم مَا فِي وَجه مَا وورود حَدِيث آخر بِحكم آخر فِي ذَلِك الْوَجْه بِعَيْنِه فَظَنهُ قوم تَعَارضا وَلَيْسَ كَذَلِك ولكنهما جَمِيعًا مقبولان ومأخوذ بهما
وَنَحْو ذَلِك مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من طَرِيق ابْن مَسْعُود
بالتطبيق فِي الرُّكُوع وَرُوِيَ من طَرِيق أبي حميد وضع الأكف على الركب فَهَذَا لَا تعَارض فِيهِ وكلا الْأَمريْنِ جَائِز أَي ذَلِك فعله الْمَرْء حسن
قَالَ عَليّ إِلَّا أَن يَأْتِي أَمر بِأحد الْوَجْهَيْنِ فَيكون حِينَئِذٍ مَانِعا من الْوَجْه الآخر وَقد جَاءَ الْأَمر بِوَضْع الأكف على الركب نصا مَانِعا من التطبيق على مَا بَينا من أَخذ الزَّائِد الْمُتَيَقن فِي حَال وُرُوده وَمنعه مَا كَانَ مُبَاحا قبل ذَلِك وَقد وجدنَا أمرا ثَابتا بِالْأَخْذِ بالركب فَخرج عَن هَذَا الْبَاب وَصَحَّ أَن التطبيق مَنْسُوخ بِيَقِين على مَا جَاءَ عَن سعد أننا كُنَّا نفعله ثمَّ نهينَا عَنهُ وأمرنا بِالْأَخْذِ بالركب
وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَال الصادرة مِنْهُ عليه الصلاة والسلام لَا فِي الْأَوَامِر المتدافعة وَمثل ذَلِك مَا رُوِيَ من نَهْيه عليه الصلاة والسلام عَن الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَالْمَرْأَة وخالتها مَعَ قَوْله تَعَالَى وَقد ذكر مَا حرم من النِّسَاء ثمَّ قَالَ {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} فَكَانَ نهي النَّبِي صلى الله عليه وسلم مضادا إِلَى مَا نهرى الله عَنهُ فِي هَذِه الْآيَة
وَقد سقط هُنَا قوم أساؤوا النّظر جدا فَقَالُوا إِن ذكر بعض مَا قُلْنَا فِي نَص مَا وَعدم ذكره فِي نَص آخر دَلِيل على سُقُوطه وَهَذَا سَاقِط جدا لِأَنَّهُ لَا يلْزم تَكْرِير كل شَرِيعَة فِي كل آيَة وَفِي كل حَدِيث وَلَو لزم ذَلِك لبطلت جَمِيع شرائع الدّين أَولهَا عَن آخرهَا لِأَنَّهَا غير مَذْكُورَة فِي كل آيَة وَلَا فِي كل حَدِيث
فصح أَنه لَا تعَارض وَلَا اخْتِلَاف فِي شَيْء من الْقُرْآن والْحَدِيث الصَّحِيح وَأَنه كُله مُتَّفق وَبَطل مَذْهَب من أَرَادَ ضرب الحَدِيث بعضه بِبَعْض أَو ضرب الحَدِيث بِالْقُرْآنِ وَصَحَّ أَن لَيْسَ شَيْء من كل ذَلِك مُخَالفا لسائره علمه من علمه وجهله من جَهله إِلَّا أَن الَّذِي ذكرنَا من الْعَمَل هُوَ الْقَائِم فِي بديهة الْعقل وَالَّذِي يَقُود إِلَيْهِ مَفْهُوم اللُّغَة الَّتِي خوطبنا بهَا فِي الْقُرْآن والْحَدِيث وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
فَكل ذَلِك كلفظة وَاحِدَة وَخبر وَاحِد مَوْصُول بعضه بِبَعْض ومضاف بعضه إِلَى بعض ومبني بعضه على بعض إِمَّا بعطف وَإِمَّا باستثناء وَهَذَانِ